صحيفة المثقف

محمد المحسن: قراءة فنية في قصيدة الشاعرة التونسية المتميزة منجية حاجي: "سكرة الأرض

محمد المحسن"الشعراء شموع الأدب.والشمعة رمز التضحية فهي تحترق من أجل إنارة طريق الآخرين. والشبه بين الاثنين واضح لايحتاج تفسير"

تنطلق اللغة الشعرية في هذه القصيدة للتعبير عما يُفتعل في النفس من انفعالات،فنجد الذات الشاعرة تُملي على نفسها بعضا من مجازات دلالية متخطية اللغة المعجمية رغم مباشرة الحوار،وتظل لغة السهل الممتنع هي اللغة المهيمنة على النص الموسوم بـ”سكرة الأرض"

حين قراءتنا لهذا النص نلاحظ تصاعد المحتوى الشعري بقدرة الإحالة إلى ما هو أرحب شعرية وأكثر دفقًا في السياق الرمزي.أول ما نقرأ “العنوان” بوصفه أول مفتاح إجرائي يمنح المتلقي اختراق مغالق النص،إذ يمثل علاقة دالة تكثّف البنية الكلية للنص،تظل دلالته أعلى سلطة نصية باذخة الحضور.

ولأن لغة الشعر تتجاوز العزلة لترتمي في أحضان المشاركة،فإن الذات الشاعرة تمنح المتلقي مشاركتها بوحا يختلج النفس بعمق يؤثت لمشاهدة تصويرية آنية حينا واسترجاعية حينا آخر، ويشيد حوارا روحيا يتجلى في عالم خاص تُشخّص فيه القصيدة لتكون هي المخاطَبة الحاضرة وحوارها هو المهيمن على النص.

ما أريد أن أقول؟

 للشاعرة التونسية المتميزة منجية حاجي قدرة على استبطان اللغة وتشكيلها بحيث تعطي أقصى طاقتها في الدلالة على ماتريده وكأنما قد ألينت لها العربية..واللغة ليست صماء بكماء إلا حال استخدامها من قبل أصم أبكم أعمى فساعتها تجدها جامدة ..

وتظهر اللغة أسرارها حال الاجتماع والبناء إذ اللفظ في ذاته مجرد أداة ولا يظهر مكنونه ومعناه بغير اجتماع لذا كان اللفظ في مبني بحيث يكون لبنة من لبنات هذا البناء غيره في معجم ...

ولتكون القراءة شاملة وكاملة لابد من استعراض أعمدة ومقاطع القصيدة كما دونتها الشاعرة:

سكرة الأرض

تصرخ الرّيح في

وجه الماء

للمناجل عشق السّنابل

بأرض تنام على

سكرة الماء

كما للربيع فواكه ..

الإنتظار

لشمس تغسل ورودا

تعبق برائحة النّدى

تمتطي رحيق شذاها

  عيون طفولة

 تطالب الإنعتاق

تطل من أسوار الضّياع

كعطش يراود ضفّة ماء

 بحلم ..فمه عار..

 دون لون

يمشّط أرصفة المواني

بأقفاص تعجّ بشظايا

أمنيات عرجاء

تتكوّر كحفنة ملح على

 شفاه ملها وهن

الإنتظار

لم تكن حيّة ولا ميّتة

بل شفاه توءد بملح الماء

 بنواميس تصارع رمقها

الأخير

تكتب متاعبها على عري

الرّصيف

وترحل إلى  المجهول

تلاعب بقلاعها

 قضبان الريح.

***

(منجية حاجي)

اعتمدت الشاعرة أسلوب بسيط ومتميز. والشعر ليس في تعقيد اللغة. بل اجمل وأفضل الالوان الشعرية تلك المكتوبة بلغة يفهمها الجميع. ورغم ان الشعر لايستعمل اللغة المباشرة فتأمل الكلمات ولألفاظ الواردة في القصيدة تظهر الرمزية واضحة بين مقاطعها ومعبرة بشكل أفصح عن مواقف ظاهرة.

ماذا يعني هذا؟

هذا يعني أن الشاعر فنان يرسم لوحة تشكيلية بالكلمات لن يتذوق جمالها إلا عاشق الجمال. والناقد مرآة من زجاج مجهري يظهر ذلك الجمال لضعاف البصر في شاشة الشعر.والقصيدة كهف من الكنوز والنقد الادبي مفتاح ابوابه.وبواسطته يمكن للقارئ الولوج إلى مخازن القصيدة والاغتراف من معادنها النفيسة.

على سبيل الخاتمة:

 القصيدة-في تقديري-هي عبارة عن حلم عميق لا شعوري،يجب قراءة هذا الحلم بما يتناسب مع كمية الجمال المنبعث من داخله،وتقديمه بصورة تكشف للمتلقي جميع مغاليقه،وتشير الى مواطن الجمال فيه، والإمساك بيد المتلقي وأخذه الى ضفاف هذا الحلم.لذا على الناقد ان يقوم بتفكيك وإعادة تركيب وقراءة الأفكار فيه حتى يصل الى معرفة الغايات التي جعلت من الشاعر يصرّح بمكنونات ذاته، والغوص في اعماق هذه الذات.

وإذن؟

 تناوبت إذا في هذه القصيدة السردية التعبيرية للشاعرة التونسية السامقة منجية حاجي لغة التجريد واللغة التعبيرية والسرد المشحون بالزخم الشعوري، وبلغة قاموسية بألفاظ تعكس ما في روح الشاعرة وما في روح القصيدة، فخلقت لنا بذلك صوراً حيّة برّاقة وببوح عميق.

وأخيرا أتمنى مزيدًا من العطاء والإبداع والتألق المتواصل للشاعرة التونسية - منجية حاجي .

 

محمد المحسن - ناقد تونسي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم