صحيفة المثقف

مصطفى معروفي: خفوت دور الكاتب في المجتمع

مصطفى معروفيلقد أصبح دور الكاتب في المجتمع دورا هامشيا، بل إن الكاتب نفسه صار مغيبا، فلم يعد له ذلك الدور الذي نعرفه عنه في إصلاح المجتمع والعمل على ترسيخ المثل السامية والتبشير بالقيم النبيلة التي تعمل على ترسيخ الأمن واستتبابه، والرقي بالإنسان فكريا وأدبيا إلى الأعلى.إن أسباب هذه الوضعية المزرية التي يعيشها الكاتب هي أسباب متعددة، منها ما هو اجتماعي وما هو سياسي، ومنها - وهذا هو الخطير - ما هو نفسي، فحتى الكاتب نفسه صار غير مقتنع بجدوى الكتابة في ظل ظروف استثنائية يعيشها، لعل أبرزها هو عدم قدرته على التعبير بكل حرية.

لا يسع الكاتب والشاعر بالخصوص أن يعبر عما في داخله إلا في مناخ من الحرية، مناخ تضمنه له السلطة السياسية، وإلا سيكون كاتبا ولكن ليس بالجرعة المطلوبة، أعني كاتبا يقول الذي يراه ويعتقده ولا يخشى من الملاحقة والتضييق عليه والرقابة المسبقة.

هنا يطرح السؤال:

ـ ما هي مواصفات السلطة السياسية التي تضمن للكاتب الحرية؟

والجواب يبدو سهلا وبسيطا للغاية، فالسلطة التي تضمن للكاتب حرية التعبير وتحصنه من غوائلها هي السلطة المنتخبة التي وضع الشعب فيها ثقته عن صناديق الاقتراع، إذ بهذه الثقة من الشعب لا تخاف من الكاتب ولا مما سيقوله عنها، أما السلطة التي أتت إلى مركز القرار بالتزوير وبأساليب غير ديموقراطية فهي دائما في توجس وخيفة من الكاتب، فهي ترى فيه عدوها الذي سيقوض أركانها إن تركت له الحبل على الغارب، ومن هنا نرى مدى المعاناة والتحمل لدى الكتّاب في الأنظمة الديكتاتورية، الصابرين على حظهم التعيس الذي ابتلوا به في سبيل محاولتهم تغيير الواقع السيئ إلى واقع أفضل تحفظ فيه كرامة الإنسان وتصان فيه حقوقه.

في هذا الواقع الموبوء تبدو ثلاث صور للكاتب جلية واضحة في ثلاثة أنماط له نلخصها كالآتي:

النمط الأول هو الكاتب الذي يكابر ويتسمر في الكتابة بصبر ومصابرة، ويسير في طريقه رغم وعثائها، ولا يتنازل أو ينزل عن مستوى ما تتطلبه واجباته إزاء المجتمع بوصفه المعبر عنه والناطق باسمه، وسيقولُ ملاحظ ٌ ما ومن خول لهذا الكاتب التعبير باسم المجتمع فأجيبه بأن المجتمع نفسه هو من خول له ذلك إذا كان بالفعل كاتبا صادق النية نقي السريرة، فتفويض المجتمع له نابع أساسا من إرادة ذاك المجتمع وتطلعه إلى ما هو أفضل.

النمط الثاني هو الكاتب الخانع، الكاتب الذي يضع على عينيه نظارتين ورديتين يرى بهما الواقع على أنه واقع على ما يرام وأن السلطة تحقق الرفاه والسعادة لرعاياها ـ كذا ـ وهذا الكاتب سواء كان في الأصل خانعا أو هو انقلب منحازا إلى السلطة هو كاتب لا يقوم بوظيفة الكتابة باعتبارها تضامنا تاريخيا لا بد أن تكون وعاء لقضايا المجتمع وقضايا الإنسان بصفة عامة.

والنمط الثالث هو الكاتب المتذبذب، لا هو إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، هو مع مصلحته فقط أين تمون أو أين تصورها تكون، وهذا هو الكاتب الانتهازي الذي لا يرى في الكتابة إلا وسيلة لإشباع حاجته المادية ولا تهمه في المقام الأول إلا نفسه.هذا النمط من الكتاب هو أخطر بكثير من كتاب النمط الثاني، لأن النمط الثاني هو متموقع على الأقل، ويبدو واضحا في مواقفه وإن كان يشكل خطورة متمثلة في عرقلة التقدم وإبقاء الوضع على ما هو عليه.

الكاتب المتذبذب لا ثقة فيه، وهو لا ينشد إحراز الثقة في كتابته ولا المصداقية أيضا، وإن كان يرغب في ذلك لا شعوريا حتى يوهم القارئ بأنه كاتب موضوعي وأنه أفضل مما يظنه الآخرون به، ولا يخفى بأن هناك فئة تنخدع به وتسير في ركبه، وقد تتفطن له لكن ربما بعد فوات الأوان.

وعودا على بدء، نقول بأن الكتابة في عصر الأنترنت وإن أعطت الكاتب بعض الشعور بأن رأيه سيصل إلى الجمهور وإلى عمومه فإنها لم تعد ذلك السلاح الذي عهدناه فيها قبل هذا العصر، بحيث كان الكاتب يلاحق قضائيا على أساس أن كتابه يضر الثوابت ويحاكم الشاعر على أساس أن قصيدته أو ديوانه منشور سياسي انقلابي، وكنا نرى في ذلك بأن السلطة السياسية تخاف من الكاتب وتحسب ألف حساب، كما كنا نتصور بذلك أن الكاتب يستطيع أن يغير الواقع، وكنا نقول بأن الكلمة الأدبية أو الفكرية لها نفس قوة السلطة السياسية صاحبة القرار.

ما حدث أخيرا هو أن الكاتب لم يعد هو ذلك الشخص الذي يقف في وجه السلطة، وأالذي قراؤه كثيرون، فقد صار مجرد شخص عادي إلى درجة صار يبحث عمن يقرأ له، وكم تكون فرحته كبيرة عندما يجد قارئا يضع له إعجابا على نص وهو ربما لم يقرأه له أبدا.

كيف فقد الكاتب وضعه الاعتباري وأصبح بلا شأن؟

هذا السؤال مؤرق بالفعل، والإجابة عنه تحتاج إلى تبسيط وتوسع، لأن الكاتب نفسه صارت له سلوكات نرجسية عدوانية في علاقاته بزملائه وقرائه لدرجة أن أصبحت مصدر انحسار دوره في المجتمع وخفوته كمعبر عن آماله ـ المجتمع ـ وطموحاته، مما صار يستحق ببسب هذا يستحق للأسفة الشفقة والرثاء في آن واحد.

 

مصطفى معروفي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم