صحيفة المثقف

محمود محمد علي: العقاد ومنهجه في العبقريات

محمود محمد عليفي الأيام الماضية مرت الـ 132 على ميلاد الأديب الكبير عباس محمود العقاد، إذ ولد فى 28 يونيو عام 1889، وهو أديب كبير، وشاعر، وفيلسوف، ومؤرخ، وصحفي، وراهب محراب الأدب، ذاع صيته فملأ الدنيا بأدبه، ومثل حالة فريدة في الأدب العربي الحديث، ووصل فيه إلى مرتبة فريدة .

ولم تنحصر جوانب شخصية العقاد في الأدب والآراء الإنسانية، في زواياها النظرية والتطبيقية، فشعوره بضرورة دراسة السياسة في بلده العريق، مصر، أدي إلى تواجده في ميادين سياسية شتي فكانت له تجربة ثرية فيها، فلقد تقلد بعض المناصب الحكومية والحزبية، واضطلع بدراسة القضايا السياسية الوطنية والعالمية كالصهيونية، والنازية، والشيوعية، أيضا، والتعليق عليها (1).

وقد سجل التاريخ لعباس محمود العقاد وقفته الشجاعة تحت قبة البرلمان حينما كان نائبا فيه في عهد الملك فؤاد الذي أراد أن يلحق تغييرا في بعض مواد الدستور، فوقف العقاد وقال مقولته الشهيرة والشجاعة: "إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه"، وقد كلفته هذه الكلمة الشجاعة تسعة أشهر من السجن سنة١٩٣٠بتهمة العيب في الذات الملكية،

ولد «عباس محمود العقاد» بمحافظة أسوان عام 1889م، وكان والده موظفا بسيطا بإدارة السجلات، اكتفى العقاد بحصوله على الشهادة الابتدائية، غير أنه عكف على القراءة وثقف نفسه بنفسه؛ ورغم مستوى دراسته هذا إلا أنه اتقن الإنجليزية من مخالطته للسائحين المتوافدين على الأقصر وأسوان، فتمكن من القراءة والاطلاع على الثقافات الأوربية.

لقد كانت ثقافة العقاد واسعة، حيث قرأ في التاريخ الإنساني والفلسفة والأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع، وأطلع على الكثير من الكتب، وبدأ حياته الكتابية بالشعر والنقد، ثم زاد على ذلك الفلسفة والدين. ودافع في كتبه عن الإسلام وعن الإيمان فلسفيا وعلميا ككتاب "الله" وكتاب «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه»، ودافع عن الحرية ضد الشيوعية والوجودية والفوضوية (مذهب سياسي)، وكتب عن المرأة كتابا عميقا فلسفيا اسماه هذه الشجرة، حيث يعرض فيه المرأة من حيث الغريزة والطبيعة وعرض فيه نظريته في الجمال.

سافر العقاد بعد ذلك إلى القاهرة وعمل بالصحافة، وكانت أولى تجاربه فيها مع محمد فريد وجدى في جريدة الدستور اليومية، وبعد توقف الجريدة عاد العقاد سنة ١٩١٢إلى الوظيفة بديوان الأوقاف، لكنه ضاق بها، واشترك في تحرير جريدة المؤيد التي كان يصدرها الشيخ على يوسف، وتركها وعمل بالتدريس فترة مع إبراهيم عبدالقادر المازني، ثم عاد إلى الاشتغال بالصحافة في جريدة الأهالي سنة ١٩١٧وكانت تَصْدُر بالإسكندرية، ثم تركها وعمل بجريدة الأهرام سنة ١٩١٩.

كما عمل العقاد بالعديد من الوظائف الحكومية، ولكنه كان يبغض العمل الحكومي ويراه سجنا لأدبه لذا لم يستمر طويلا فى أى وظيفة التحق بها. اتجه للعمل الصحفي؛ فعمل بجريدة «الدستور»، كما أصدر جريدة "الضياء"، وكتب في أَشهر الصحف والمجلات آنذاك، وهب العقاد حياته للأدب؛ فلم يتزوج، ولكنه عاش قصص حب خلد اثنتين منها فى روايته "سارة".

كتب العقاد الكثير من المقالات وكان يرسلها إلى مجلة فصول، كما كان يترجم لها بعض الموضوعات، حتى أصبح أحد أهم كتاب القرن العشرين في مصر، كما ساهم بشكل كبير في الحياة الأدبية والسياسية، وأضاف للمكتبة العربية أكثر من مائة كتاب في مختلف المجالات، نجح العقاد في الصحافة، ويرجع ذلك إلى ثقافته الموسوعية، فقد كان يكتب شعراً ونثراً على السواء، وللعقاد مجموعة من الدواوين الشعرية، وإذا لم يكتب العقاد سوى عبقرياته لكفاه ذلك ليحتل ما احتله من مكانة فكرية رفيعة، فضلا عن تجربته الرائدة في كتابة السيرة الذاتية، أما عبقرية العقاد ذاته فتكمن في كونه عصامي الثقافة حتى صار جامعة معرفية تمشى على قدمين.

شارك العقاد بقوة في معترك الحياة السياسية؛ فانضم لحزب الوفد، ودافع ببسالة عن "سعد زغلول"، ولكنه استقال من الحزب عام 1933م إثر خلاف مع «مصطفى النحاس». وهاجم الملك أثناء إعداد الدستور؛ فسجن تسعة أشهر، كما اعترض على معاهدة 1936م. حارب كذلك الاستبداد والحكم المطلق والفاشية والنازية.

كان العقاد مغوارا خاض العديد من المعارك؛ ففي الأدب اصطدم بكبار الشعراء والأدباء، ودارت معركة حامية الوطيس بينه وبين أمير الشعراء "أحمد شوقي" في كتابه "الديوان في الأدب والنقد". كما أسس "مدرسة الديوان" مع "عبد القادر المازني" و"عبد الرحمن شكري"؛ حيث دعا إِلى تجديد الخيال والصورة الشعرية والتزام الوحدة العضوية في البناء الشعرى. كما هاجم الكثير من الأدباء والشعراء، مثل "مصطفى صادق الرافعي". وكانت له كذلك معارك فكرية مع "طه حسين" و"زكى مبارك" و"مصطفى جواد" و"بِنت الشاطئ".

تعددت كتبه حتى تعدت المائة، ومن أشهرها العبقريات، بالإضافة إلى العديد من المقالات التي يصعب حصرها، وله قصة وحيدة، هي "سارة". توفى عام 1964م تاركا ميراثا ضخما، ومنبرا شاغرا لمن يخلفه.

اشتغل "العقاد" بالحركة الوطنية التي اشتعلت بعد ثورة ١٩١٩وصار من كُتَّابها الكبار؛ كما عمل مع عبدالقادر حمزة سنة ١٩٢٣م في جريدة البلاغ واُنْتخب عضوا بمجلس النواب، وظل العقاد منتميًا لحزب الوفد حتى اصطدم بسياسته تحت زعامة مصطفى النحاس باشا فى١٩٣٥ فانسحب من العمل السياسي.

وبعد ذلك أسس العقاد بالتعاون مع إبراهيم المازني وعبدالرحمن شكري «مدرسة الديوان» وحين منحه الرئيس جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية في الآداب رفض تسلمها، كما رفض الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة، ثم اخْتير العقاد عضوًا في مجمع اللغة العربية بمصر سنة ١٩٤٠، وقد توفى العقاد في ١٢ مارس ١٩٦٤.

كان العقاد رحمه الله صامدا في أداء الرسالة الحضارية الفكرية، بدراساته وممارساته الواضحة العلنية في هذا الصدد . صبر على النكبات والانكسارات المألوفة التي تحدث لكل أديب ومفكر يري أدبه نبراسا لهداية العقول والعواطف التواقة والمتعطشة إلى الحقيقة، ومؤلفاته وعناوينها تدل على اعتقاده والتزامه بخوض المعارك السياسية، نظريا وميدانياً، أداء لرسالة الأديب الإنسانية والاجتماعية المُصلحة التي تؤدي إلى إصلاح الحياة والأدب والفن كما يعتقد (2).

لقد كان الأديب المصري عباس العقاد رحمه الله عملاقا حقا، برغم أنه لم يحصل على مراحل تعليم متقدمة، فقد اكتفي بالحصول على الشهادة الابتدائية، لكنه عكف على القراءة وطلب العلم، وثقف نفسه بنفسه، وفي هذا درس عظيم في الإرادة والعزم والتحلي بالهمة العالية (3).

لكن كتابات العقاد في الإسلاميات كانت هي الأهم والأفضل، لأنه قدمها في أسلوب معاصر يراعي طبيعة اللغة السائدة في زمانه، ويتماشى مع المستوى الفكري الذي عليه عموم الناس، ولكن بسبب طرحه العميق، وأفكاره الرائدة في فهم الإسلام ومضامينه، وتقديمه بأسلوب جديد، ومنطق ملائم للعصر الذي عاش فيه، فكانت عبقرياته فتحا مهماً في عالم الدراسات الإسلامية، وتناول الشخصيات الإسلامية بأسلوب العالم الضليع، والأديب البليغ (2)؛ ولكن بشكل يختلف عن غيره ممن كتبوا في الإسلام، حيث استخدم في تناول المادة الإسلامية ثلاثة مناهج مختلفة، فحين يكتب العبقريات غيره حيت يترجم للشخصيات، غيره حين ينشئ الدراسات والأبحاث .. فالبحث فيما كتبه العقاد عن الإسلام يقتضي التمييز بين تناوله للعبقريات، والشخصيات، والدراسات ؛ ولهذا يقسم العقاد النوابغ من أصحاب الرسالات والترجمات إلى فئتين فيقول:" إنني علمت من تجربتي في قراءة التراجم وكتابتها: أن النوابغ من أصحاب الرسالات فئتان: فئة تظهر في أوانها، لأن أسباب نجاحها تمهدت، وتم لها النجاح قبل فوات ذلك الأوان .. وفئة أخرى تظهر لأن الحاجة إليها قد بلغت، وهي تظهر لتحقيق تلك الحاجة التي تبحث عن صاحبها وله منها معني يذلل صعابها، ويهدى إلى طريقها (4).

ولهذا فإن الدارس لمؤلفات العقاد الإسلامية يجد أنها تضم ثلاثة ألوان من الكتابات هي: العبقريات، والشخصيات، والدراسات والأبحاث، وإن لكل من هذه الألوان الثلاثة منهجا خاصا، فالبحث فيما تركه العقاد في ميدان العقيدة واليدن يقتضي التمييز بين ثلاثة مناهج استخدمها العقاد في تناوله للمادة الإسلامية، فهو حين يكتب العبقريات الإسلامية غيره حين يترجم للشخصيات غيره حين ينشئ الدراسات والأبحاث (5).

وهنا يقول الأستاذ رجاء النقاش:" لقد بدأ العقاد الكتابة سنة 1910 تقريبا، وكانت الثقافة العربية حبيسة الكتب الصفراء، وكانت هذه الثقافة بعيدة كل البعد عن ثقافة الغرب المعاصر، وكانت هذه الثقافة بعيدة كل البعد ة عن ثقافة العرب المعاصر واستطاع العقاد أن يقوم بدور مذهل في ربط الثقافة العربية بالثقافة الغربية، فأدخل المناهج العلمية الحديثة إلينا واستطاع بذلك أن يغير الموقف الفكري عند العرب.. استطاع أن يناقش قضايا التاريخ الإسلامي بعقلية رجل متحضر معاصر، وبذلك أصبح حديثه مقبولا مقروءا مؤثر على العقول، كل ذلك بعد أن كان الذين ينظرون إلى التاريخ الإسلامي إما مجموعة من الذين يقدمونه ويقلبونه كما جاء كما جاء إليهم بلا تمحيص ولا بحث عن البرهان واليقين، وهلاء كانوا بدون شك مجموعة من الجامدين الذين يساهمون في تعطيل العقل العربي والوقوف به عند حدود قديمة عتيقة .. هذه المجموعة الأولي كان يقف إلى جانبها مجموعة أخرى هي المجموعة التي ترفض التاريخ الإسلامي وتعتبره نوعا من الجاهلية الحضارية يجب أن ننكرها ونتخلص منها إذا أردنا أن نعيش في القرن العشرين . واستطاع العقاد أن يتخلص من جمود العقلية القديمة، كما استطاع أن يتخلص من الإنكار المطلق عند أصحاب العقلية العصرية المتطرفة، هؤلاء الذين أرادوا أن ننقطع عن الماضي تماماً وننصرف عنه، وبذلك أعاد العقاد – ومعه بعض أبناء جيله اللامعين – ونوعا من الاتصال بيننا وبين الماضي وهو نوع جديد ذكي أصيل، فهو اتصال يساعد على الاستمرار واتصال يساعد على التقدم في ميدان الحضارة (6).

باختصار عظمة العبقري عند العقاد هي التي تقول: نحن ولا تقول " أنا" مبتورة الجذور والفروع عما حولها، وحتي لو سمعت منها " أنا" فلا تفهم معناها إلا " نحن"، وآية العبقرية عند العقاد: سبق الرؤية فضلاً عن وضوحها، فآية العبقرية أن تلهم صاحبها ما يحسب اليوم كفراً، ويحسب في الغد حقيقة من حقائق الإيمان والحكمة ومصلحة من مصالح الواقع والعيان، وأجدر عبقرية عنده بإعجاب وتشريف معا: عبقرية يلتقي فيها سداد الفكر بشجاعة الضمير، والدنيا لا تضمن بإعجابها على عبقرية تنفرد بالفكر السديد، ولا عبقرية تنفرد بالخلق الحميد (7).

ويريد العقاد بالعبقرية: الإلهام الرباني، ووضوح الرؤية، والتوقعات في الرأي، والفطنة الواجبة، وبلوغ هذا كله، مجتمعا ومتفرقا، غاية تثير الإعجاب عند من خبروها بالتجربة أو السماع .. ولا يتجاوز الأمر هذا إلى ضلاعة العقول، أو فتوحات العلم .. لأن عصرهم كانت حاجته أشد إلى نور الهدى، وخلق النفوس، وإشاعة قيم جديدة . وقد نجحوا في هذا نجاحا تحويليا نقل قومهم من حال إلى حال يستحق من أجله أن يسمي عبقرية (8).

بل إن العبقرية هي شخصية فذة متميزة بالتفرد الفوقي، شخصية فعالة بذاتها وقدراتها في عصرها، وغالبا ما يتمد قوة أثرها إلى عصور قريبة أو بعيدة، تغيب هي ويبقي الُأثر، والعقاد في كتابته عن العبقريات، يجمع بين فلسفتين متباينتين: هل البطل يصنع التاريخ ؟ .. أم أن التاريخ هو الذي يصنع البطل ؟ .. وهنا يري العقاد بان العبقري كالفلتة التى تنبت على غير قصد في فرع من فروع شجرة الحياة، ث متصبح الفلتة مثلا يحتذي، وقالبا يصب فيه الأنداد والنظراء .. والبطل والعبقري يتشابهان في التفدية بكل شئ في سبيل الغاية التي يقصدان إليها أو ينساقان إليها على غير قصد منهما، والناس ينساقون معهما ولو أهلكتهم مطامع البطولة ومطالب العبقرية، ويفرق العقاد بين العبقري والبطل، بقدر ما بينهما من أفضلية العبقري، فإن البطل قد ينحرف عن الجادة الكبرى مرضاة لكبريائه وسلطانه، ولا يكترث العبقري لجاه أو سلطان إذا حاد به عن غايته، وهي خلق الأمثلة الجدية، والقيم البديعة في أحلام الناس، ثم في واقع الحياة .. حصيلة هذا، أن العبقرية تفرد يؤدي استحالة التساوي بين الناس في المواهب (9).

والعقاد حين يتحدث عن العبقريات في تراثنا العربي الإسلامي، ويكتب فيها يقدمها عن فهم وعقيدة، على أنه نظام كامل يحدد الخطوط لإقامة مجتمع كبير متكامل في مختلف الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية . وهذه الدراسات والأبحاث الإسلامية يغلب عليها في كتابات العقاد أمران: الدفاع عن الإسلام ضد أباطيل خصومه، ثم تقديم الصورة الحقيقية للإسلام (10).

وهكذا استطع العقاد أن يبن دور العبقرية المسلمة في حركة التاريخ، كما استطاع أن يقدم لنا صياغة جديدة للعبقرية الإسلامية من خلال دراسته الواعية للتراث العربي الإسلامي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

..............

هوامش المقال:

1- سردار أصلاني: عباس محمود العقاد أديب خلاق وسياسي عملاق، مجلة الآداب، جامعة بغداد - كلية الآداب، العدد 125، 2018، ص 67.

2- المرجع نفسه، ص 68.

3- محمد بن حسن بدر الدين: ملامح الحكمة القرآنية فى كتابات العقاد الإسلامية، الوعي الإسلامي، وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، س54 ,ع626، 2017، ص 54.

4- المرجع نفسه، ص 55.

5- عباس العقاد: المجموعة الكاملة، المجلد السابع عشر، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ص 213.

6- سامح كريم: إسلاميات، دار القلم، بيروت، ط2، 1977، ص 100.

7- رجاء النقاش: العقاد، مقال نشر بمجلة الآداب، ط2، عدد إبريل 1964.

8- أحمد عبدالرحيم السايح: العبقرية والعباقرة في فكر العقاد، مجلة التربية، اللجنة الوطنية القطرية للتربية والثقافة والعلوم، س 37، العدد 166، 2008، ص240.

9- المرجع نفسه، ص 241.

10- محمد سعيد الصمدي: عباس محمود العقاد وفكره الاسلامي، جذور، النادي الأدبي الثقافي بجدة، المجلد 9، العدد 21، 2005، ص 336.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم