صحيفة المثقف

صالح الرزوق: الواقع بثياب سريالية.. قراءة في قصص التونسي محمد نجيب بوجناح

صالح الرزوقيبدو لي أن نصوص مجموعة  “أحلى” لمحمد نجيب بوجناح هي مجرد اختزال أو اختصار متعمد لتجربة الذهن الموضوعي في معركته ضد واقعه، وليس ضد الواقع الطبيعي. وما يرجح هذه القناعة أنه يغلب على النصوص الجانب الذهني والتراكيب المقصودة. فالمشاهد، رغم أنها قصيرة، ولا تحتل مساحة واسعة، فهي تعبر عن مرحلة من مراحل الذات. وبالمقابل إنها تنتهي غالبا بمفارقة ذات مغزى، وتضع بين الشخصيات ورحلتها الداخلية أو النفسية عازلا يصعب اجتيازه. ولا يوجد في الأرشيف العربي ما يشبه هذه التجربة غير “أصداء السيرة الذاتية” و“أحلام فترة النقاهة” لنجيب محفوظ. وتجدر الإشارة أنها لا تنتمي لعالم همنغواي الذي أشار له في المقدمة. فأن يكتب همنغواي قصصا من ست كلمات لا يجعل ومضات ولمحات بوجناح مثله. هذا إذا ثبت أنه من كتب سلسلة تلك اللمحات، وليس بيتر ميلر كما تقول ميشيل ديجاك في مقالة حديثة حول الموضوع. ومهما كانت الحقيقة لقد ورث همنغواي تقاليد الفن الطبيعي للمكان، ولم يضخم ويبالغ إلا بصفات البشر سواء كانوا من النساء أو الرجال. في حين صور محفوظ أمكنته وكأنها منتجة لشخصياته. بمعنى أنه ساوى بين العاقل وغير العاقل بطرق سريالية بعيدة عن المنطق الواقعي. ثم إن همنغواي اختار لأبطاله ميدان الصراع وساحات القتال، مثل حلبة مصارعة الثيران في قصص (نساء بلا رجال) أو سفاري كينيا ومطاردة الخراتيت والأفيال في كتابه الوثائقي (تلال إفريقيا الخضراء). لكن محفوظ اختار الحارة الشعبية والبيت والشارع الخلفي من أحياء القاهرة القديمة. وقد التزم بوجناح بهذه القاعدة، واهتم بأدبيات المدينة الداخلية، ومن ضمنها أضرحة الأولياء (قصة: ضحكة الولي الصالح - ص18) وباحات المدارس (قصة: أمينة والثعبان - ص21)، والبيوت الشعبية الضيقة والخانقة (قصة: الحلم الحرام - ص27)، وهكذا. مع ذلك فقد ترك شريطا ساحليا مفتوحا على البحر. ومثل هذا الشريط لم يكن حريا به توسيع البيئة أو هندسة المكان بقدر ما عمل على توسيع أحلام وتكهنات الشخوص.

ويمكن القول إن البحر هو البطل الأول والأخير في هذه المجموعة. فهو امرأة في قصة (الصنم - ص11)، له كل صفات واستاطيقا النساء مثل “العيون الصافية، والضفائر الشقر، والغمازات المتموجة”. لكنه أيضا رجل أوديبي وسفاح يبتلع كل من ينافسه كما هو الحال في قصة (أحلى - ص24). وأحيانا هو مغارة تأوي إليها الجنيات (انظر قصة الصنم أيضا - ص11).

لقد اختار بوجناح أن يكون البحر هو وجها الورقة. من طرف أنثى لديها القدرة على الغواية، ومن طرف آخر قوة مذكرة طاغية وقاتلة. لكن ما لا يغيب عن ذهني أنه عقم الطرفين من أعضاء التكاثر أو الإنجاب. فالمرأة لديه لا تزيد على دور لوحة فاتنة تسر النظر. بالمقابل يأخذ الرجل دور معدة تلتهم وتبلع (وأوضح دليل على ذلك طريقته في الإزاحة. لقد ابتلع الأب لأنه أحلى من السكر، وليس لأنه يحتكر أحضان أو سرير الأم).

ولا ينجو الابن من هذه اللعنة. فهو أيضا دون أعضاء ذكورة، ولا يتقن غير مهنة الصياح والاحتجاج. ولذلك تيأس منه الأم العظيمة (إن استعملنا مفردات فرويد)، وتحرص على قتله في قصة (قطة النفاس - ص39). ولا ضرورة للتذكير أنه لا يقصد الأم القضيبية بل الساحرة الشمطاء العجوز التي تعتني بالصغار ليكونوا وجبتها في مواسم القحط. وكما أرى إن بوجناح يختصر دورة الحياة بدورة التهام أو افتراس في مجتمع غابوي، وفيه تكون سكين المطابخ - البديل الفرويدي عن الأسنان - والفم - وجهاز الهضم - هي الرمز المقابل للأتون الذي تطهو به الساحرة ضحاياها. ولكن لا يمكن أن أجد في ذلك علاقة مباشرة أو غير مباشرة مع الجنس الفموي. فقصصه تخلو تماما من الشخصيات التي تدخن (السجائر والنراجيل). وهي علامة من علامات الضجر عند المرأة البالغة (كما في أعمال فرانسواز ساغان وكوليت الفرنسية). ويقابلها عادة مص الإصبع عند الأطفال. وأصلا هناك فرق أساسي بين الولوج والتناول. وهما على طرفي نقيض لاهوتي أيضا. ومن المؤكد أن كل أقاصيص بوجناح وقفت عند فلسفة “الحبل” بلا دنس، حيث أن كل أنواع النشاط مجردة، أو مودعة في كيس الأمنيات.  

3061 أحلىعموما تتكرر ظاهرة امتناع الليبيدو عدة مرات. فبطل قصة (الحلم الحرام - ص27) يحلم بمضاجعة زميلة له، ويشتهي امرأة يراها في الزقاق، لكنه يتوقف عند حدود وعي الرغبة.  بمعنى أنه يلاحظ ولا يفعل أو أنه يرى فقط ولا يتحرك. ويعترف بذلك علنا فيقول: “لن يتعدى الأمر تهويم خيال”. وحتى هذه الأحلام تخضع لمراقبة صارمة. وحينما عزم على تقبيل جارته في المنام، استيقظ على ضربة خنجر ثم مات. وفي خاتمة المطاف يدعو جسده إلى غيبوبة مؤبدة، لأن الجسد، كما يقول بالحرف الواحد: “لا يصمد إلا في اللامبالاة” (ص29). 

لقد اختار بوجناح لأبطاله عقوبة أشد فتكا من عقوبة سيزيف. فالرغبة لم تكن مجرد صخرة عليهم تحملها فقط، بل معايشة عذابها أيضا. وللتعويض عن هذا الحرمان سمح لهم بالمشاهدة (واستعمل رمزية العين ومرادفاتها - وهي إشارة أوديبية تدل على امتلاك خارجي مقموع).  ثم أجاز البلع والقضم (واستعمل رمزية الفم - وهي إشارة أوديبية بدائية تحيل دائما للجنس الفموي). وعبر عن ذلك بشكل مختصر في قصة (نار الأسئلة - ص40) من خلال حوار عقيم، يستبعد به (الجسد - موضوع الرغبة)، ويستعيض عنه بـ (العاطفة - ما وراء الموضوع). وبهذه الطريقة يتحول الليبيدو (أساس غريزة التكاثر) إلى نشاط فموي (له صبغة أنانية - إشباع من طرف واحد). ولذلك حين تسأله الحبيبة: ماذا أكلت البارحة؟، يرد بلا تردد: حبك. (ص40).

ويعود لنفس النغمة في قصة (رماد - ص49). فالرجل يشعر بالعجز ويطلب النجدة من الشيطان، لكن حتى هذا لا يستجيب له (تذكير آخر: كان إبليس هو البديل عن الأب البطريركي الذي ينفر منه أبناؤه - انظر إبليس في التحليل النفسي لفرويد).

وكذلك الأمر بالنسبة لقصة (وهم الشاعر - ص51). حين تقع عينا الشاب على امرأة يرى أنها مثل (منية تمشي على قدميها). بمعنى أنها فراغ وجودي آخر، تستدل منه على خصاء أو عنة لا شفاء منها.

وللتعويض على عجزه يلجأ لحيلة تقليدية وهي التهوين من موضوع الرغبة، ويصورها في خاتمة قصة (الطريق - ص52) بشكل وردة ذابلة تدوسها الأقدام. وهي طريقة مكشوفة يهرب بها العصاب من مواجهة نفسه. وتوجد سوابق في هذا المضمار، ومنها خرافات إيسوب. وبالذات قصة الثعلب الذي يقول عن العنب المرتفع إنه حامض. 

غير أن اللاشعور الماكر (وهو تعبير للصديق الدكتور حسين سرمك حسن) سرعان ما ينقلب على نفسه، ويتحول لتصعيد. وهذه أداة أسلوبية لتنظيف الدنس الذي يلازم الغرائز والليبيدو.  وربما لهذا السبب اختار بوجناح أن تكون شخصياته على تناقض واضح مع أمكنته. فإذا كانت الأحداث تدور في مناطق شعبية مفتوحة، كان أبطاله، غالبا، من بين النخبة أو من الماندارين إذا استعملنا لغة سيمون دوبوفوار. وهكذا يقفل بطله المتشائم والعاجز الدائرة حول نفسه، ويلجأ لحصونه البورجوازية، آخر ملاذ له من التحولات التي تضرب العالم، ولا يسعه إنكارها أو الاعتراف بها. 

 

د. صالح الرزوق

..................

* صدرت مجموعة “أحلى - مائة قصة قصيرة جدا” عن دار الاتحاد للنشر والتوزيع في 109 صفحات. تونس. 2021. ومحمد نجيب بوجناح مهندس صناعة وكاتب تونسي من مواليد سوسة. وله مجموعة مؤلفات في الشعر والمسرح والرواية.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم