صحيفة المثقف

جودت العاني: حوار ميتافيزيقي في زمن أجوف..!!

- إلى أين أنت ذاهب؟ ألا تخشى شيئًا أيها الشاب.. إرجع إلى بيتك فورًا إرجع …

كان ذلك المساء قد تحدر من وراء الكثبان الرملية، التي بانت بلون العقيق اليماني القديم وهو يضفي مسحة من الجمال يصعب وصفها وخاصة حين يمتزج اللون البرتقالي المحْمَرْ للشمس وهي تختفي بين تلال الرمال المتموجة كالأفعى..

- ولكن، لماذا ياعم؟

- إشششش، أسكت، لكي لا تسمعك أيها الأبله.. فهي في هذا الوقت تخرج.. لتجفف شعرها وتمشطه على حافة ذلك البئر.. ولكن ما ان تسمع دوي العجلات حتى تختفي في القعر .

- عن أي عجلات تتحدث، وعن أي فتاة تخرج لتجفف شعرها.. قاطعه..

- أسكت، ألا تسمع الدوي يقترب، إنها عجلات تدور وتلف ذهابًا وإيابًا نحو البئر، إنها لا تكف عن الدوران، ومن الصعب أن تعرف الأتجاهات من كثرة الخطوط والتقاطعات.. ولكن بحدسي أعرف من أين تبزغ الشمس وإلى أين تغرب.. أسمع جيدا أيها الشاب، في الليل تبدأ العربات تسير تحت جنح الظلام بسبب حرارة الرمل عند الظهيرة.. ولكنك لا تراها، رغم أنها تحمل فوانيس معلقة تتأرجح لتنير الطريق إلى البئر.. وفي الصباح لا ترى هناك سوى خطوط العجلات تتقاطع ورائحة نفاذة مقرفة سرعان ما تتناثر بفعل الرياح، ولكنك لا تعرف من أين جاءت وإلى أين ذهبت.. إنها محنة التيه في صحراء الذاكرة حين تغيب عنها الحقائق وتتجسدها الأشباح التي تحوم ليلاً حول البئر.

وقبل أن يفتح فمه ليسأل …

- إياك يابني أن تذهب إلى هناك، إياك؟

وتابع يقول.. أني في الحقيقة أريد أن أهمس في اذنك.. عند الصباح لن ترى شيئا هناك سوى هالة تتحلق فوق الآبار لونها أبيض مغبر، وفي الليل لا ترى في السماء أثرًا للنجوم.. وإذا أردت أن تراها.. فهي تخرج عند الشفق وقبل الغسق تجفف شعرها وتمشطه لبضع دقائق ثم تختفي في القعر.!!

صعق الشاب وهو يستمع بدهشة عن عجلات ترسم خطوطا على الرمال وحورية تخرج من البئر لتمشط شعرها وهالة تحجب نجوم السماء في الليل.. وتساءل..

- نعم فهمت ما تعنيه أيها العم … وقبل أن يكمل..

- لا ، إنك لم تفهم شيئًا أبدًا مما قلت .

- ولكن، كيف عرفت ذلك بحق السماء؟

- لقد عرفت من شرودك ومن عينيك.. إنك أساسًا لم تكن معي لتفهم.. وعلى أي حال، هل تريد أن تفهم؟

- نعم أريد أن أفهم ، ولكن، قل لي ماذا تقصد بأن ألتزم الصمت وأن لا أجعلها تفزع وتختفي في جوف البئر.؟

- وهل تريد فعلاً أن تقترب منها؟

- نعم ، أريد أن أراها وهي تجفف شعرها؟

- وهل أنت شغوف لرؤيتها؟

- نعم..!!

- ولكن، قد لا تكون جميلة.. قد تكون في هيئة لا تطاق؟

- ألم ترها أنت من قبل؟

- رأيت شبحها فقط ثم اختفى حين بدأ دوي العجلات يقترب.!!

- يقولون ، وقبل أن يكمل …

- من هم ؟

- وجهاء القوم هناك.. أن هذا البئر قد ألقيت فيه الكثير من الجثث، حتى أن دماؤهم القانية طفحت وراحت تنساح بين الوديان والكثبان، وتلقفتها الرمال وابتلعتها في جوفها ولم يعد لها من أثر.. ولكن البئر ظل ساكنًا بالدماء القانية ثم تحول لونها إلى اللون الأسود، ومع ذلك قيل أنها تخرج لتجفف شعرها الفاحم كالليل البهيم.. هل فهمت؟

أطرق رأسه إلى الأرض وأخذ يعبث بإصبعه في الرمال دون أن ينبس بكلمه …

- أاااه ، ياإلهي، إنك لم تفهم شيئًا مما قلت.. لماذا يا بني، ماذا جرى لك؟

- فهمت ما ترمي إليه يا عم، ولكن أود أن أسألك هل العجلات التي تأتي مزدحمة صوب البئر تحمل براميل فارغة أم إنها عجلات فارغه لا تحمل غير الصرير؟

- الآن، أدخلت أصبعك في جحر الأفعى!!

- ولماذا تحتسب إن الأشارة هنا مخاطرة؟

- أسكت من فضلك أسكت.. لقد ظهرت الآن ، دعها تكمل، ولم يتبق على هبوط الليل سوى دقائق معدودات قبل أن يقترب صرير العجلات لملء البراميل.. إن حارسة البئر لا تستطيع منعهم.. هل تعلم انهم لصوص محترفون.. يكتسحون الأسوار دون إعتراض.. قل لي، هل تعرف من دبر رمي جثث القتلى في قعر البئر طيلة هذه السنين الطوال حتى قبل أن تولد أنت وأنا ومن قبلنا، وهل تعلم متى تكف العجلات عن الصرير والدوران ليل نهار حول البئر؟!

- أعرف إنك بدأت تفهم.. نعم ، حين يختفي اللون الأسود من ذلك البئر؟

- ولكن كيف تعرف أن البئر لم يعد فيه شيئًا سوى الصدى وصفير الريح؟

- نعم، أعرف حين لمْ تعد جنية البئر تخرج لتجفف شعرها على حافته.!!

***

د. جودت العاني

05/12/2021

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم