صحيفة المثقف

محمد سيف الإسلام: سيميائية الخطاب السّردي في رواية (سيّدات القمر) لجوخة الحارثي

محمد سيف الاسلاممقدمة: يهدف هذا البحث المعنون ب: « سيميائية الخطاب السّردي العُماني رواية (سيّدات القمر)1 (للأديبة جُوخة الحَارِثي) 2 (نموذجاً»، إلى تحليل البنى السردية من منظار المناهج النقدية الحديثة، التي أولت النص الأدبي اهتماماً بالغاً، وزودت الناقد بأدوات إجرائية سمحت له باكتشاف عوالم النص، وطاقاته التواصلية.

وينضوي هذا البحث ضمن اهتمامنا بتحليل الخطاب الروائي، ورصد جماليات النص الروائي العُماني من خلال رواية شائقة، ويتخذ من المنهج السيميائي نبراساً لإبراز سيميائيات الخطاب السردي العماني، فالقراءة السيميائية تبين الأنظمة العلامية التي يُبنى عليها النص الإبداعي، وتسعى كذلك إلى إعادة صياغة دواله، ومدلولاته، عن طريق تركيز الاهتمام على مستويات الدلالة، وطرائق تولد المعاني.

وقد وقع اختيارنا على نص روائي عُماني متميز، وثري (سيّدات القمر للأديبة العُمانية الدكتورة جُوخَة الحَارِثي)، يُفيدنا في تقديم قراءات كثيرة، ويسمح بالغوص في خبايا النفس الإنسانية، فهو يكشف النقاب عن جوانب مهمة من مراحل تاريخ عُمان، فقد اهتمت الرواية بإبراز جملة من التحولات، وبينت اختلاف الرؤى، والتوجهات بين الأجيال المتعاقبة في المجتمع العماني، ووظفت التاريخ، وبينت بعمق خصائص المجتمع العماني، وأبرزت تحولاته من زمن إلى آخر من خلال الأحداث المتلاحمة، والعلاقات المتشابكة التي تدور في قرية عُمانية (قرية العوافي) .

أولاً: سيميائية العنوان:

يندرج العنوان ضمن المتعاليات النصية، حيث إنه يؤشر إلى بنية معادلية كبرى، مما يسمح باختزال النص عبر علاقة توليدية تنهض بالتحفيز الدلالي، وتكون شاهدة على انسجام عناصر الخطاب، وتحقق جملة من الوظائف المرجعية المبئرة للموضوع، من بينها الوظيفة الإفهامية التي تستهدف المتلقي، والوظيفة الشعرية التي تحيل على الرسالة ذاتها (3).

ولقد أولت السيميائيات العنوان في النصوص الأدبية، أهمية بالغة، كونه يعد علامة إجرائية تسمح بمقاربة النص، واستقرائه، والغوص في تأويله، وتفسير دلالاته، ويعد العنوان نواة، أو مركزاً للعمل الروائي، يمده بالمعنى النابض، كما أنه يظل الموجه الرئيس للعمل الإبداعي، ومن خلال جوانبه الإحالية، والمرجعية، فهو يتضمن -في أغلب الأحيان-جملة من الأبعاد التناصية، وله قيمة كبيرة في الإسهام في إضفاء معنى عليه، وإثارة اهتمام المتلقي، وتوجيه قراءته، وهو يعد من أهم عناصر الخطاب المقدماتي كونه يشكل مدخلاً رئيساً في قراءة النص الروائي، وهو أول علامة لغوية نتلقاها في التواصل، والتفاعل مع العمل الإبداعي، ولا ريب في أن اختيار العنوان في عمل روائي معين ليس بالأمر الهين، فالعنوان يعد بالنسبة إلى القارئ مرآة للأحداث التي سيتابع مجرياتها في العمل الروائي، ولذلك فالعنوان يخضع لانتقاء دقيق من حيث الصياغة (التكثيف، والاختزال)، والوضوح (المعنى، والدلالة)، إضافة إلى التشويق، والإثارة، كما ينضاف إلى هذه العوامل الطرائق التي كتب بها العنوان (الرسم، والخط، والشكل، واللون)، التي تعد في منظار السيميائية تشخيصاً لأهم محاور العمل الأدبي، والذي يعد بمثابة حياة متخيلة، أو حياة داخل النص، الذي يتوازى مع الواقع، أو يختلف مع عوالمه، بيد أنه يظل في منظار جملة من المناهج النقدية صياغة جديدة للحياة، وبناء لعالم جديد، حيث إنه يقدم إلى القارئ ما هو ممكن الوقوع، وكأنه وقع بالفعل، فالعالم الروائي يشكل لنا عالماً خصباً، ويبرز ما يحدث في الواقع من مواقف، وعوالم متناقضة، وبالاعتماد على المفهوم الذي استخدمه (باختين)، وهو مفهوم (العتبة)، والذي استخدمه جملة من النقاد، «ولتبسيط ذلك ننطلق من تقاليدنا الاجتماعية التي نستعمل فيها كلمة (العتبة) التي تعني مدخل المنزل على شكل مصطبة حجرية مختلفة الأحجام، أو قد تتخذ العتبة أشكالاً أخرى جمالية، أو معمارية، فالعتبة عادة، فاصل بين داخل المنزل، وخارجه، أي فاصل بين عالمين، وفي الرواية نجد العتبة الأولى مجسدة في العنوان.العنوان عتبة بين خارج النص (العالم الواقعي)، وداخل النص (الرواية)، وعلى القارئ أن يفتح باب الرواية مجتازاً عتبتها، بعد أن ترك وراءه العالم الواقعي، المتمثل في العنوان الرابط بين الداخل والخارج»(4).

ولا ريب في أن اختيار العنوان في عمل روائي معين ليس بالأمر الهين، فالعنوان يعد بالنسبة إلى القارئ مرآة للأحداث التي سيتابع مجرياتها في العمل الروائي، ولذلك فالعنوان يخضع لانتقاء دقيق من حيث الصياغة (التكثيف، والاختزال)، والوضوح (المعنى، والدلالة)، إضافة إلى التشويق، والإثارة، كما ينضاف إلى هذه العوامل الطرائق التي كتب بها العنوان (الرسم، والخط، والشكل، واللون)، التي تعد في منظار السيميائية تشخيصاً لأهم محاور العمل الأدبي، والذي يعد بمثابة حياة متخيلة، أو حياة داخل النص، الذي يتوازى مع الواقع، أو يختلف مع عوالمه، بيد أنه يظل في منظار عدد من المناهج النقدية صياغة جديدة للحياة، وبناء لعالم جديد، حيث إنه يقدم إلى القارئ ما هو ممكن الوقوع، وكأنه وقع بالفعل، فالعالم الروائي يشكل لنا عالماً خصباً، ويبرز ما يحدث في الواقع من مواقف، وعوالم متناقضة.ويذهب بعض النقاد إلى أن العنوان يشكل ثاني أهم عتبات النص بعد اسم المؤلف، وقد لقي إقبالاً متزايداً، من حيث الاهتمام بدراسته، وتحليله في الخطاب النقدي الحديث، فهو يمثل مكوناً داخلياً يكتسي قيمة دلالية لدى الدارس، ويوصف بأنه سلطة النص، وواجهته الإعلامية، إضافة إلى أنه يؤشر على دلالات معينة، ويوظف بصفته وسيلة للكشف عن طبيعة النص، والإسهام في فك غموضه(5).

وتظل دراسة العنوان-سواء في الشعر أم في القصة- معلماً بارزاً من معالم المنهج السيميائي، انطلاقاً من أن «العنوان هوية النص التي يمكن أن تختزل فيها معانيه، ودلالاته المختلفة.ليس هذا فحسب، بل حتى مرجعياته، وأيديولوجيته، ومدى قدرة مبدع النص على اختيار العنوان المغري، والمدهش، والممثل لنصه. لهذا السبب عد العنوان من أهم عناصر النص الموازي التي تسيج النص، وكذا المدخل الذي يلج من خلاله القارئ إلى حظيرة النص، إذ يحتل العنوان الصدارة في الفضاء النصي للعمل الأدبي فيتمتع بأولوية التلقي.

وطالما أن السيميائية لا تبحث عن الدلالة فحسب، بل أيضاً عن طرائق تشكيلها، فإن الدارس للعنوان-بالإضافة إلى بحثه عن الدلالة-يحفر بنية العنوان، ومضامينه للوقوف على طريقة مبد النص في صنع عنوانه، ولا مناص للدارس هنا من اللجوء إلى التأويل، لأن العنوان-حسب امبرتو إيكو-هو للأسف منذ اللحظة الأولى التي نضعه فيها مفتاح تأويلي »(6).

وقد نسوّد صفحات وصفحات عن العنوان، وأهمّيته، وتعريفاته، وحضوره في الدّراسات النقدية الحديثة، وعدَّه قطعة عامّة من قطع مكونات النّصّ لسانياً، واصطلاحياً، وتداولياً، وذلك من شأنه أن يصرفنا عن الموضوع الذي نحن ماضون فيه، ولذلك لا نرى داعياً في المُضيّ قدماً في مناقشة هذه الإشكاليّة، وإذا رغبنا في النفاذ إلى البنى الدلالية العميقة لهذا العنوان، الذي اختارته الأديبة العُمانية جوجة الحارثي لروايتها (سيّدات القمر)، فإننا نستهل قراءتنا السيميائية لهذا العنوان بطرح مجموعة من الأسئلة: لماذا انتقت هذا العنوان بالذات؟ وهل تم اختياره عن قصد؟ أم أنه جاء بصورة اعتباطية؟ وهل ينسجم هذا العنوان مع المضامين التي ألفيناها في النص السردي؟

إن هذا العنوان يُحيلنا على دلالات لطيفة، ونلاحظ أنه ينقسم إلى معلمين لغويين:

-المعلم الأول: «سيّدات»، فالشق الأول من العنوان هو نتيجة عملية اشتقاق لغوي أصلها هو الفعل: «ساد» سيادة، وسُؤدُداً: عظم، ومجد، وشرف...

-المعلم الثاني: «القمر»، وهو ينصرف من حيث دلالته اللغوية إلى الفعل «قمر»، وأقمر الهلال: صار قمراً، والقمر: الكوكب السيار الذي يستمد نوره من الشمس، ويدور حول الأرض، ويضيئها ليلاً، و قمرت الليلة قمراً: أضاءت بنور القمر، وقد درج أهل اللغة على ربط«القمر» بالضياء، والإشراق، ولذلك يُقال: وجهٌ أقمر: مشرقٌ، و شبيهٌ بالقمر، والقمِرُ: هو المضيء.

إن مقطع العنوان يتسم بوضوح المعنى، و يُساهم في تشويق المتلقي إلى معرفة المقاصد الجمالية التي ترمي إليها الروائية، لدى توظيفها لهذا العنوان الشائق، وأوّل ما يخالج فكر المتلقي جنوحه إلى أسئلة متشابكة مُلفتة، فالقارئ سيتساءل من هن السيدات، و ما هي العلاقة التي تجمعهن بالقمر، وسيتبين للقارئ بعد تتبع أحداث الرواية أن القمر مجسد في إحدى شخصياتها، وهي امرأة تلقب بالقمر، إذ يتعلق الأمر بشخصية المرأة الجميلة (نجية)، وهي شخصية بارزة، أسندت إليها بعض الوظائف السردية التي تتصل بالمحبة، والعشق، والتحرر.

إن بعض الأفكار الواردة في مقاطع الرواية، لها صلات وثيقة بالعنوان، بل إنها في بعض المقاطع من الرواية ترتبط به ارتباطاً وثيقاً، فالكلمة الأولى في العنوان هي (سيّدات)، والرواية تحتفي بشخصيات نسائية، كما أنها تتوجه في بعض المحطات توجهات رومانسية تتعلق بدلالات (القمر)، الذي له الكثير من المداليل، والرموز المتعدّدة، فهو رمز لعالم متغيّر، ورمز للأمل، والطموح، وهو مصدر للتّأمل، ومصدر للمناجاة، تشبه به المرأة الجميلة، كما أنه مرآة يتصل بجملة من الأساطير، منها أن القمر رمز الأنوثة، وأن الناس هم أبناء القمر.

ولو جنحنا إلى فرضية أن اختيار الأديبة الدكتورة جوخة الحارثي لعنوانها ليس أمراً بريئاً، بل إنها ترمي من ورائه إلى إيصال رسائل معينة إلى المتلقي، حيث يتضافر الشكل، والمضمون في إيصالها، فيمكن القول إن هذا العنوان يؤشر إلى دلالات تتصل بمفاهيم محددة، فاسم السيدة يُطلق عادة على كل امرأة متزوجة، كما يتصل كذلك بالرفعة، والعلو، فهو يُطلق على المرأة ذات المنصب، أو المركز، أو المرأة التي تمتلك صفة رسمية، ومن جانب آخر، فله علاقة بالسيادة، والملك، ويرتبط بالاحترام، وفرض النفس، ومن بين الدلالات كذلك التي تتصل بالسيدة الجرأة، والشجاعة، فالسيدة هي المرأة الجريئة.

ومهما يكن، فإنّ بنية العنوان لا تحمل في وشيجتها تضاداً، أو صراعاً حاداً، ويتبدى أن من بين الدلالات المتخفية وراء هذا العنوان (سيّدات القمر) هي تلك الصلة الوثيقة، بين مفهوم السيّدات، و معنى القمر، فكلاهما يرتبط بالعلو، والرفعة، حيث إن القمر يُرمز به إلى السمو، والإشراق، ومدار الاهتمام، والتجلي، والوضوح، وهو يحتوي على حرف (الميم) الذي يتعلق بالرفعة، والسمو، فهو حرف السماء، كما يذهب نحو هذا التوجه الباحث إياد الحصني، إذ يدل على كل شيء مادي، أو حسي موجود في السماء، أو آت من السماء، «فإذا كان شيئاً مادياً كانت الكلمة الدالة على اسمه تحوي حرف الميم، ضمن حروفها للدلالة على أن هذا الشيء من مكونات السماء، مثل: سماء-شمس-نجم-قمر-غيم-أو للدلالة على أن هذا الشيء يأتي من السماء، مثل: مطر-ماء، وكذلك الأشياء الحسية التي يعتقد أنها تأتي من السماء، أي من القوة الإلهية التي في السماء-الله عز وجل-تكون الكلمة الدالة على اسمها تحوي حرف الميم، للدلالة على أن هذه الأشياء تأتي من السماء، والقوة التي داخل السماء، مثل: موت-ألم-علم-نعمة...»(7).

ومن بين الدلالات الأسطورية التي يمكن فهمها من توظيف (القمر) في عنوان الرواية، أنه يرمز إلى المرأة، حيث إن هناك أسطورة تشير إلى أن القمر كان فتاة اسمها رابية، و تعيش على الأرض بين أهلها . أحبها رجل الشمس نويل، و لكنها تصدت له، فقرر معاقبتها، ولو جئنا إلى مساءلة كل ما يتعلق برمزية القمر، لوجدنا دلالة القوة، حيث يتبين لنا في رواية (سيّدات القمر)، وجود بعض الشخصيات النسائية اللائي يتسمن بالقوة، ويقررن الانتقام، مثل شخصية (خولة) التي جعلتها الكاتبة في الرواية تنتقم من ابن عمها (ناصر)، و تقرر الانفصال عنه، وهذا ما يؤشر إلى أنها سيدة نفسها، وتصدر أفعالها عن ذاتها بكل قوة، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن (القمر) يبدأ بحرف القاف، الذي هو حرف القوة، فهذا الحرف يعني القوة، وهو«يدل على معنى القوة، فإن وجد في كلمة، فإن هذه الكلمة تعني أنها اسم لشيء مادي، أو حسي قوي، أي يتمتع بصفة القوة، مثل: قوة-قسوة-قدرة-طاقة-قضاء-قصاص-حق.كما أن الأفعال التي تتطلب لتحقيقها وجود القوة، فالكلمة التي تدل على هذا الفعل تحوي ضمن حروفها حرف القاف، للدلالة على ذلك، مثل: قاتل-قتل-قدر-قمع-قطع-صعق-قص-قضى-قلع-حق-حقق-خنق-قلب»(8).

و بالانزياح نحو الجانب الأدبي، فإننا نكتشف أن القمر، شكل رافداً مهماً للإبداع لدى الكثير من الشعراء، والروائيين، والعنوان (سيّدات القمر)، كأنه إشارة إلى سيدات عمانيات يحملن المشعل، وهن يتخطين الدروب الوعرة، والشائكة التي تحفل بها تفاصيل الرواية، كما أننا نستشف من العنوان رمزية ترتبط بالحزن، حيث إن القمر يتصل في بعض جوانبه السيميائية بالحزن، والشجن، ويمكن أن نستحضر في هذا الصدد عنوان ديوان الشاعر السوري محمد الماغوط (حزن في ضوء القمر)، وقد لاحظنا أن الأفكار الواردة في أحداث الرواية لها صلة بالحزن، فقد جعلت الروائية أغلب شخصياتها مأزومة، وحزينة، كما أن توظيف القمر في العنوان له اتصال بالمؤانسة في السهر، إذ أنه المؤنس للساهرين، والعشاق في الليل، فكأن القمر هو الذي يجلب للسيدات الأمن، والطمأنينة بعد رحلة شاقة مؤلمة، ونعتقد أن الأديبة جوخة الحارثي وظفت القمر في عنوانها لترقى به إلى جماليات أسطورية، ورمزية، وروحية موحية، بفضلها يتم الارتقاء من حال الشقاء، والعناء، إلى عوالم تتصل بالنعيم، والسلام.

وأياً ما يكن الشأن، فإننا نرى أن الكاتبة قد وفقت إلى أبعد الحدود في انتقاء عنوان متميز يطفح بالجمال الغامر، و يتسم بكثافة رمزيته، و له أبعاد أسطورية، وإيحاءات عميقة، وهو يتعلق في بعض مكوناته الدلالية، بكل ما له صلة بالعظمة، والإشراق، و له سمات دالة على مظاهر الجمال، والحب، والأمل في الذهنية الشعبية، كما له دلالات تتعلق بالضياء، والنور...

ثانياً: سيميائية الغلاف:

ينظر إلى الغلاف في علم السيمياء بوصفه لوحة، ضمن معمار النص الأدبي، تشتغل على أساس أنها صفحة تتميز عن غيرها من الصفحات المشكلة للنص المتن بطابعها الدلالي الأيقوني، وبتنظيم العلامات البصرية بكيفية تجعلها تعمل على ترسيخ المتن النصي بأكمله، وتبين كيف يأتي المعنى إليه، ويخضع معمار النص من حيث تحديده، وطرائقه في التدليل والاشتغال إلى الجهاز النظري الذي يرمي إلى دراسة النص(9).

إن عتبات الرواية تحيلنا على جملة من الوحدات الأيقونية، واللغوية، التي تشكل تداولية الخطاب، وهي المحاورة لأفق انتظار القارئ، وهي التي تساهم في إثارة اشتهائه السردي، بل هي التي تصيده على حد تعبير الناقد رولان بارث، حيث إن كل ما نراه في الرواية له دلالة، وفق منظور النظرية السيميائية(10).

والغلاف يعد بمثابة عتبة«تحيط بالنص، من خلالها يعبر السيميائي إلى أغوار النص الرمزي، والدلالي، ويدخل النص الموازي، والنص الموازي عند جيرار جنيت هو ما يصنع به النص من نفسه كتاباً، ويقترح ذاته بهذه الصفة على قرائه، وعموماً على الجمهور، أي ما يحيط بالكتاب من سياج أولي، وعتبات بصرية، ولغوية.

ويحلله (جنيت) إلى النص المحيط، والنص الفوقي، ويشمل النص المحيط كل ما يتعلق بالشكل الخارجي للكتاب كالصورة المصاحبة للغلاف»(11). فصورة الغلاف، أو الأيقونة، هي بمثابة عنوان بصري، يتشكل من صور فوتوغرافية، أو رسوم تجريدية، ترمي إلى ترجمة عنوان الكتاب إلى أشكال لونية، وخطية، كما تهدف كذلك إلى تقديم ملخص عنه، وإبراز مقصديته إلى المتلقي، واختصار فكرته العامة، وحمله إلى الأبعاد التي يتضمنها النص .

وقد تبدى لنا من خلال غلاف رواية (سيّدات القمر) للأديبة العُمانية جوخة الحارثي، أن الصورة المصاحبة لغلاف الرواية، هي صورة لها صلة وثيقة بعنوان الرواية، ومضامينها، فصورة الغلاف تسمح لنا بالولوج إلى عوالم النص الداخلية، حيث تظهر في الغلاف صورة امرأة حذف وجهها، وهي ترتدي اللباس العماني التقليدي، فغلاف الرواية جسدت فيه مجموعة من العلامات البصرية الأيقونية، والتشكيلية، إضافة إلى العلامات اللسانية، فصورة الغلاف هي علامة إشارية تحيل على مجموعة من الدلالات، التي لها علاقة بالمتن، وهي تطرح مجموعة من الأسئلة: لماذا لم يظهر ما تبقى من صورة المرأة التي ترتدي اللباس التقليدي العماني، الذي يتسم بالجمال، ويُعبر عن طبيعة المجتمع العماني المحافظ، والمعروف بتسامحه؟

إن الغلاف يسمح لنا بالتأويل، والبحث عن أسئلة، ولاسيما أن له علاقة بمضمون الرواية التي تروي حكايات متداخلة لنسوة عُمانيات يعشن في مجتمع محافظ، ولاشك في أن للون مجموعة من الأبعاد الدلالية التي تؤثر في نفسية المتلقي، فهو يحتوي على علامات لافتة تبعث مفاهيم معينة، لقد ظهر في الغلاف اللون الأزرق لون السماء التي ترتبط بالسمو، والعلو، والرفعة، والتحليق إلى أبعد الحدود، وكأنه يوحي بطموحات النسوة العمانيات، وأحلامهن التي ليست لها حدود، واللون الأزرق يوصف بأنه لون التعبير عن الذات، حيث نفهم من توظيف مصمم الغلاف لهذا اللون بأنه تعبير عن تجسيد شخصيات الرواية للأحلام، والطموحات، والهواجس المتنوعة، وهذا اللون يفتح أمامنا أفق قراءة أولى تستنطق دلالات هذا اللون الذي يبرز عبق التاريخ، و خاصة عندما نطلع على مضامين الرواية، ونرى التحولات التي وقعت في مراحل لاحقة، و رصدتها الروائية بدقة، وعمق، كما أن اللون الأزرق الداكن هو لون السكون، والهدوء، وجميع هذه الصفات لها صلات معينة بالعنوان الذي انتقته الروائية، فالغلاف له علاقة بالعنوان، والمتن.

وقد كتب مصمم الغلاف الذي ذُكر اسمه في الغلاف الخلفي للرواية، وهو الفنان نجاح طاهر، العنوان (سيّدات القمر) باللون الأصفر في وسط خلفية زرقاء، حيث يتجلى بوضوح للقارئ في وسط اللون الأزرق الداكن، واللون الأصفر يوصف في التحليل النفسي بأنه لون يُساهم في تعزيز الثقة بالنفس، وتقوية الأحلام، والطموحات، فهل يمكن أن يسمح لنا هذا اللون بأن نفسر توظيفه في الغلاف، كونه يشير إلى الثقة، والعلو، الذي وصلت إليه سيدات القمر، وهن نساء عمانيات يمتلكن جملة من الأحلام المتنوعة، ويوحي لنا هذا اللون كذلك بقوة شخصية سيدات الرواية اللاتي نكتشف أحلامهن في النص السردي، من خلال إصرارهن على مواقف شجاعة، وجريئة، وتصميمهن على خيارات حاسمة، ونبيلة في الآن ذاته، تعكس طبيعة المجتمع العماني النبيل، والمحافظ، والمتسامح.

وقد كُتب اسم الروائية جوخة الحارثي باللون الأسود، بينما كتبت الرواية التي تدل على الجنس الذي ينتمي إليه هذا العمل الأدبي في الوسط باللون الأصفر الذي يقترب إلى البني، و ظهر في أعلى صورة السيدة التي نشاهدها على غلاف الرواية، اللون الأخضر، الذي هو لون الحب، حيث يُحيلنا هذا اللون على الوظائف السردية التي ظهرت من خلال بعض شخصيات الرواية، فقد شكلت المحبة، أحد أبرز هذه الوظائف السردية، ولاسيما في ارتباط هذه الشخصيات مع بعضها البعض، وتلاحمها في سبيل مواجهة العقبات، والتحديات.

أما اللون الأبيض المنتشر على مساحة أكبر، فلعله إيماءة إلى عوالم السلام، والتسامح، والأمن، الذي ساد قرية (العوافي)، والتي دارت فيها جل أحداث الرواية.

لقد ظهر لنا أن غلاف رواية (سيّدات القمر) هو تضمين رمزي للعوالم المجسدة داخل النص السردي، وبالنسبة إلى طبيعة اللباس الذي ظهر على غلاف الرواية، والذي يُشير إلى أوضاع اجتماعية، وثقافية معينة موجودة في المجتمع العُماني، فهو يبدو وكأنه اللباس التقليدي العماني الذي يتألف من اللحاف، الذي هو ثوب يغطي رأس المرأة، وهو مزخرف، ومزين بألوان، ثم هناك الثوب الذي يغطي سائر الجسد، وهذا يدل على ارتباط الرواية بالبيئة العمانية، واللباس الذي ترتديه المرأة العمانية له أكمام عريضة، ويظهر في الغلاف شكل امرأة، أو فتاة، لا يظهر وجهها، وتظهر يدها، وهي تحمل قطعة من ثوبها الواسع، والطويل، وإذا اتجهنا نحو التأويل، فبإمكاننا القول إن الثوب الذي تجلى في الغلاف هو الثوب الظفاري (أبو ذيل)، وهو طويل، ويطرز بأحجار لامعة، ويظهر على الثوب التقليدي العماني مجموعة من أنواع النقوش، ومن بين الألوان التي تجلت اللون البنفسجي، الذي لاحظناه في اللباس، فهو لون مفضل لدى المرأة، ومحبب إلى النساء، والسيدات كما هو معروف، إذ أنه لون نسوي بامتياز، ولعله يشير إلى توجهات الخطاب الروائي نحو عالم نسوي، ويؤشر في التحليل النفسي إلى العظمة، والروحانيات، والتفوق، وهذا الأمر قد يفسر على أنه إشارة واضحة إلى عزة نفس، وكرامة شخصيات الرواية، التي نراها لا تنحني في جملة من المواقف التي تبدت في الرواية.

ثالثاً: سيميائية الشخصيات:

تعد الشخصية الروائية من أكثر المقولات النقدية تشابكاً، وخصوبة، وتشعباً، حيث تلتقي عندها جملة من التحليلات من جوانب شتى، وبمناهج متنوعة، فهي تتلاقى مع تحليلات الدارس البنوي، وكذا مقاربات الباحث النفسي، والاجتماعي، والسيميائي، كما تتفرق عبرها رؤى، ونماذج عديدة، إضافة إلى تباين مستويات حضورها ضمن المحكي الروائي.

و إذا كان النقد التقليدي ينظر إلى الشخصية نظرة تصنفها إلى كائن من لحم، ودم، ويؤكد على وظيفتها الاجتماعية، فإن النقد الجديد يراها كائناً من ورق، أو سبحة من الكلمات، ومن هذا المنظور فالتحليل البنوي للشخصية يقاربها كمشارك، وليس ككائن، فبعد الرؤى التي قدمها فلاديمير بروب، الذي تعامل مع الشخصيات من منظور الوظائف التي تشغلها داخل الخرافات الروسية، يقترح أ.ج.غريماس أن يتم تسميتها بالعوامل، وذلك على اعتبار أنها قائمة بالفعل وفق نسق من الدوال، أما ت.تودوروف فهو يذهب إلى دراسة علائق الشخصيات مع بعضها، بوساطة ما يسميه بالمحمولات القاعدية، وقواعد الفعل، والاشتقاق، ويرصد بدقة الوضع التنازعي الضابط لبنية الحكاية، والمحدد للوظائف الحكائية الرئيسة.

ويبدو أن توظيف السيميائيات لمصطلح (العامل) يشير إلى رغبة في تجاوز المصطلح التاريخي (البطل-الشخصية)، ويتقصد بذلك تجريح التداخل بين البنيوي الحاصل بين التاريخ والأدب مصطلحياً، ومفاهيمياً، ومن ثم تجريد (الشخصية) من حمولتها الإيديولوجية، وتعميم (تعويم) أبعادها، بيد أن السيرورة الإبداعية (وكذلك ضرورة الإبداع)، تمنح هذا العامل سمات خاصة تثير مرجعيات في نفسية القارئ، ومن هذا المنظور نتمثل مقولة بورخيس التي يرى فيها أن الشخصيات توجد بالكلمات، ولكن ليس هذا ما يصنع شخصية حقيقية(12).

ويُقصد بالشخص الإنسان المفرد كما هو موجود في الواقع، أي ذلك الإنسان الحي الذي يعمل، ويفكر، ويعيش، ويشعر، ويفرح، ويحزن، فهو إنسان من لحم، ودم، أي الإنسان الجامد، أو المتحرك في الحياة، أما الشخصية فلا تعني في بعض الرؤى النقدية مجموع الخصائص، والمميزات النفسية الخاصة بالشخص الحي، والتي هي موضوع المعرفة النفسية، و لا السلوكات التي تشكل مجالاً للبحث من جوانب مختلفة، فما يُقصد بالشخصية ما هو شائع، ومتداول في الحديث عن الرواية ونقدها، فهي المكون الذي يحاول به كاتب الرواية من خلال شعرية اللغة وكثافتها وفقاً لشفرة خاصة، ونسق متميز، مقاربة ذلك الإنسان الواقعي الذي نشير إليه عادة بكلمة (شخص) للدلالة على الفرد الذي تتضافر عوامل طبيعية، واقتصادية، واجتماعية في تشكيل جسمه، ونفسيته، بيد أن الشخصية في العالم الروائي، ليست وجوداً واقعياً-كما يرى بعض النقاد-بقدر ما هي مفهوم تخييلي تشير إليه جملة من التعابير المستعملة في الرواية للدلالة على الشخص ذي الكينونة المحسوسة، كما أن الأقوال، والأفعال، والصفات الخارجية، والداخلية، والأحوال الدالة عليها العلامات، هي ما يحيل إلى مفهوم الشخصية، لا الشخص(13).

إن القراءة السيميائية تفرض علينا التوقف مع دلالة أسماء الشخصيات، وهو ما يذهب بعض النقاد إلى تسميته بسيميائية الأسماء، إضافة إلى إبراز تجليات الشخصيات الرئيسة في الرواية من خلال علامات، ومؤشرات محددة، ترتبط بعلاقتها بغيرها من الشخصيات، وبتأثيرها، وفعاليتها في أحداث الرواية، وبروزها في سياق مجرى المسار السردي داخل العمل الأدبي، وقد بيّن غريماس في كتابه«في المعنى» أن توليد المعنى ليس له معنى إلا إذا كان تغييراً للمعنى الأصلي.

ولا شك في أن الاسم يُقدم جملة من العلامات الفاعلة التي تمكن من إبراز (السمة المعنوية) لهذه الشخصية، أو تلك«ذلك أنه الدعامة التي يرتكز عليها هذا البناء، فهو يمثل بثباته وتواتره عاملاً أساسياً من عوامل وضوح النص، ومقروئيته.إذ أنه إلى جانب تحديده وتمييزه لكل شخصية قد يرمز إلى حقيقتها، وعليه فإن أسماء شخصيات الأثر الأدبي، قد تبعد عن أن تكون اعتباطية، بمعنى أن المؤلف يختارها عن قصد، بحيث يجعل لكل منها علاقة ما، بدلالة الشخصية التي تحملها، وهي في ذلك كالاسم الشخصي لأي إنسان، يُسند إلى حامله في معظم الحالات، عن تصور وتصميم سابقين في المحيط العائلي»(14).

إن للتسمية في تراثنا العربي سيميائيات، ومؤشرات دالة، و إذا تعمقنا في رواية (سيّدات القمر)، وتوقفنا مع أهم الشخصيات التي برزت، لنحاول تحليل دلالة أسمائها، نلاحظ أنه قد تواترت في هذا النص السردي الكثير من الشخصيات بدرجات متفاوتة، غير أننا نسعى في قراءتنا إلى التركيز على الشخصيات الرئيسة، والمؤثرة في سياق الأحداث، والواقع أن«الظهور الأول لأي اسم في النص الروائي، أو القصصي (أو الأدبي بصورة عامة)، ينصِّب فراغاً دلالياً، لا يلبث أن يمتلئ تدريجياً، لمّا يشرع الكاتب في تصوير شخصياته، وإعطائها الصفات التي يفترض أنها تتوفر عليها في الواقع، سواء أتم هذا التصوير بصورة مباشرة، لمّا يقوم هو نفسه بذلك، أم تم بطريقة غير مباشرة، لما تقوم الشخصيات بالتعليق على بعضها»(15).

لقد حضرت في هذا النص السردي العُماني المتميز، الكثير من الشخصيات، وبدرجات مختلفة، فهناك شخصيات واعية تحظى بامتياز يرفعها عن الهموم المادية، حيث إن همومها تنبع من إيمانها بالتغيير، و من مبادئها التي تناضل من أجلها، ولذلك فهي تتعامل مع الواقع وفق ما يُمليه عليها إيمانها، كما تتجلى كذلك شخصيات عادية يتحكم فيها الواقع الخارجي، والظروف التربوية، والطبقية، فهي شخصيات مسوقة تصنعهم ظروفهم، وتخط مصائرهم.

وحتى يسهل علينا رصد سيميائية الشخصيات في رواية (سيّدات القمر)، وتحديد مدى مطابقة الشخصيات المجسدة، لأسمائها المنتقاة من قبل الأديبة جوخة الحارثي، فإننا نتحدث عنها من خلال تصنيفها إلى مستويين: مستوى تجليات الشخصيات في الفضاء الروائي، ومستوى دلالة اسمها الموظف في العمل الإبداعي، وسنركز على الشخصيات المحورية، والمؤثرة في مسار النص.

شخصية خولة:

تجسد شخصية «خولة» بعض الجوانب الرومانسية التي اتضحت في رواية (سيّدات القمر)، فهي تظهر في الرواية على أنها الفتاة التي تصبر، وتنتظر فترة طويلة عودة ابن عمها«ناصر»، الذي كان يعيش في ديار الغربة في كندا، ويبدو أنه لم يعرها الكثير من الاهتمام، فقد ارتبط بامرأة أجنبية، وهذا ما ولد لديها نزعة انتقامية، فبعد أن يتزوج ناصر بخولة، وبعد مدة من الزواج، تقرر الابتعاد عنه، وذلك حتى تبين له مدى كراهيتها له، فالمدة التي كان غائباً فيها عنها قبل الزواج، إضافة إلى ابتعاده عنها بعد الزواج، وعدم تقديره لنفسيتها، ولدت لديها كرهاً له، بسبب عدم اهتمامه بها، وهي التي ظلت مخلصة له، ورفضت الزواج من غيره.

ومن بين المقاطع التي بينت فيها الروائية مدى عشق خولة لناصر، وهيامها به، واسترجاعها لذكريات الطفولة معه، قولها: «مجرد أن خرج أبوها من الغرفة سارعت خولة بإقفال الباب مرة أخرى، ووقفت تتنهد أمام النافذة، وحين لاحظت هطول المطر جلست باتجاه القبلة، وكانت أمّها تردد أن الدعاء يُستجاب وقت نزول المطر.رفعت خولة يديها وكرّرت الدعاء الذي تقوله عقب كلّ صلاة، وحين ينزل المطر، وحين تكون صائمة: (يا ربّ ردّ لي ناصر قبل أن أموت من الحزن) ...، كانا صغيرين جداً، يلعبان كلّ عصر مع باقي أولاد الجيران لعبة فِرق: فريق الحيّ الشرقي، وفريق الحيّ الغربي، كلّ فريق يلاحق الآخر في كلّ سكك العوافي وحاراتها، خولة تتجنب زايد الذي يشدّها من ضفائرها، وتظلّ ملتصقة بناصر أينما ذهب، عادة ما يهربان من اللعبة، ويقفز هو إلى بيت المؤذّن ليقطف لها وردة ورديّة اللون من شجيرة الورد الوحيدة في الحوش، ويدسّها في ضفيرتها... »(16).

إن اسم «خولة» يعني الظبية الصغيرة الحديثة الولادة، والتي ما زالت ليست لها القدرة على المشي، والظبية يضرب بها المثل في الجمال، والحسن، وقد عهد الدارسون هذا الأمر في الشعر العربي القديم، وهذه الشخصية أبرزتها الروائية على أنها أصغر بنات عزان، وسالمة، فاسمها لم يأت خالياً من المرجع، بل حرصت الروائية على تحديد انتمائها العائلي.

ولو جئنا نسائل هذا الاسم من مستوى آخر، لألفيناه يرسل شبكة من الدلالات إلى بعيد، فهذا الاسم مشحون بالدلالات الجمالية، وهو يُحيلنا تلقائياً من حيث دلالاته اللغوية على الفتاة التي تتخايل بجمالها، وقد ظهرت«خولة» في رواية (سيّدات القمر)، على أنها معجبة بنفسها أشد الإعجاب، ومهتمة بشخصيتها، وقد طبعت الروائية هذه الشخصية بطابع غارق في الرومانسية، حيث يظهر هذا الأمر في مواضع متعددة من الرواية، فعلى سبيل المثال تفصح الروائية في هذا المشهد: «...لم تحصل خولة على خزانة تمتدّ مرآة بطول بابها.مرآتها الوحيدة هي هذه المستطيلة المؤطّرة بالخشب المعلّقة على الجدار قبالة الخزانات، تضطر خولة للوقوف حتى تسرّح شعرها، أو تضع أحمر الشفاه الجديد الذي جلبته لها ميا من مسقط.ما ذا سيقول لها ناصر حين يرى شعرها الطويل الناعم في ليلة زفافهما؟...

تعجب خولة من تحمّل أسماء للملل الفظيع الذي تجلبه هذه الكتب التراثيّة، الكتب الوحيدة التي يمكن أن تقرأها هي الكتب التي تزدريها أسماء، وترمي بها باستخفاف من يدها: روايات عبير.

صديقتها نورة اكتشفت هذه الروايات أثناء زيارة لأقاربها في مسقط، جلبت عدداً منها لخولة فأدمنتها.قصص الحبّ الجميلة في الغابات، والمراعي، والسهول، البطلة الرقيقة الجميلة، والبطل الوسيم القوي.وقبل أن تنام تتخيّل نفسها مع ناصر في الجزيرة الخضراء البعيدة محاطين بالحيوانات، والطيور، والطبيعة الساحرة... »(17).

كما أن اسم «خولة» يبدأ بحرف الخاء الذي يدل على الكراهية، «وكل ما هو مكروه من الإنسان، فكل كلمة تحوي حرف الخاء ضمن حروفها تدل على أنها اسم شيء مادي، أو حسي مكروه لدى الإنسان، ويعتبره بغيضاً، أو شيئاً سيئاً ينفر منه، ومعنى حرف الخاء مأخوذ من طريقة لفظه فأكثر البشر-حتى غير العرب-يلفظ هذا الحرف بحد ذاته للتعبير على كراهيته، ونفوره من شيء، ويستثنى من ذلك بضع كلمات لا تتجاوز عدد أصابع اليد، مثل: خير-خبر-خبز-خلق...»(18).

وقد تبدت شخصية خولة في الرواية، بصفتها فتاة كارهة للماضي، ورافضة للواقع، حيث ورد في رسم الروائية لحوارها مع والدها، بعد أن جاء لخطبتها علي ولد المهاجر، جملة من الأوصاف التي تتصل بنفسيتها، فقد أحسنت الروائية تجسيد بنائها الداخلي: «كانت عينا خولة منتفختين، وأنفها محمراً، قالت لأبيها إنه غادر، غدر بوعده لأخيه على فراش موته، ويريد أن يبيعها لعلي ولد المهاجر...تكلمت خولة بدون توقف، قالت لوالدها أنها لن تسكت كما سكتت ميا حين زوجوها دون أن يسألها أحد رأيها، ميا لم تتعلم، ولكن خولة تعلمت، وستقتل نفسها لو أصرّ والدها على هذا الزواج، وصفت نفسها بأنها منذورة لابن عمها، وأنه منذور لها، ولا يحق لأي مخلوق أن يتجاهل هذه الحقيقة.

عزان استمع لابنته حتى فرغت من حديثها.أحسّ بالألم يعتصر قلبه، لأنه لم يتعرف من قبل على هذه البنت التي لم تكد تتجاوز السادسة عشرة، وتريد أن تقتل نفسها من أجل ابن عمّ لم يُسمع عنه شيء منذ بضع سنوات.

قال لها: لا تخافي يا خولة يصير خير...» (19).

ويظهر أن هذه الشخصية قد أثرت على والدها في عرض رؤيتها، وفي آخر صفحات الرواية، تُظهر الروائية التحول الذي وقع في شخصية خولة، فنجدها تقطع صلتها بالماضي كرهاً له، ويقع الانقلاب، و تقرر الانفصال عن ابن عمها، وتفتتح صالون تجميل في أرقى الأحياء في مسقط«حين استقرّ ناصر في عمان، وولدت طفليها الأخيرين، وأصبح لا يكاد يخرج من البيت إلاّ للعمل، قررت خولة أن تطلب الطلاق...، كانت عاجزة ببساطة عن احتمال الماضي، كلّ شيء أصبح هادئاً الآن... لم تعد تحتمل الماضي، كلّ شيء فيه يتضخم، ويخنقها...» (20).

لقد بدا لنا من خلال مقاربة سيميائية شخصية«خولة»، وإبراز بنية دلالة اسمها، كما جاءت في رواية (سيّدات القمر)، أن الكثير من الدلالات التي يحتويها اسمها، تتوافق مع شخصيتها، وصفاتها في الرواية، كما يتفق كيانها الداخلي، مع مظهرها الخارجي.

شخصية عزان:

تأتي شخصية عزان في سياق المسار السردي بصفتها رأس هرم الأسرة، التي تضم ميا، وأسماء، وخولة، وزوجته هي سالمة، وهذه الشخصية تكتسي رمزية خاصة، إذ أنه ينتمي إلى الجيل الماضي، فقد خلعت الروائية على شخصيته لباساً تقليدياً محافظاً، بيد أنه يتحول في بعض محطات الرواية إلى منحرف، فتربطه علاقة مع امرأة متحررة.

إن اسم«عزان» يُفيد في مفهومه اللغوي مجموعة من المعاني المتقاربة، حيث إنه يقترب من العزة، والشرف، والكرم، وهو مشتق من العز، والشرف، وقد أضيفت إليه الألف، والنون، انسجاماً مع اللهجات الشعبية في منطقة الخليج العربي، فهذا الاسم يُقصد به العزيز، والشريف، فعزّ فلان عزا، وعزة: قوي، وبرئ من الذل، وعز الشيء.قل فلا يكاد يوجد، وعزّ عليه الأمر: اشتد، وشق، وأعزّه: قواه، ونصره، وجعله عزيزاً، بمعنى: أحبه، وأكرمه، وعزّزه: شدده، وقواه، والعزيز: الشريف القوي النادر المثال، والعزة: الأنفة، والحمية، أي أن هذا الاسم له صلة بالقوة، والغلبة، والانتصار.

يبدو أن دلالات اسم«عزان» لا علاقة لها بالوظيفة السردية البسيطة التي ظهر بها في سياق أحداث الرواية، فالكاتبة تصفه بأنه يسهر مع البدو، ويمضي مع أصدقائه شطراً من الليل في الأحاديث، والسمر، ولعل أدق وصف ورد في الرواية لشخصية«عزان»، هو الذي سعت فيه الكاتبة إلى رسم البناء الداخلي لشخصيته، عندما كان عائداً من السهرة عند البدو، إذ يتذكر ما مر به، حيث تقول الروائية في هذا الشأن: «لم يعد عزان يشعر بالانقباض في جلسات السمر هذه، ولم تعد تلك السحابة الثقيلة تحطّ على قلبه، كلّما انخرط معهم لتمثل له أن كل أحاديثهم، وضحكهم مجرد لهو دنيوي.لم تعد ذكرى ولديه الميتين تنشب في حلقه كالغصة وسط الغناء، ولم يعد يحسّ أنه مثقل بالدنيا، ويريد أن يتلاشى عن زيفها، لم يعد الإحساس بالفرح إحساساً مذنباً في أعماقه، ولا المتعة سراباً ينبغي عدم الوقوع في شركه.كان يستعيد بعض مقاطع المنشدين، ويحاول ضبط إيقاع قدميه على إيقاع النغمة في رأسه.تراءى له وجه حفيدته الجديدة، لقد أصبح جداً، وهو في منتصف الأربعين، أحسّ فجأة باللهفة للوصول إلى بيته، والدخول إلى الغرفة الوسطى ليرى وجهها الصغير النائم...» (21).

لقد كشفت الروائية في سياق إبرازها للتغيرات التي طرأت على شخصية«عزان»عن جرح عميق يعتصر قلبه، وهو فقده لابنه أحمد، الذي ترك غصة عميقة في فؤاده، وجعله يتألم، والتحول الكبير الذي ظهر في حياته، بعد معرفته لنجية الملقبة بالقمر، التي وقع في حبها، وأصبح يتحدث معها، فقد كشف عن جرحه العميق في حوار معها: «همست القمر: (تكلّم أنت، أنت ما تكاد تحكي) .تنهد عزان، وبعد هنيهة حكى لها. حكى لها عن جرح بعيد، ولكنه حيّ: ولده أحمد... (22).

إن الشخصية التي مثلها«عزان» في النص السردي، أظهرته كرجل رقيق، وغير عنيد، فهو صاحب قلب متأثر، ولطيف في تعامله مع بناته، وزوجته، يستجيب للمطالب، ويتميز بالهدوء، و هو عاشق في الآن ذاته لنجية القمر، التي أضحت مؤنسة له، ويقرأ لها الأشعار الغرامية، ويظهر أن الأديبة جوخة الحارثي كانت ترمي إلى إيضاح أنه يعاني من ثنائية في شخصيته، فهو ملاك متدين مع أسرته، ولا تصدر عنه أية تصرفات غير مهذبة، وسرعان ما يتغير عندما يلتقي بنجية، ويسهر معها، لذلك فقد وفقت الروائية في إظهار سمات هذه الشخصية من جوانب شتى، من بينها اعتماد جدلية الحب والموت (حبه لنجية، وذكره لموت ولده أحمد)، كما نجحت في تبيين التغير، والتطور الذي طرأ على هذه الشخصية بعد تعرفه على نجية، إذ عبرت الروائية عن هذا التحول بأنه كأنه لم يعرف أي شيء قبل أن يعرفها.

شخصية ميا:

امتزج تجسيد شخصية«ميا» في الرواية، بذكر صفاتها الخلقية، والخُلقية، وهي أول شخصية أبرزتها الروائية في نصها السردي، حيث بدت فتاة عاشقة، ومحبة لشخص اسمه«علي بن خلف»، الذي ظهر بصفته شخصية ثانوية، وهامشية، إذ أنه أمضى سنوات في لندن للدراسة، وعاد بلا شهادة، ولم تُلق الروائية الكثير من الضياء عليه، كما أنها لم تُفصل في سمات شخصيته، ومن بين الأوصاف التي أضفيت على شخصية «ميا» أنها فتاة استغرقت في العشق، بيد أن الأقدار تجعلها تتزوج من ولد التاجر سليمان، وتطلق على ابنتها اسم«لندن»، حتى تعيد ذكرى علي بن خلف الذي أحبته، كونه درس في لندن، التي ستظل تذكِّرُها به.

إن السمات العامة لهذه الشخصية، تبين الوفاء، والإخلاص، والطاعة، وعدم رفضها لطلبات والدتها، وقد أظهرت الكاتبة بلغة صريحة جملة من خصائص شخصية«ميا» عندما تناجي نفسها، وتقارن بين صفاتها، ومواصفات أسماء، وخولة، فتقول: «من أنا؟ بنت لا تعرف غير الخياطة، لست مثقفة كأسماء، ولا جميلة كخولة، وأحلف لك يا ربي سأصبر حتى شهر عنه، هل ستدعني بعد شهر أراه؟ »(23).

إن اسم«ميا»، الذي يبدو اسماً دخيلاً على اللغة العربية، من معانيه في أصوله اللاتينية العظمة، ومن معانيه: المها الوحشية، والغزال الصغير، وهذا الاسم يبدأ بحرف الميم، الذي يدل على كل شيء مادي أو حسي موجود في السماء، أو آت من السماء.

شخصية أسماء:

شخصية أسماء هي الفتاة المثقفة، وتظهر جملة من العلامات التي تبين توجهاتها الثقافية، والمعرفية، منذ الصفحات الأولى لهذا النص السردي، فهي التي تستحضر الكتب، وتطالع باستمرار، وتتابع الشؤون الثقافية، والعلمية، و من بين الصور التي أظهرت فيها الروائية الجوانب الثقافية في شخصيتها، قولها: «في مساجلاتهما الشعرية تردد أسماء أحياناً، أو يردد أبوها أبياتاً غزلية، وتقرأ له دائماً في ليالي الشتاء خاصة من ديوان المتنبي، ويبتسمان معاً... »(24).

وفي موضع آخر يبرز توقها للعلم، بعد حديث لها مع أمها: «سالمة، وهي تحكي لأسماء عن جدها، لم تعرف كيف تبرر دأب والدها على التعلم، ولكنّ أسماء، التي أحسّت بإحساسه نفسه، همست لأمها: (التوق المحرق للعلم) . فهذا التوق أحرقها، كما أحرق جدّها من قبل، رغم عشرات السنوات بينهما»(25).

إن اسم«أسماء»الذي هو جمع كلمة«اسم»، لعله يُحيل من حيث دلالاته اللغوية على السمو، والرفعة، والعلو، وهو يحتوي على حرف السين الذي هو حرف الإحساس السوي، وكل كلمة تحوي حرف«السين ضمن حروفها تدل على اسم لشيء مادي، أو حسي سوي، أي الاستواء بمعناه الحرفي والمجازي، فإذا كان الشيء مادياً، فهو مستقيم أو مستو، وإذا كان المستوي، فحرف السين يدل على معنى الشيء الحسي السوي، أي الحس السوي، والمقصود بالحس هو حس الإنسان، لذا فحرف السين يدل على معنى حس الإنسان السوي»(26 (.

لقد بدت شخصية«أسماء» شخصية سوية، ومطلعة على الأوضاع بعمق، فقد دلت الكثير من المواقف التي اضطلعت بها في الرواية، على أنها متميزة، و لها رؤى عميقة تتعلق بالوجود، والحياة، والعلاقات الاجتماعية، ولديها ميل شديد نحو القراءة، وبعد زواجها من خالد أكملت تعليمها، وحصلت على دبلوم المعلمات بتفوق كبير، وشجعها زوجها على العمل، وحققت نجاحات كبيرة مع أسرتها، وظهرت متوافقة، ومنسجمة مع زوجها الفنان المثقف.

شخصية خالد:

اسم«خالد»مشتق من الفعل«خلد»، يخلد خلوداً، ويرتبط من حيث معناه اللغوي بالدوام، والبقاء، والإطالة، فخلد، يخلد خلوداً: دام وبقي، وخلد فلان، وأخلد: أسن ولم يشب، وخلد بالمكان، وأخلد: أطال الإقامة فيه، والمكوث به، وأخلد إليه: ركن واطمأن إليه، والخلد هو الدوام والبقاء.

ولئن كانت الروائية قد رسمت هذه الشخصية على أنه فنان، ورسام، ومتعلم، حتى تحقق الانسجام، والتواؤم بينه، وبين زوجته«أسماء»، فإن له في سياق النص السردي صلات وطيدة تتصل بالخلود، والبقاء، والارتباط بالوطن، فخالد هو ابن عيسى المهاجر الذي هاجر إلى القاهرة، وظل مرتبطاً بوطنه سلطنة عمان، و كما تصفه الأديبة في الرواية«خالد فلك مكتمل، يعرف تماماً ما ذا يريد، ولديه كلّ شيء: العائلة المحبّة، والشهادة، وفنّه الذي يقول لأسماء إنّه عالمه الداخلي، وعمله»(27).

ويُعبر خالد عن هواجسه، واهتماماته في حوار مع أسماء، بعد أن سألته: لما ذا ترسم؟، فيقول: «لأتخلص من الحياة في حدود خيال أبي، و أصيغها في حدود خيالي أنا. منذ طفولتي حتى أوائل عشرينياتي، وأبي يحددني وفق محددات خياله، كانت له طاقته الخيالية الواضحة، وكنت أنا وقود هذا الخيال، وكلّ تصوراته عليّ أن أكون تجسيداً لها. أصبح الفن لي ضرورة كالماء، والهواء، منذ أدركت أنني لن أستطيع الحياة بدون خيالي الخاصّ.الخيال يا أسماء يمنحني قيمة لوجودي، ومهما كان الواقع جميلاً، فبدون الخيال تصبح الحياة ببساطة، غير محتملة»(28).

يتضح من هذا الحوار أن خالد يسعى إلى تحقيق ذاته، عن طريق الفن، ويربط خلوده بفنه، وقد جسد الارتباط بوطنه، بعد أن كان والده مهاجراً خارج السلطنة، وهذا ما يتصل بالدوام، والبقاء، والإطالة، وهي دلالات اسمه اللغوية.

شخصية نجية:

يتعلق هذا الاسم بدلالات لطيفة، وله مفاهيم شتى، وتتميز دلالاته بالتنوع، إذ أنه يرتبط بالمناجاة، والتوحد، والتعلق بشيء ما، وله ارتباط بعنوان الرواية (سيّدات القمر)، فالمناجاة تكون للقمر، وشخصية«نجية»التي ظهرت في الرواية تُلقب بالقمر، نظراً لجمالها الساحر، والنجيّةُ هي المُناجية، وما يُناجي المرء من الهم، ونحوه، لذلك يُقال: باتت في صدره نجية أسهرته، ويُقال ناقة نجية، أي أنها سريعة، وهذا الاسم ينصرف كذلك إلى ناجاه مُناجاة، ونجاء: ساره، ويُقال بات الهم يُناجيه: أي أنه لازمه، واستولى عليه، ويُقال: الهموم تتناجى في صدره: أي أنها تُساوره، وتُغالبه، فهو المُناجي، وهي المُناجية.و لا بد من الإشارة إلى أن المناجاة لا تتم إلا بين اثنين، ولابدّ أن يفهم أحدهما عن الثاني، وهي جزء من الأحاديث الخفية التي كثيراً ما تتم سراً بين شخصين حيين عاقلين، وهذا ما وجدناه في سياق سرد أحداث الرواية، فقد ظلت هذه الشخصية مؤنسة، ومناجية لعزان، وهي التي غيرت حياته إلى عوالم ساحرة، وكانت تناجيه كلما كان يزورها، لذلك فقد تبدى لنا أن علاقة هذه الشخصية باسمها، هي علاقة توافق، وترابط، وتلاحم، ويضاف إلى التأويل السابق أن هذه الشخصية (نجية) ظهرت في الرواية على أنها متوحدة، و مأزومة، وتبتعد عن المجتمع، نتيجة للظروف النفسية القاسية، والأوضاع الصعبة التي مرت بها منذ طفولتها على الرغم من أنها كانت تمتلك المال، وقد تميزت هذه الشخصية، من حيث إن الروائية أبدعت في تقديم صورة مفصلة، ودقيقة عن تحولاتها من مرحلة إلى أخرى، فبعد حوارها مع صديقتها التي تدعى«خزينة»، نجد الكاتبة تبين لنا أنها عاشت يتيمة، ووحيدة، ولم تكن تملك سوى شقيقها المعاق الذي كانت تدافع عنه. وقد انتهت هذه الشخصية نهاية غامضة، حيث جاء في الرواية«قال البعض إنها مرضت مرضاً غامضاً تساقطت منه أعضاء جسدها الجميل، وتآكلت قبل أن تختفي، وقال آخرون إنها باعت بيتها وإبلها، واستقرت في مطرح لتتاجر بالمشغولات اليدوية، وقال آخرون إنها جُنّت فجأة فحملتها صديقاتها إلى مستشفى ابن سينا...»(29).

شخصية سالمة:

لقد اتسمت شخصية«سالمة»، بحضور طافح في هذا النص السردي، وإن لفظ«سالمة» ينصرف في دلالته اللغوية إلى الفعل (سلم)، سلامة: نجا وبرئ، فهو سالم، وهي سالمة،، ويشير هذا الاسم كذلك إلى السلام الذي هو التحية، و يعبر عن الأمان، ويرتبط كذلك بالشفاء، والعافية، و يُحيل على التفاؤل، والصفاء، والمصالحة، والنجاة من الأمراض، والعاهات، والله –سبحانه وتعالى-هو السلام، أي أنه واهب السلام، والسلامة، و هو الذي سلمت ذاته، وصفاته، وأفعاله من أي وصف لا يليق بجلاله، وكماله.

إن الحديث عن ماضي هذه الشخصية أظهر علامات، ومحاور تتصل بانتمائها إلى عائلة شريفة، وعالية القدر، فهي بنت مسعود شيخ القبيلة، وهو شخصية بارزة، ومتعلمة، وقد عاش متنقلاً بين المراكز العلمية في نزوى، والرستاق، وشخصية«سالمة» تمثل الماضي بمختلف طقوسه، وتجسد الأمومة بشتى أبعادها، كما يظهر في شخصيتها الحنين، والاغتراب في بعض محطات الرواية، ولاسيما عندما تتذكر والدها، وأمها، وشقيقها معاذ الذي استشهد في حرب الجبل الأخضر، دون أن تتمكن من وداعه، وقد عنيت الروائية بإلقاء الضوء على ماضيها، كما ركزت على حاضرها بعد زواجها من« عزان»، حيث تذكر الروائية، وهي بصدد إيضاح طفولة«سالمة»، أنها«كانت في الثالثة عشرة حين أوعزت زوجة عمها سعيد أن يرسلها لأمّها، فترك الشيخ سعيد أرملة أخيه تتوسّل إليه لمرة أخيرة قبل أن يوافق على أن تعيش سالمة معها، على أن يبقى معاذ في بيته، فانتقلت إلى بيت خالها لتعيش أجمل سني حياتها ناعمة بدفء أمها، وعطف خالها الذي حُرم من الأطفال، فرحّب بها أي ترحيب... لكن حبور سالمة لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما أبلغ عمها والدتها أنه سيزوج سالمة لقريبه عزان، وكان عزان شاباً غراً يكبرها ببضع سنين، ولم تكن أمها راغبة في تزويجها له...»(30).

وقد عنيت الروائية بتوضيح البناء الداخلي، والخارجي لشخصيتها، حيث تقول على لسان إحدى النساء«بدت لي سالمة امرأة مسيطرة.كان الناس يلقبونها ب (عروس الفلج)، بيضاء ميالة للامتلاء، وجهها مدوّر ببشرة صافية، أنفها حادّ، وعيناها نافذتان»(31).

وبناء على ما سبق ذكره، فإن الشخصية التي مثلت أمامنا في الرواية، تتوافق مع الاسم المتخذ لها، حيث اكتسبت أبعاداً لها صلة بالسلام، والأمان، وقد تمكنت الروائية من أن تصنع شخصية متوافقة مع دلالات اسمها، في أغلب أحداث الرواية.

شخصية ظريفة:

عندما تحدثت الروائية عن شخصية«ظريفة» وظفت الأسطورة، والتراث، والمعتقدات الشعبية المعروفة في سلطنة عمان، فقد بدت هذه الشخصية على اتصال بجنية اسمها«بقيعة»، ويظهر أن الروائية أشارت إلى هذه الجنية، حتى تبين السمات العامة للعقلية الشعبية السائدة لدى بعض الناس في المجتمع العماني، وتبين تضخيم المخيال الشعبي لبعض الظواهر والتعالي بها إلى أفق العجيب، والغريب، والخارق، لتدل في الحقيقة على مظاهر من الحياة الاجتماعية وتصل إلى درجة الخرافة، فقد أظهرت من خلال شخصية«ظريفة» زعم بعض الناس أن لهم اتصالاً بالجن، فيأتونهم بالأخبار، وبما قد يجيء به المستقبل المنظور من أحداث، وهم بدورهم ينقلونها إلى سائليهم، والاتصال بالجن يتخذ أشكالاً متنوعة، وصوراً مختلفة، فبعض الدراويش يزعم أنه تزوج جنّية، وهي لا تبخل عليه بالمعلومات، وبعض أصحاب الطلاسم يشيعون في الناس قدرتهم على استخدام الجن في الحصول على الأسرار، وأحوال الغيب، فيصدقونهم الناس، ويقصدونهم للإفادة من معارفهم.

وقد ظهر في رواية (سيّدات القمر) أن الجنِّية«بقيعة» تختص بافتراس كلّ نفساء لا تطعمها من طعامها، وهي موجودة في فضاء أجرد في الصحراء الخالية.

إن شخصية«ظريفة»التي ظهرت في الرواية اتسمت بالظرف، والحذق، ومن خلال البحث في مضمون معنى هذا الاسم يتجلى أن الظريف هو الكيس الحاذق، وظرف فلان، ظرفاً، وظرافة، فهو ظريف، والظَّرفُ في الوجه: الحسن، وفي القلب: الذكاء، فهذه الشخصية (ظريفة) خدمت غيرها بإخلاص، وتعاونت معهم، والشيء الملفت للنظر أنها مرحة، وسعيدة، وهي مطلعة على الأمثال القديمة، والمعتقدات الشعبية، حيث حضرت على لسانها جملة من الحكم، والأمثال الشعبية المعروفة في سلطنة عمان، ومن ثمة، فقد حدث ما يشبه التناغم المفرط بين الاسم، ومدلولاته، من حيث الشكل، والمضمون، إذ أن اسم«ظريفة» يتعلق بالظرف الذي هو البراعة، والحذق، ويتصل كذلك بدلالات الفكاهة، والإمتاع، والدعابة، وهو يحيل على كل ما هو جذاب، وجيد، ومليح، إضافة إلى المتعة، والإثارة، والحديث الظريف هو الحديث الشائق، والجيد، ومن مفاهيم هذا الاسم كذلك البهجة، والحبور، وجميع هذه الدلالات تتوفر في هذه الشخصية، التي ظهرت على أنها تتمتع بطاقة إيجابية، وسعيدة، وعاشقة للوجود، على الرغم من أن بعض المراحل في حياتها كانت مأساوية، وهي تنحدر من وسط اجتماعي وضيع، لا حسب له يذكر، ولا نسب، وحضور هذه الشخصية لم يكن خالياً من المرجع، إذ حرصت الروائية على ذكر تاريخ ميلادها بدقة يوم: 26سبتمبر1926م، وهذا التاريخ له دلالات، ومؤشرات، فهو اليوم الذي تم فيه توقيع الاتفاقية التي تنصّ على إبطال الرق، وتجريم تجارته، وقد بيعت إلى التاجر سليمان، وأمّ ظريفة يلقّبها الناس ب«الخيزران» بسبب طولها، ورشاقتها، ولكن اسمها الحقيقي هو«عنكبوتة»، وزوجها هو«حبيب»الذي يبدو أنه قد هرب، وهاجر، وهو الأمر نفسه الذي يتكرر مع ابنها«سنجر» الذي يشير اسمه سيميائياً إلى أنه شخص ليس له شأن كبير، حيث إن الاسم منذ البداية يحيلنا على شخص ينتمي إلى الطبقة الفقيرة، و قد هاجر إلى الكويت، وترك أمه التي لحقت به فيما بعد.

شخصية عبد الله:

تأتي دلالة اسم«عبد الله»لتعبر عن العبودية، والخضوع لله سبحانه وتعالى، وهذا الاسم يرتبط بما يحبه الله، ويرضاه من صفات، وأفعال، وأقوال، فالله هو المعبود، والخضوع له.

ونجد في الرواية وصفاً لشخصية عبد الله على لسان زوجة عمه«تربية أبو ك سحقت شخصيتك...»(32).

ويظهر ضعف شخصية«عبد الله»، عندما لا يستطيع مواجهة زوجته التي تقرر تسمية ابنتها«لندن»، وقد بدت شخصية«عبد الله» مرتبطة بالماضي، وبالذكريات السالفة التي مرت به، كما بدت شخصيته حزينة، ومأزومة على الرغم من تميزه، ودراسته في بيروت، وزواجه من«ميا» التي اختارها بنفسه.

شخصية لندن:

يؤشر هذا الاسم إلى المدينة التي عاش فيها«علي بن خلف»، الذي أحبته«ميا»، والدة«لندن»، وقد ظهرت هذه الشخصية على أنها طبيبة ناجحة، ومتميزة، بيد أنها خاضت تجربة سلبية، بعد علاقة جمعتها مع زميل رافقها في دراستها الجامعية، وقد وافق والدها«عبد الله» على خطبتها، على الرغم من الفارق الطبقي بينهما، وفي الأخير تقرر«لندن» الانفصال عنه في فترة العقد قبل أن يتم الزواج.

ومن الأشياء الملفتة للنظر في شخصية«لندن»، أنها تشبه إلى حد ما-مع ملاحظة اختلاف التفاصيل-شخصية«خولة»، وقد كشفت الروائية عن التحولات التي وقعت في شخصية«لندن» من جوانب نفسية، بعد خوضها هذه التجربة، حيث جاء في النص: «بعد أكثر من عشرين سنة، ستكون لندن قد طُلقت في فترة العقد، وبعد طلاقها بفترة وجيزة، بدأت تشعر بهذا الشعور الغامض الذي يخدش اعتزازها بنفسها، شعور مبهم من الحنين، والغيظ، والغضب، والندم، عرفت أنها لن تعود أبداً تلك الشخصية التي كانت، وأن ما يسميه الناس (تجربة) هو في الحقيقة داء مزمن، لا يميتنا، ولا نُشفى منه، لا نتحمله، ولا نتخلص منه، يرافقنا أينما ذهبنا، ويثور في أي لحظة، ليذكرنا أن له مضاعفات غفلنا عنها، أو تغافلنا، وما ينصحونها به من فتح صفحة جديدة مجرد مزحة سمجة...»(33).

والجدير بالذكر أن هناك جملة من الشخصيات التي ظهرت في الرواية كشخصيات ثانوية وهامشية، وغير فاعلة بشكل كبير في أحداث النص السردي مثل: «شنة»، و«مروان»، و«قاسم»، و«نورة»، و«ممدوح»، و«فاطمة»، و«رشا»، و«حنان»، و«أحمد»، و«علي».

وما يثير الانتباه في رواية (سيّدات القمر) أن الكاتبة جوخة الحارثي أحسنت رسم البناء الداخلي، والخارجي للشخصيات التي وظفتها، ولم تقع في التناقض، والمبالغة، فعلى سبيل المثال عندما تصف عمة عبد الله على لسانه، ترسم بدقة الملامح الخارجية لها، وتقارنها مع«ظريفة»، فتقول بلسان عبد الله: «كانت تقاطيع وجهها الحادّة المنمنمة تشكّل تناقضاً صارخاً مع تقاطيع وجه ظريفة المفلطحة الكبيرة، وكانت الوحيدة التي تعامل ظريفة كأيّ عبدة أخرى، ولا تعترف بمكانتها الضمنية كمدبرة لمنزل أبي...»(34).

وعندما غاصت في أعماق نفسيتها قالت على لسان عبد الله: «...وفيما عدا التحيات الطويلة بينهما التي تسير على النسق نفسه كلّ مرّة، لم يكونا يتبادلان أيّ حديث، حين كبرت فقط فهمت كم كان احترامهما الظاهر يحمل من الاحتقار العميق، والكراهية.وإذا كانت تقود حرباً صامتة ضد ظريفة، فإن وجود أبي وحقيقة علاقته بظريفة كانا يمكنانها من المجاهرة بالعداء لعمتي، أمامنا، نحن الصغار»(35).

رابعاً: الوظائف السردية للشخصيات:

تبرز في رواية (سيّدات القمر)، جملة من الوظائف السردية، التي أسندت إلى الشخصيات المحورية، إذ حاولت الكاتبة أن تظهر لنا الجوانب المتعددة لها، ووجدناها في بعض المحطات تربط بين الشخصيات التي أبرزتها، وبيئتها، فقد استمدت صورها الجزئية من البيئة العمانية التي تنوعت، ومهدت لإبراز الصورة الكلية للشخصية بشكل عام.

ولعل أكثر الوظائف السردية التي استحضرتها الروائية، وبدت أكثر تأثراً، وتأثيراً في سياق المسار السردي:

1-العشق والغواية والتحرر:

ظهرت هذه الوظائف بشكل رئيس مع شخصيتي«عزان»، و«نجية»، وقد تجسدت الغواية في شخصية«نجية» الملقبة بالقمر، من خلال هيامها ب«عزان»، حيث تقول لصديقتها«خزينة»في حوار معها: «أريده وسأحصل عليه...لكنّي أريده وسيأتيني، القمر لا تريد شيئاً، و لا تحصل عليه... من قال لك إني أريد أن أتزوجه؟ القمر لا تؤمر أحداً عليها..أنا لم أخلق لأخدم رجلاً وأطيعه...يسرق حلالي ويمنع عنّي أخي وصاحباتي...يوم يقول لا تطلعي، و يوم يقول لا تلبسي، ويوم يقول تعالي، ويوم يقول روحي...لا لا يا خزينة عزان سيكون لي ولن أكون له..سيأتيني حين أشاء، ويذهب حين أشاء...يرفضني أنا؟ القمر؟ لم يخلق الرجل الذي يرفضني بعد يا خزينة..سيأتيني عزان هذا جاثياً على ركبتيه»(36).

يتجلى من خلال هذا الحوار نزوع المرأة الجميلة«نجية»إلى التحرر، في علاقتها مع«عزان» المتزوج من«سالمة»، فهي ترغب في قيادته، وربط علاقة معه، بعيداً عن قيم المجتمع العماني، دون رابطة الزواج، كما أنها ترفض أن يتحكم فيها الرجل، وتقدم لصديقتها مجموعة من الأمثلة في هذا الشأن، وقد عبرت الروائية في النص السردي عن رؤيتهما (عزان، ونجية) للعلاقة التي تجمع بينهما بأنها«كانت الرؤية بينهما واضحة جداً منذ البدء: العلاقة الحرة.هذا ما أراده كلاهما: الحرِّية في العلاقة، ولوهلة ظنّا أنّهما بلغا الكمال في حرِّية الشغف الخالصة، لا تصنّع، ولا مداراة، ولا كذب، لا وعود، ولا آمال، اشتعال اللحظة وحسب، لا قيود من الماضي، والأهمّ من ذلك: لا قيود من المستقبل، هذا ما أراده كلاهما وسعى إليه رجل حرّ، وامرأة حرّة، وعلاقة حرة...» (37).

وتظهر الغواية والمراودة في هجوم«نجية» على«عزان»، عندما كان راجعاً من السهرة عند البدو، حيث رسمت الروائية المشهد بطريقة موحية، ومؤثرة«كان يبتسم لنفسه، ويكاد يدندن طرباً حين باغته ظلّ بشري بين الكثبان، بسمل عزان وتراجع خطوتين إلى الوراء، لكنّ الظلّ تقدّم نحوه بثقة، صاح عزان: (من هناك؟) ففاجأه صوت أنثوي: (أنا) .بعد هنيهة كانت امرأة فارعة الطول قد وقفت قبالته، ونزعت برقعها عن وجهها.هدأ روعه وسألها: (من أنت؟ وماذا تريدين؟) .نظرت المرأة مباشرة في عينيه، أربكه جمالها المصمّم وبريق عينيها الواسعتين، أربكته رائحتها الفاغمة وقربها المبرح منه، لكن كلامها أفقده السيطرة: (أنا نجيّة وألقّب بالقمر وأريدك أنت) . ستظل عبارتها تطنّ في رأسه أعواماً كثيرة بعد ذلك: (أنا نجيّة وألقّب بالقمر وأريدك أنت) .لم يعرف عزان نساء كثيرات في حياته، ولم يعرف بكلّ تأكيد امرأة على هذا القدر من الجرأة، تُلقّب بالقمر.إنها تستحق لقباً أعظم، إنها أجمل من أي شيء رآه، أو سيراه في حياته.لقد لاحت له تحت ضوء القمر كأنّها من الحور العين التي بشّر الله بها عباده المؤمنين. مالت عليه فتأبّط نعليه وهرب، ركض بأقصى سرعته باتّجاه العوافي عاجزاً عن التفكير في أيّ شيء... »(38).

نجد في هذا المشهد من الرواية، أن«نجية»المعروفة بجمالها الساحر، سعت إلى إغواء«عزان»، ومراودته عن نفسه، والمراودة هي نتيجة عملية اشتقاق لغوي أصلها هو الفعل: «راودهُ» مُراودة، ورواداً: خادعه، وراوغه، وفي التنزيل العزيز نجد: ﴿وقالَ نسوةٌ في المدينة امرأةُ العزيز تُراودُ فتاها عن نفسه﴾-يوسف: 30-، وراوده عن الأمر، وعليه: داراه، وعلى الأمر: طلب منه فعلهُ، كما تقترب دلالة المراودة من الفعل«أراد»الشيء: أحبه، وشاءهُ، ويُقال: أراد الجدار أن ينقض: تهيأ للسقوط. وفي«معجم الألفاظ والأعلام القرآنية»لمحمد إسماعيل إبراهيم، نجد الفعل«رود»أراد الشيء: مال إليه، ورغب فيه، وأراده على الأمر: حمله عليه، وراوده عن نفسه: خادعه، وطلب منه المنكر، وسنراود عنه أباه: سنجتهد في طلبه من أبيه، ورويداً: برفق، وتؤدة، بمعنى: مهلاً.

أما الغواية فهي تنصرف إلى الفعل«غوى غياً، وغواية: أمعن في الضلال، فهو غاوٍ، وأغواه: أضله، وأغراه، والغي: الضلال، والجهل الناشئ عن اعتقاد فاسد، والغاوي: الضال عن طريق الحق، والجمع غاوون، والغوِيّ: المنقاد للهوى»(39).

إن الوظيفة السردية المركزية التي اضطلعت بها شخصية«نجية»، كانت ناجحة، حيث إنها أوقعت«عزان»في شباكها، وجعلته يتعلق بها، ويعشقها، وهنا تستحضر الروائية الوظيفة السردية المتصلة بالعشق، فيُلاحظ أن«عزان»أضحى لصيقاً ب«نجية»، فها هو يخاطبها معبراً عن هيامه الشديد بها، وعشقه الكبير لشخصيتها: « آه يا نجيّة...يا القمر...أريدك لي.همست نجيّة: ولكنّي لك...، تنهّدا معاً، ثم استرسل عزان: إنّ الشعراء الذي تغنّوا بلذّة الامتلاك لم يكونوا عشاقاً بل قناصين...قال عزان بثقة: نعم قناصون، العاشق يا نجيّة لا يمتلك المعشوق مهما اتّحد معه، وتلذّذ به، المعشوق يا نجيّة كائن مثلك، كائن لا يُمتلك...» (40).

2- القطيعة مع الماضي والتحول:

ظهرت هذه الوظيفة السردية مع مجموعة من الشخصيات في الرواية، نذكر من بينها: «خولة»، التي أصبحت عاجزة عن احتمال الماضي، كما عبرت الروائية عن علاقتها بناصر، فقررت القطيعة مع الماضي، حيث إنها أضحت لا تطيق الماضي، فكلّ شيء يتضخم، ويخنقها، لذلك فقد قررت القطيعة مع الماضي، والانفصال عن ناصر، والتحول إلى شأن آخر.

كما تجسدت هذه الوظيفة مع«لندن»، و«سنجر»، فكلاهما قطع صلته بالماضي، وبدأ حياة جديدة، على الرغم من اختلاف رواسب الماضي في التأثير على الشخصيتين.

3- الإصرار والتوجيه والتأثير:

تجلت هذه الوظائف السردية، في جملة من المحطات في رواية (سيّدات القمر)، ومن خلال شخصيات متنوعة، حيث إننا نجد«خولة» على سبيل المثال تصر على قرارها بعدم الزواج من«علي»ابن عيسى المهاجر، ويتضح من حوارها مع والدها أنها تمكنت من التأثير في شخصيته، وجعلته يخضع لقرارها، حيث عبرت الروائية عن شعوره، ونفسيته بأنه أحسّ بالألم يعتصر قلبه، فخطابها الذي وجهته نحوه، وهي واثقة من قرارها، أسهم في التأثير على شخصيته، و قرر عدم إجبارها، بل إننا نجده يتحول تدريجياً إلى مدافع عن قرار«خولة»، وداعم لموقفها مع زوجته«سالمة»، حيث يُجيبها عندما سألته سؤالاً مبطناً يحمل انتقاداً لتأثير«خولة» عليه بقوله: «أنا ردّيت على الناس، وانتهى الموضوع، إذا تريدي تجهزي بنتك أسماء، وتتفقي مع الحريم على المهر والعرس جهّزي واتّفقي، لكن خولة لا» (41).

وتتبدى هذه الوظيفة السردية في إصرار«ميا» على تسمية ابنتها«لندن»، وتأكيدها على الولادة في العاصمة«مسقط»، فقد جاء في الرواية: «قالت ميا لولد التاجر سليمان حين أصبحت لا تستطيع النوم من تكوّر بطنها: (اسمع، أنا لن ألد هنا على أيدي الدايات، أريد أن تأخذني لمسكد)، قاطعها: (قلت لكِ ألف مرّة اسمها مسقط)، أكملت كأنّها لم تسمعه: (أريد أن ألد في مستشفى السعادة)، قال: (ويسقط ولدي في أيدي النصارى؟)، سكتت ميا، وحين دخلت شهرها التاسع أخذها زوجها إلى بيت عمّه في وادي عدي في مسقط حتى ولدت في مستشفى الإرساليّة، مستشفى السعادة، بنتاً ضئيلة. فتحت ميا عينيها ورأت ابنتها بين يدي أمّها... وحين جاء ولد سليمان التاجر لرؤية المولودة قالت له ميا إنها تريد أن تسمّيها (لندن)، ظن أنها متعبة من الولادة، وتهذي، في اليوم التالي عادت والبنت، وأمها، إلى بيت عمّه، وأخبرت أقاربه أن المولودة اسمها لندن... قالت لها: (ما زلتِ مصرة على هذا الاسم الغريب للمولودة؟ أحد يسمي بنته لندن؟ هذه اسم بلاد يا بنتي..بلاد نصارى..كلّنا متعجبون جداً، وأظنّ صحتك الآن تسمح لك بالتفكير مرة ثانية في اسم للبنت..سمّيها على اسم أمك سالمة) ... أمسكت ميا البنت ورفعتها في الهواء: (ما له اسم لندن؟..حرمة في بلاد جعلان اسمها لندن..) . قالت زوجة العمّ بنفاذ صبر: (تعرفين أنّ هذا ليس اسمها.هذا مجرّد لقب لقَّبها الناس به لشدة بياضها..وهذه البنت يعني..)، أنزلت ميا البنت إلى حجرها: (ليست بيضاء مثل عائلة ولد التاجر، لكنّها بنتهم، واسمها لندن) » (42).

4- الحب والكراهية:

برزت هذه الوظيفة السردية، بصفتها الجدلية، والمبنية على التضاد، في بعض شخصيات الرواية، مثل: «لندن»، و«خولة»، فنحن نجد لندن بعد أن أحبت«أحمد»، تعبر عن كراهيتها الشديدة له لدى حوارها مع صديقتها«حنان»، فبعد أن كانت تفصح لحنان بأنها أسعد بنت في العالم بسبب حبها لأحمد، تحول حبها إلى كراهية، ومن جملة ما جاء على لسانها: «أكرهك، أكره صوتك، أكره صورتك..كرهت كلمات الحرية، والثقافة، والطبقية، أصبحت أشك في نفسي...» (43).

وكذلك الشأن بالنسبة إلى«خولة»، فبعد أن أحبت «ناصر»، تحول الهيام، والعشق، إلى كراهية، وإلى درجة أنها لم تعد تطق العيش معه.

5- التّوق إلى الحريّة:

أسندت هذه الوظيفة السردية إلى شخصيتي«حبيب»، وابنه«سنجر»، الذي هاجر إلى دولة الكويت، حيث نجده يصرح لأمه ظريفة قائلاً: «اسمعي يا ظريفة، التاجر سليمان ربَّاني، وعلَّمني، وزوَّجني لمصلحته هو، من أجل أن أخدمه وتخدمه امرأتي، وأولادي، لكن يا ظريفة، التاجر سليمان ما له دخل بي، نحن أحرار بموجب القانون، أحرار يا ظريفة، افتحي عيونك، الدنيا تغيرت، وأنت ترددين حبابي، وسيدي، كلّ الناس تعلموا، وتوظّفوا وأنت مثل ما أنت، عبدة التاجر سليمان وبسّ..افتحي عيونك يا ظريفة، نحن أحرار، كل واحد سيّد نفسه، ما حدّ سيّد حدّ، أنا حرّ، أسافر كما أريد، وأسمّي أولادي كما أريد...» (44).

وقد عبّرت الروائية عن هذه الوظيفة السردية من خلال شخصية«حبيب»، بلسان ظريفة التي تقول: «راح الولد يا فطوم، راح الولد منّي، يتكلّم مثل أبوه ويهذي مثله، وبيروح مثله، أحرار أحرار، عذّبني أبوه بهذا الكلام، ما صدّقت راح حبيب وجاني ولده، أحرار و لا عبيد» (45).

إن ما يلاحظ على هذه الوظيفة السردية، أن الروائية جسدتها في إطار رؤى عامة، ناقشت من خلالها أطروحة الرق، ففي الرواية نرى أن التاجر سليمان الذي يتوق«سنجر»إلى التحرر منه، بنى أرباحه من الاتجار بالرقيق، والملاحظ أن أطروحة الرِّق في الرواية الخليجية بصفة عامة، تعد من الأطروحات التي تم تداولها في بعض الأعمال الأدبية، ويصفها الناقد الرشيد بوشعير على سبيل المثال بالأطروحة المسكوت عنها، لأنها تثير حساسيات معينة، وقد تبدى له أن عدداً من الكتّاب الخليجيين الذين عالجوا هذا الموضوع في أعمالهم الروائية، و من بينهم الكاتب البحريني «عبد الله خليفة»، والكاتب الإماراتي«علي أبو الريش»، والكاتب السعودي«عبد الرحمن منيف»، تناولوا ظاهرة الرِّق في سياق وصف النسيج الاجتماعي، ولم يشكل الرِّق بالنسبة إليهم هاجساً رئيساً من هواجس أعمالهم الروائية.

ومن أبرز الكتّاب الذين عالجوا ظاهرة الرق بوصفها أطروحة، أو هاجساً«راشد عبد الله»في روايته«شاهندة»، و«فوزية شويش السالم»في روايتها«النواخذة»، و«بدرية الشحي»في روايتها«الطواف حيث الجمر»، و«ميسون صقر القاسمي»في روايتها«ريحانة».

وينبه الباحث إلى أن هؤلاء الكتّاب يختلفون في رؤاهم، ومواقفهم من هذه الأطروحة، ويمكن التمييز في رؤاهم المطروحة بين موقفين رئيسين: أحدهما يتمثل في النظر إلى أطروحة الرِّق بوصفها أطروحة تاريخية منتهية، و الآخر يتمثل في النظر إلى هذه الأطروحة بوصفها أطروحة اجتماعية مستمرة، و قد تميزت الأطروحة التاريخية بأنها شفافة ظاهرية، وجاهزة، والأطروحة الاجتماعية بكونها أطروحة مربكة تنطوي على إشكالية تتجاوز الظاهر إلى الباطن كي تحفر في طبقاته، وأنساقه الاجتماعية التي تشكل لحمة تصل الماضي الآفل بالراهن الحي (46).

ويظهر لنا من خلال هذه الوظيفة السردية التي تجلت في رواية (سيّدات القمر) أن أطروحة الرق أضحت من الماضي، ف«حبيب»، وابنه«سنجر»، عندما تاقا إلى الحرية، تحررا نهائياً من العبودية، وقررا مصيرهما.

6- الإخلاص والوفاء والحنين:

تظهر هذه الوظائف السردية في شخصية«عبد الله»، عندما يتذكر ظريفة، بعد أن وصله خبر وفاتها، ويبدو وفياً لذكراها، ويتحسر على عدم مشاركته في جنازتها، ويحن حنيناً عارماً إلى الأيام الخوالي، عندما ربته، وكانت تساعده.

لقد ظهرت هذه الوظيفة عندما نجده مناجياً نفسه، فيقول: «أنا خائف يا ظريفة.أبي لا يسامحني على موتك، وأنا خائف، خرج مراراً من قبره، وسألني عنك، لفّني بحبال الليف، ونكسني في البئر. صحتُ من قاع البئر: ماتت ميتة ربّها، بعدك ببضع سنين....ارفعني يا أبي.ارفعيني يا ظريفة أنا خائف.أنا خائف» (47).

ويبرز الحنين في شخصية«عزان»، الذي يتذكر ابنه أحمد، وهو جالس مع نجية القمر، حيث يغرق في الضنى، والشجن، وهو يسرد تفاصيل رحيل أحمد، الذي ترك فيه جرحاً لم يندمل، وظل مستقراً في فؤاده.

وهو الحنين الذي ظهر كذلك مع شخصية«سالمة»، وهي تتذكر محمد الذي مات رضيعاً، فتذرف عليه عبارات ساخنة، حرقة على فقدانه، ومما جاء في تعبير الروائية: «سارت سالمة بهدوء إلى الغرفة الوسطى، ميا نائمة، حملت الرضيعة بين يديها، فكّت قماطها، وأخذت تدهن سرّتها الملتهبة بالزيت، والملح، فتحت الرضيعة عينيها وبدأت تنظر إلى سالمة، فلم تتمالك دمعة ثقيلة، وهي تتذكّر محمداً الذي مات رضيعاً» (48).

7- التعلق بالماضي والارتباط به:

من بين الوظائف السردية التي نهضت عليها شخصية«ميا» وظيفة التمسك بالماضي، أو التجربة الماضية، والتعلق بها، حيث تجلت هذه الوظيفة في إحيائها لذكرى من أحبته (علي بن خلف)، كونه عاش في لندن، وحتى لا تقطع صلتها بهذه الشخصية، التي لم تُلق عليها الروائية الكثير من الضياء، فقد جسدت ذكراه في اسم ابنتها، حتى تظل مرتبطة بتجربة منصرمة.

8- النصح والإرشاد والوعظ:

لم تنل هذه الوظائف السردية حظاً وافراً من العناية في سياق المسار السردي، بيد أنها حضرت عن طريق استحضار«عزان»لشخصية القاضي يوسف، الذي رحل، وظل نصحه، وإرشاده، ووعظه للناس يرن في أذني«عزان»، حيث جاء في الرواية«...ثم تلاشت كل الأصوات في دورات متلاشية برأسه، ثم امّحت ليبزغ صوت وحيد، وعميق، صوت القاضي يوسف: (من أخلص المجاهدة، وتخلّص من مزيد الشهوة، والغضب، وغيرهما من الأفعال الذميمة، والأعمال القبيحة، وجلس في مكان خال، وأغمض طرف الحواسّ، وفتح عين الباطن، وسمعه، وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت، وهو يتلو لفظ الجلالة الكريم، وهو الله دائماً بالقلب دون اللسان إلى أن يصير لا خبر له في نفسه، وفي العالم، ويبقى لا يرى شيئاً إلا الله سبحانه وتعالى، انفتحت له طاقة ينظر فيها ويبصر في اليقظة ما يبصره في النوم، فتظهر له أرواح الملائكة، والأنبياء، وغير ذلك من الصور الحسنة الجليلة الجميلة، وانكشف له ملكوت السماء، والأرض، ورأى ما لا يمكن شرحه ووصفه كما قال عليه السلام زُويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها.تداوم على قول الله سبعة أيّام لا تذكر سواه، تصوم نهارك، وتقوم ما استطعت من ليلك، وتتخلّى عن الناس، ولا تكلّم أحداً تظهر لك عجائب الأرض...) » (49).

إن الشخصية التي استحضرها عزان، وكانت لها وظيفة النصح، والإرشاد، أثرت في شخصيته، وجعلته ينصرف من جلسته مع نجية القمر: «ارتجف جسد عزان، وأخذ العرق يغمره، مالت عليه نجيّة: (إيش فيك؟) . نظر إليها نظرة فزع ثم قال: (لا زم أروح) . خطف نعليه وذهب...» (50).

9- الخيبة والفشل والإخفاق:

تجلت هذه الوظائف السردية من خلال بعض المراحل في شخصية«ناصر»، الذي حصل على بعثة دراسية، وذهب إلى كندا، بيد أنه رجع بخفي حنين، ولم ينجح في مسعاه، فلم يجلب معه الشهادة، والتفوق في الدراسة، وقد بينت الروائية علامات الفشل، والخيبة في بعض المشاهد، مثل قولها: «عاد لها، أو هذا ما بدا لها، لكنّه في الحقيقة قد عاد حين أفلس تماماً في كندا، كانت بعثته الدراسية قد قُطعت منذ سنوات، فعاش على المصروف القليل الذي كانت أمه ترسله سراً له، وعلى وظائف صغيرة لا يلبث أن يتركها، ثم ماتت أمه، وطُرد من آخر وظيفة، فاضطر للعودة، وحين عاد وجد أمه تشترط في وصيتها أن يتزوج خولة ليحصل على إرثه، فتزوجها، وحصل على إرثه، وعاد بعد أسبوعين من العرس إلى كندا. قبل وفاة أمه كان قد استقرّ مع صديقة له في بيت صغير بمونتريال، وبعدما عاد إليها من عمان لم يجد داعياً لإخبارها بزواجه، فاستمرّ في حياته معها عشر سنين أخرى، كان يعود خلالها إلى عمان كلّ سنتين ليرى طفلاً جديداً في بيته، ويترك خولة حاملاً مرة أخرى» (51).

وقد ظهرت بعض المؤشرات على الخيبة، والفشل في شخصية«ناصر» من خلال تصريح شخصيات أخرى، حيث تعبر«سالمة» عن امتعاضها من فشله، وخيبته، وعدم نجاحه في حياته، فتقول على سبيل التحقير: «ابن عمّها من؟ ناصر اللّي ما سمعنا عنه من أكثر من أربع سنين؟اللي عمره ما سأل عنّا ولا عنها؟ ..وينه ابن عمها؟ صايع ضايع في كندا ونواحيها...» (52).

10- التعلق بالوطن:

إن شخصية«أم خالد»، وهي زوجة عيسى المهاجر، والتي لم تكشف الروائية عن اسمها، جسدت هذه الوظيفة السردية، بطريقة ملحمية تدل على شدة الارتباط بسلطنة عمان، فهي تصر على العودة إلى سلطنة عمان، بعد وفاة ابنتها«غالية»، التي كانت هي القناة التي ربطت الأسرة بأكملها بالوطن، فهي التي شكلت السبب الرئيس في العودة، والاستقرار بعمان، وهذا ما عبرت عنه الروائية بقولها: «لم تعد الرحلة إلى عمان، الرحلة المستحيلة، مجرّد تذكرة ذهاب وإياب ندفن خلالها الأخت الحبيبة، ونعود ببساطة إلى القاهرة، إلى بيتنا، وأعمالنا، وأصدقائنا.لا، أصبحت هذه الرحلة المفاجئة الرابط الخفي العميق، الذي سيخرجنا من الحلم، والكابوس معاً، ويحرّرنا من فكرة العودة المستحيلة، ويجعل العودة، ممكنة، وحقيقيّة، وربّما دائمة أيضاً، لكنّ غالية دفعت ثمن تحررنا بموتها، كان لابدّ من قربان، من جسر يمشي عليه أبي، ونمشي خلفه نحن، إلى عمان، وكانت جثّة غالية، تابوتها الذي حُمل إلى مقبرة العوافي الجرداء، تابوت الابنة التي وُلدت في القاهرة، وعاشت فيها، هذا الجسر» (53).

خامساً: بناء الرواية وتقنيات السرد:

يُشكل السرد مكوناً محايثاً للنص الروائي، فهو الذي ينهض بمهمة تنظيم الأحداث، والشخصيات، ومن ثمة الفضاءات، والأزمنة، فهو ينتسب إلى الخطاب، أو المبنى، من حيث إنه صياغة فنية وفق قواعد القص، وأشكاله المتباينة للحكاية، أو المتن، الذي يحوز المادة السردية في صيغتها الواقعية الخام، وهكذا ينطلق السرد الروائي من الحكاية، فيعيد تشكيلها من جديد من خلال منطق داخلي يتفرد بوظائفه، ومكوناته، وأزمنته، و لا ريب في أن أنواع السرد في العالم عديدة، ومتنوعة، بحيث لا حصر لها، كما يذهب في هذا الشأن الناقد رولان بارث، وهذا ما يجعل الخطاب الحكائي يتسم بالانفتاح، والتعدد أمام التنظيرات المتباينة التي ترمي إلى رصد تقنيات السرد (54).

إن السرد في شقه اللغوي، يعني التتابع في نظام معين، أو النسج، ولذلك يقال: «تسرَّد دمعه كما تسرًّد اللؤلؤ»، أي تتابع بترتيب، ونظام، كما يُقال: «نجوم سردٌ»، أي متتابعة بانتظام، كما أن السرد هو «المصطلح العام الذي يشتمل على قص حدثٍ، أو أحداث، أو خبر، أو أخبار، سواء أكان ذلك من صميم الحقيقة، أم من ابتكار الخيال»(55).

وهو كذلك«عرض الحديث بتتابع، وجودة، وفي الأدب هو بسط الحدث في أي عمل أدبي بسطاً عادياً من غير حوار، وللسرد أشكال بحسب الجنس الأدبي الذي يكون فيه، فهو سرد روائي، وسرد قصصي، وسرد مسرحي، ويختلف معناه من منهج نقدي إلى آخر، فهو عند البنيويين مثلاً يأتي بمفهوم الخطابdiscourأي الحديث» (56).

ويمكن القول إن السرد«آلية لإنتاج الحكي، وتقديمه، وهو يتضمن حدثاً يرسله الراوي، ويستقبله المتلقي، وهذا يمكن تقسيمه إلى قسمين: أولهما الحكاية التي تتضمن الأحداث، والوقائع، وثانيهما الخطاب الذي يتكفل بتقديم هذا المحتوى.

إنه ينهض ويقوم على الحكاية المسرودة، المتجهة من الملقي إلى المتلقي، عبر فعل السرد المنتج للحكي، والحكاية» (57).

إن انتماء هذا العمل الإبداعي الموسوم ب: (سيّدات القمر) إلى جنس الرواية، برز من خلال المكونات السردية، أو الحكائية، التي تبدت فيه، من شخصيات، وأحداث، وسرد، ووصف، وحبكة، وقد ظهر في هذا العمل الروائي العُماني تفاعل الشخصيات مع الأحداث، من خلال بناءِ متكامل، تلعب فيه العناصر المذكورة دوراً في خلق عمل فني يتسم بالنضج في الحكاية، ويُساهم في تطورها.

لقد قسمت الأديبة جوخة الحارثي روايتها إلى فصول تتسم بالقصر، حيث نلفي أن بعض الفصول فيها ست صفحات، وأربع صفحات، وما يلفت النظر أن أحداث رواية (سيّدات القمر) تدور في فضاء ممعن في المحلية، فالفضاء الروائي لا يكاد يخرج عن سلطنة عمان إلا لماماً، فأحداث الرواية تتجسد في قرية (العوافي)، والملاحظ في علاقة الروائي، أو كاتب النص السردي مع الفضاء المكاني هو أن«الإمكانية الوحيدة المتوفرة لنقل الأمكنة، هي الوصف، أي محاولة إعادة تشكيل الفضاءات التي جرت بها، أو تجري بها الأحداث المروية، عن طريق اللغة، وهو ما يستدعي توقيف السرد للقيام بهذه المهمة، ونقصد بنقل الأمكنة، إعادة تشكيلها حسب صورتها المفترضة في الواقع، أي نقل أجزائها، ودقائقها إلى الرواية، إلى العالم المتخيل، فيتسنى بذلك للراوي إحداث (أثر الحقيقة) بتعبير رولان بارث» (58).

حاولت الروائية أن تنوع من الأشكال السردية، فعددت من استخدام الضمائر، فقد اصطنعت السرد بضمير الغائب، وذلك حتى يُفسح لها المجال لتقديم الأحداث، والتحولات، والمشاهد الرئيسة، وهذا الشكل السردي، هو شكل محمود«لأنه يُركز النشاط السردي من حول راوية لا يكون إحدى الشخصيات، ولكنه يتلقاه بمباشرة تحرمه من البعد الذي ينشأ بالضرورة عن السرد ذي الطبيعة الارتدادية، والذي يكون بطريقة ضمير المتكلم، ويتميز هذا الشكل السردي بكونه يسوق الحكي نحو الأمام، ولكن انطلاقاً من الماضي.وهي تقنية مناقضة للتقنية السردية الأخرى التي تصطنع ضمير المتكلم، وواضح أن الرواية ذات الضمير الغائب، على نقيض ما قد يُظن، لا ينبغي لها أن تقدم انطباعاً عن الحضور، والمباشرة» (59).

كما وظفت السرد بضمير المتكلم في بعض المحطات، حيث تجسدت هذه الطريقة في السرد من خلال المناجاة، أو الاستذكار، واسترجاع الماضي، والأحداث المنصرمة، والغاية من توظيف«هذا الضرب من السرد هي وضع بُعد زمني بين زمن الحكي (وهو زمن الحدث حال كونه واقعاً)، والزمن الحقيقي للسارد (وهو يتجسد في اللحظة التي تُسرد فيها الأحداث عبر الشريط السردي) .وببعض ذلك يتبين أن السرد بهذا الضمير ينطلق من الحاضر نحو الوراء.فكأن الحدث في الحال الأولى (السرد بضمير الغائب)، هو بصدد الوقوع، أما في الحال الثانية فإنه يصنف على أساس أنه قد وقع بالفعل، ومن الصعوبات التقنية التي تساور سبيل الروائيين الذين يؤثرون اصطناع هذا الضمير، أنهم حين يضطرون إلى اصطناع المناجاة يجدونهم مرغمين على الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، وذلك حين يريدون وصف الإيماءات، والأفكار لشخصياتهم وصفاً زمنياً» (60).

إن الاعتماد على الذاكرة لعرض الاسترجاع، يعد من التقنيات المستحدثة، وقد وظفت الأديبة جوخة الحارثي هذه التقنية مع الفصول الأولى من روايتها من خلال شخصية«عبد الله»ابن التاجر سليمان، حيث جاء في الرواية: «كانت الطائرة تخترق سحباً كثيفة، وعينا عبد الله تجافيان النوم على الرّغم من الرحلة الطويلة إلى فرانكفورت، عندما كانت النساء تلد في مستشفى السعادة في مسقط لم تكن ماكينات الخياطة السوداء ماركة الفراشة قد وصلت إلى عمان بعد.كيف كانت ميا تخيط على هذه الماكينة؟...لا أتذكر لا أستطيع أن أربط كل هذه الأحداث أمها قالت لي: (اذبح عن لندن، وأحضر عشرين دجاجة حيّة لامرأتك النفساء)، وفخّمت حروف العشرين مع أنّي كنت سأحضر ثلاثين دجاجة وشاة أيضاً...امرأة عمّي في بيت وادي عدي القديم وقفت في الحوش وعنّفتني بأعلى صوتها: (لندن؟ ووافقت؟ما لك شور في اسم ابنتك؟..)، لا أعرف إن كانوا قد هدموا البيت أو باعوه.منذ مات عمّي رأيتها مرّة أو اثنتين فقط.حين تخرّجت لندن في كلية الطبّ في جامعة السلطان قالت: (أريد سيّارة بي أم دبليو يا أبي)، وميا وضعت ماكينة الخياطة ماركة الفراشة في المخزن حين انتقلنا لبيتنا الجديد.لماذا توقّفت عن الخياطة؟متى توقّفت؟بعدما ولدت محمداً، في السنة التي ورثت فيها تجارة أبي وانتقلنا إلى مسقط» (61).

يتضح من خلال هذا النص السردي أن الروائية وظفت تقنية«الاسترجاع»، وقد ورد هذا المصطلح من لغة السينما، حيث يمكن أن نصفه بأنه من المصطلحات المهاجرة، فالكاتبة جوخة الحارثي، في المشهد السابق تركت مستوى القص الأول، لتعود إلى بعض الأحداث الماضية، حتى تلقي عليها الضوء، وتفسرها بلسان شخصية«عبد الله»، ويُلاحظ أن التفسير يكون في ضوء المواقف المتغيرة، والمتحولة، وهذا ما يسمح بمنح بعض المعاني الجديدة، فكلما تقادمت الذكريات تغيرت الرؤى إليها، ومن ثمة يقع التحول في تفسيرها، انطلاقاً مما استجد من أحداث، كما رأينا شخصية«خالد»في الرواية الذي يُفسر واقع عمان انطلاقاً من ذكرياته في القاهرة التي هاجرت أسرته إليها.

إن هذه التقنية (الاسترجاع) تسمح للقارئ أن ينتقل«بين عناصر الزمن من ماض، وحاضر، في حركة طبيعية تشعر بتلاحم الزمنين في وحدة لا يفصلها فاصل.والحقيقة أن الذكرى لا تعلم دون استناد جدلي إلى الحاضر، فلا يمكن إحياء الماضي إلا بتقييده بموضوعة شعورية حاضرة بالضرورة. وقد يجعل الاسترجاع الماضي المستعاد في نطاق رؤية الشخصية يصطبغ بصبغة متميزة ذات طابع عاطفي، يستعين الكاتب عادة بآلية الاسترجاع للتخفيف من حدة التوتر الذي تعانيه الشخصية التي ترتد بها الذكريات إلى الزمن الماضي، الخلفية الزمنية للسرد التي تمثل زمن السعادة مقابل زمن الشقاء الذي يشكل-عادة-البؤرة الزمنية للسرد» (62).

واللافت للنظر في التقنيات السردية التي تجلت في النص الروائي (سيّدات القمر)، أن الارتداد لم يوظف على نمط واحد، حيث إننا ألفينا وجود ارتداد بطريقة الرجوع إلى الوراء، واستحضار أحداث ماضية دون مزجها بالحاضر.ومن بين المحطات التي تجلى فيها الارتداد بمفهومه المعروف في النقد الروائي بأنه«يعني الارتداد نحو حكاية كان يمكن أن تذكر في موضعها من السياق السردي، فأُرجئ تقديمها لغاية من الغايات الفنية التي منها حب المزج بين الحاضر والماضي، وإدماج أحدهما في الآخر بطريقة تتوخى الحيوية، والحركة المتجددة في السرد» (63).

عندما يتذكر عزان ابنه أحمد، ويستحضر قصته المؤلمة، وهو يضم حفيدته ابنة«ميا»، فيقول لها: « (والله يا ميا تشبه أحمد، حين وُلد كان صغيراً جداً أكبر من الكفّ بقليل، قلنا لن يعيش، وعاش.ولمّا ملأ عيوننا وفرحنا به راح) . ميا تتذكر كل شيء: كانت في العاشرة وأحمد الذي يصغرها بسنتين ينطلق في المزارع راكباً حصانه (كرب نخلة يابس) وضفائره ترفرف في الهواء، وحرز الفضّة على عنقه، يهربان معاً من مدرسة القرآن، وتفشل في مجاراته بركوب الحصان، لأن كرب النخلة يكاد يمزق دشداشتها، ولا تستطيع ربطها على وسطها كما يربط أحمد دشداشته، ولا خلعها كما يفعل أحياناً، يسرقان المانجو الأخضر من مزرعة التاجر سليمان، ويرقطان الخلال الصغير من تحت النخل. وراح، هكذا فجأة، راح، ميا تتذكر العزاء، والدموع، وحرز الفضّة.اهتمّت أمّها بحفظ ملابسه، والحرز، ولم يهتم أحد بحصانه ظل ملقى أمام عيني ميا تحت جدار الحوش» (64).

كما وظفت الروائية«المناجاة»التي تكشف عن البناء الداخلي للشخصية، وتبرز خصائصها النفسية، ورؤيتها للعالم، وعلاقتها مع الآخرين، في جملة من المواضع في الرواية، مثل هذا المقطع الذي جاء على لسان«ميا»: « (والله العظيم يا ربّ لا أريد شيئاً...فقط أن أراه...والله العظيم يا ربّ لا أريده أن يلتفت لي...فقط أن أراه... » (65).

ويتبين لنا من خلال الرواية، أن الكاتبة جوخة الحارثي تميزت في جملة من المواقف، بأنها لم تعمد إلى عرض مراحل بعض الشخصيات التي وظفتها وفق ترتيب خطي مسترسل من ماضٍ، إلى حاضر، إلى مستقبل، وإنما سعت إلى كسر الخط الزمني فيها عبر سلسلة من الأزمنة، ذات مسارات متعددة، ومتنوعة، حيث انفتحت على الزمن الحاضر، وجسدت الماضي عن طريق استعادة الذاكرة، وهذا ما لاحظناه في تقنية«الارتداد»، إذ أن الكاتبة توقف عمليّة القصّ، وترجع بنا إلى الوراء، لاستحضار أحداث ماضية تفصلنا عنها مسافات قد تكون ضاربة في أعماق الطول، وقد تكون قصيرة، وهكذا، فمن حاضر الخطاب المتجسّد في عرس«أسماء»ترتد الأم«سالمة» عبر رحلة وجدانيّة (مختزلة) في عالم الذكريات إلى الماضي عندما كانت في سن الطفولة، وقد استعادت الروائية هذه المحطات، وصورت المشهد، بعد أن خرج موكب ابنتها العروس، حيث تقول: « استغرقتها ذكريات عرسها هي، ويوم زفافها لعزان، كانت في الثالثة عشرة، حين أوعزت زوجة عمها سعيد أن يرسلها لأمّها، فترك الشيخ سعيد أرملة أخيه تتوسّل إليه لمرة أخيرة، قبل أن يوافق على أن تعيش سالمة معها، على أن يبقى معاذ في بيته، فانتقلت إلى بيت خالها لتعيش أجمل سني حياتها ناعمة بدفء أمها، وعطف خالها الذي حُرم من الأطفال، فرحّب بها أي ترحيب...

لكن حبور سالمة لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما أبلغ عمها والدتها أنه سيزوج سالمة لقريبه عزان، وكان عزان شاباً غراً يكبرها ببضع سنين، ولم تكن أمها راغبة في تزويجها له...»(66).

وتتوغل بنا الروائية في بعض مشاهد الرواية نحو المستقبل، حيث تسرد علينا ما سيقع في المستقبل، وهذا ما يطلق عليه بعض النقاد«الاستباق»، ويُقصد به استشراف المستقبل، وسبق الأحداث، وهو ما يتم عن طريق إيراد أحداث سابقة لأوانها، واللافت للنظر أن الكاتبة لم تستبق الكثير من الأحداث، فلم تشهد هذه التقنية السردية (الاستباق) حضوراً مكثفاً، مقارنة مع الارتداد، فقد استبقت بعض الأحداث القليلة، ومن ذلك مثلاً ما يتعلق بشخصية«لندن»، حيث تفصح الروائية عن مصيرها المستقبلي: «بعد أكثر من عشرين سنة، ستكون لندن قد طُلقت في فترة العقد، وبعد طلاقها بفترة وجيزة، بدأت تشعر بهذا الشعور الغامض...»(67).

وبالوقوف مع الأشكال الأساسية للحركة السردية، التي تحدث عنها الناقد (جونات)، وهي تنقسم إلى أربع تقنيات رئيسة: الإجمال، والحذف، أو الإسقاط الكلي، والمشهد، والوقف، فإننا نلفي أن بعض هذه الأشكال قد تواترت في رواية (سيّدات القمر)، فالحديث عن تقنية«الإجمال» الذي يعني«دراسة العلاقة القائمة بين الحيّز الذي تستغرقه الأحداث في الحكاية-أي في زمن الخبر-والحيّز الذي تمتد عليه في النص-أي في زمن الخطاب-علماً أن الحيّز الأول زماني يُقاس بوحدات التوقيت المعروفة من ثوان، ودقائق، وساعات، وأيام، وأشهر، وأعوام.أمّا الحيّز الثاني فمكاني ويُقاس بالأسطر، والفقرات، والصفحات، والفصول، والأبواب...والمقارنة بين هذين الحيزين تمكننا-على حد تعبير جونات-من معرفة نسق السّرد، أي تبين ما يمكن أن يطرأ عليه-في تقديمه لبعض الأحداث-من عجلة مفرطة، أو إبطاء شديد، فقد يعمد السّرد إلى اختزال أحداث مدّة طويلة في سطر، أو سطرين، فتكون السرعة عندئذ في أقصاها.وقد يعمد-خلافاً لذلك- إلى تمطيط أحداث لحظة أو لحظات في صفحات، أو فصول، فتكون السرعة في أدناها، وبين العجلة والإبطاء درجة وسطى اصطلح عيها بالمشهد»(68).

يجعلنا نلاحظ أن الروائية عمدت إلى هذه التقنية مع مجموعة من شخصيات الرواية، فهي تعمد إلى المرور السريع على حقبة طويلة، قد تزيد عن ثلاثين سنة، كما وقع عندما أجملت محطات حياة عائلة عيسى المهاجر: «لُقب أبوه عيسى بالمهاجر بعد أن هاجر لمصر عام: 1959م، إثر هزيمة الإمام غالب الهنائي في حرب الجبل الأخضر، وكما فعلت حوالي ألفي أسرة عُمانية خوفاً من بطش الإنجليز، حمل عيسى أسرته الصغيرة، واستقرّ في القاهرة.درس ولداه خالد وعليّ هناك، ثم وُلدت ابنته غالية، وحين عرضت الحكومة الجديدة في السبعينيّات المصالحة، ودعت اللاجئين للعودة للمشاركة في بناء النهضة الجديدة لعمان موحدة، رفض عيسى المهاجر العرض، وتمسّك بغربته.

بعد مرض غالية ووفاتها أصرّت أمّها أن تدفنها في بلدها العوافي، كان خالد قد تخرّج لتوه في كليّة الفنون الجميلة، فعاد مع والديه إلى بلده التي غادرها صبياً، وبقي عليّ في القاهرة حتى أنهى دراسته، وارتباطات العائلة، ثم عاد إلى بلد لا يتذكر من طفولته فيه إلاّ الشيء القليل، وها هما يخطبان أسماء، وأختها خولة...»(69).

إن التركيز على تقنية«الإجمال»السردية، يقودنا إلى رصد تقنية«الحذف»، أو «الإسقاط الكلي»، التي وجدناها موظفة في سياق سرد بعض الأحداث المتداخلة، التي كانت تدور في النص السردي، حيث لاحظنا على سبيل المثال أنها حذفت، وأسقطت كلياً محطات حياة شخصية«نورة» صديقة خولة، فهي تتجلى مباشرة في سياق سرد الوقائع، دون معرفتنا ببعض فترات حياتها، فقد غيبتها الكاتبة تماماً عن مسرح الأحداث، واكتفت بإيراد بعض الإشارات التي وردت على شكل أوصاف، أو نعوت...

وقد برزت تقنية«الوقف»في رواية (سيّدات القمر)، عن طريق وصف الأماكن، نذكر من بين هذه الأوصاف بعد عودة«عزان»من سهرة مع البدو، حيث يظهر وصف المكان الذي يسير فيه، ووصف بعض علامات قرية (العوافي)، التي تدور فيها جل أحداث الرواية، وتتعطل حركة السرد، فيقع الوقف، حيث تقول الروائية: «كانت الرمال تحت قدميه ناعمة جداً...، آنسه اكتمال القمر وهو يطبع ظلالاً أليفة على الكثبان الرملية.من بعيد لاحت له أنوار (العوافي)، وكأنها عالم لا يعرفه...لم تكن بيوت البلدة المتناثرة تحت عرق الرمل تبعد كثيراً عن العوافي، لكنّ البلدتين لم تتماسا قط، ظلّت العوافي متمسكة بثباتها، وطابعها الزراعي...»(70).

كما تواترت تقنية«المشهد»في بعض فصول الرواية، حيث إنها تخللت الحركة السردية، لتقطع استرسالها، وتقدم لنا رؤى متوافقة، ومنسجمة، فقد وجدنا أن هذه التقنية تظهر في الحوار كونه الوسيلة الرئيسة لعرض ما يتداول على أفواه الشخصيات، ويعبر عن الهواجس فيها (تقنية المشهد) بطرائق تتسم بالحرية في التعبير عن الذات، ومن ذلك في رواية (سيّدات القمر) حديث سالمة مع جاراتها، وتوافق رؤيتهن لتحولات الزمن، ولمتطلبات الزواج بين الماضي الآفل، والحاضر الماثل، فمن بين ما تم ذكره في هذا الصدد: « قالت إحدى الجارات: (على أيّامنا كانت المصوغات فضّة، لكن الحمد لله الدهر تغيّر) .قالت الجارة الأخرى: (صحيح كانت فضّة، لكن كان فيها خلاخيل، وعاضد، وحروف) »(71).

وقد انسجمت اللغة المنسوبة إلى الشخصيات، مع المستوى الثقافي، فقد وفقت الكاتبة في توظيفها لمستويات اللغة، فنجد في محطات لغة راقية، وجميلة، وفي أحايين أخرى لا حظنا وجود لغة بسيطة تصل إلى درجة العامية، توافقاً مع مستوى الشخصية.

خاتمة

بعد هذه الجولة مع رواية (سيّدات القمر)، والتي تنضوي ضمن اهتمامنا بتحليل النصوص السردية العمانية، وقراءة الأدب العماني من منظار المناهج الحديثة، ونسعى من خلالها إلى تجديد قراءة النصوص السردية عن طريق توظيف المنهج السيميائي، الذي يمكننا من استجلاء الفعالية السردية، و يزود الناقد بأدوات إجرائية تسمح له باكتشاف عوالم النص، وطاقاته التواصلية، وعلاماته، يمكننا الوقوف على جملة من الحقائق التي خلصنا إليها بعد التحليل، وهي أن الأديبة العُمانية جوخة الحارثي تمكنت من تحقيق جملة من الغايات الفنية، والفكرية، فللرواية دلالة تاريخية، ظهرت عن طريق استلهام الماضي العُماني، وتناوله من خلال منظار متميز، إذ أنها وظفته في إعادة بعث الواقع، وللرواية كذلك قيمة فنية، حيث أبدعت الكاتبة في صياغتها، وحققت مقولة جورج لوكاتش: «ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبرى، بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث » (72).

ونشير إلى أن الكاتبة سردت أغلب الأحداث بضمير الغائب، وهو الضمير الأكثر رواجاً في القصة، والرواية، فقد سمح هذا الضمير للروائية أن تكون محايدة، أو موضوعية، أثناء الحكاية، ولم يمنع توظيف هذا الضمير الكاتبة من التغلغل في أعماق شخصياتها، والتعرف على رؤاها، وأفكارها من قبل المتلقي.

وقد انصب اهتمام الكاتبة على شخصيات محددة، هي الشخصيات الرئيسة، أو المحورية، التي تبدت في العمل السردي، بيد أن تركيزها على هذه الشخصيات، لم يجعلها تهمل الغوص في عوالم الشخصيات الأخرى، مجسدة تقنيات سردية شتى، وهذا يدل على مدى تحكمها في تقنيات، وطرائق السرد الروائي الحديثة.

كما حفلت الرواية بإشارات ذكية إلى بعض الظواهر السلبية، والتي يظهر فيها الخلل على مستوى بعض العلاقات الاجتماعية، مثل: النفاق، والعقوق، والتحرر المبالغ فيه، والذي لا ينسجم مع قيمنا الإسلامية، والأخلاقية المحافظة، وقد استمدت الرواية الكثير من جمالياتها من تعبيراتها الدقيقة عن الأحداث، والمواقف، والصور، و تمكنت الكاتبة من ممارسة تجربتها الروائية بنوع من الحياد، مما أضفى على نصها مصداقية ُتقنع القارئ، وأسهمت الشخصيات الروائية التي جسدتها الكاتبة في لعب أدوار معينة، و في تطور أحداث الرواية، وتنوع مواقفها، ووجدنا أنها تتوزع بين شخصيات نامية متطورة، وشخصيات ثابتة، إذ اتضحت الشخصيات النامية في أغلب الحالات من خلال البنات (بنات عزان وسالمة)، فقد تابعنا التطورات التي حصلت، منذ مراحل المراهقة تقريباً (قبل الزواج)، إلى غاية مرحلة ما بعد الزواج، واكتشفنا في سياق المسار السردي المرسوم التحولات التي وقعت.

أما بالنسبة إلى الشخصيات الثابتة، فقد ظهرت بشكل واضح من خلال كبار السن، ولاسيما شخصية الأم، التي لا تتغير في عدة مواقف، بالرغم من تغير الأحداث.

ويتبدى لنا في هذا النص السردي، أن الكاتبة جوخة الحارثي، لم تتردد في تقديم التفاصيل الدقيقة عن الأسرتين الرئيستين في الرواية، وقد شكلت بعض المواقف خلفية رئيسة للعمل الروائي الذي قدمته الأديبة، و كانت قرية (العوافي) هي مكان التكوين، والذكريات الجميلة أحياناً، وبقدر ما كانت هذه القرية مكاناً لأحضان العائلة الدافئة، فإنها كانت في الوقت ذاته مكاناً لما سيأتي لاحقاً، من أخبار متنوعة تتصل بالشخصيات النامية، فهذه الرواية تشكل احتفاء بأصوات مختلفة، انطلاقاً من هذه القرية.

 

الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة

كلية الآداب-جامعة عنابة، الجزائر

.....................

الهوامش والمصادر والمراجع:

(1) صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولى سنة: 2010م، عن منشورات دار الآداب ببيروت، وعلى الرغم من أنه لم يمض على صدورها أكثر من ستة أعوام، فقد استقطبت اهتمام نسبة لا بأس بها من القراء، والباحثين، وما تزال هذه الرواية-في نظرنا- مجالاً خصباً لمزيد من الدراسة، والتأويل، والبحث.

(2) هي أديبة، وأكاديمية عُمانية، تعمل في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة السلطان قابوس في مسقط بسلطنة عمان، حائزة على شهادة دكتوراه في الأدب العربي القديم، وصدرت لها مجموعة من الكتب الإبداعية، نذكر من بينها: مجموعة قصصية موسومة ب «صبي على السطح»، ونصوص إبداعية بعنوان«في مديح الحب»، وقصة للأطفال عنوانها«عش العصافير»، ورواية«منامات».

(3) فرشوخ: د.أحمد، جمالية النص الروائي-مقاربة تحليلية لرواية (لعبة النسيان)، دار الأمان، الرباط، المغرب، 1417ه-1996م، ص: 22.

(4) مؤدن: د.عبد الرحيم، درس المؤلفات-تحليل لروايات-، دار الحرف للنشر والتوزيع، القنيطرة، المغرب، ط: 1، 2006م، ص: 69.

(5) الإدريسي: د.يوسف، عتبات النص-بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر-، منشورات مقاربات، أسفي، المغرب، ط: 1، 2008م، ص: 46.

(6) قنشوبة: أحمد، دلالة العنوان في رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي، مجلة جامعة محمد خيضر، بسكرة الجزائر، أعمال ملتقى السيمياء والنص الأدبي، العدد: 02، أفريل2002م، ص: 81.

(7) الحصني: إياد، معاني الأحرف العربية، ج: 2، منشورات سندس للفنون المطبعية، الجزائر، ط: 1، 2006 م، ص: 43.

(8) الحصني: إياد، معاني الأحرف العربية، ج: 1، ص: 31.

(9) العابد: د.عبد المجيد، سيميائيات الخطاب الروائي-اللص والكلاب وذات رؤية جديدة-، منشورات دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، 2013م، ص: 20.

(10) فرشوخ: د.أحمد، جمالية النص الروائي-مقاربة تحليلية لرواية (لعبة النسيان)، ص: 11.

(11) دفة: د.بلقاسم، التحليل السيميائي للبنى السردية-رواية حمامة السلام للدكتور نجيب الكيلاني أنموذجاً-، مجلة جامعة محمد خيضر، بسكرة الجزائر، أعمال ملتقى السيمياء والنص الأدبي، العدد: 02، أفريل2002م، 37.

(12) فرشوخ: د.أحمد، المرجع السابق، ص: 65-66.

(13) سويرتي: د.محمد، النقد البنيوي والنص الروائي، منشورات إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب الأقصى، د، ت، ص: 57.

(14) صحراوي: د.إبراهيم، تحليل الخطاب الأدبي-دراسة تطبيقية-، دار الآفاق، الجزائر، ط: 02، 2003م، ص: 164.

(15) صحراوي: د.إبراهيم، تحليل الخطاب الأدبي-دراسة تطبيقية-، ص: 167.

(16) الحارثي: جوخة، سيّدات القمر-رواية-، دار الآداب، بيروت، لبنان، ط: 01، 2010م، ص: 84-85.

(17) الحارثي: جوخة، سيّدات القمر-رواية-، ص: 86-87.

(18) الحصني: إياد، معاني الأحرف العربية، ج: 1، ص: 23.

(19) الحارثي: جوخة، سيّدات القمر-رواية-، ص: 80.

(20) رواية سيدات القمر، ص: 218.

(21) الرواية، ص: 38.

(22) الرواية، ص: 102.

(23) الرواية، ص: 10.

(24) الرواية، ص: 143.

(25) الرواية، ص: 147.

(26) الحصني: إياد، معاني الأحرف العربية، ج: 1، ص: 41.

(27) الرواية، ص: 177.

(28) الرواية، ص: 190.

(29) الرواية، ص: 189.

(30) الرواية، ص: 157-158.

(31) الرواية، ص: 44.

(32) الرواية، ص: 81.

(33) الرواية، ص: 167-168.

(34) الرواية، ص: 116.

(35) الرواية، ص: 116.

(36) الرواية، ص: 39-40.

(37) الرواية، ص: 78.

(38) الرواية، ص: 38-39.

(39) إبراهيم: محمد إسماعيل، معجم الألفاظ والأعلام القرآنية، دار الفكر العربي، بيروت، لبنان،، ط: 02، د، ت، ص: 97.

(40) الرواية، ص: 154.

(41) الرواية، ص: 98.

(42) الرواية، ص: 11-12.

(43) الرواية، ص: 215، 217..

(44) الرواية، ص: 93-94.

(45) الرواية، ص: 94.

(46) بو شعير: د.الرشيد، هواجس الرواية الخليجية، كتاب دبي الثقافية، منشورات دار الصدى، دبي، الإمارات العربية المتحدة، ديسمبر2012م، ص: 99.

(47) الرواية، ص: 152.

(48) الرواية، ص: 164-165.

(49) الرواية، ص: 98

(50) الرواية، ص: 165.

(51) الرواية، ص: 185.

(52) الرواية، ص: 98.

(53) الرواية، ص: 195-196.

(54) فرشوخ: د.أحمد، جمالية النص الروائي-مقاربة تحليلية لرواية (لعبة النسيان)، ص: 41.

(55) وهبة: مجدي، و المهندس: كامل، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، بيروت، ط: 02، 1998م، ص: 198.

(56) التونجي: د.محمد، المعجم المفصل في الأدب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ج: 01، ط: 01، 1993م، ص: 523.

(57) يوب: محمد، القصة القصيرة جداً الخروج عن الإطار، منشورات دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، 2015 م، ص: 19 .

(58) صحراوي: د.إبراهيم، تحليل الخطاب الأدبي-دراسة تطبيقية-، ص: 204.

(59) مرتاض: د.عبد الملك، تحليل الخطاب السردي-معالجة تفكيكية سيميائية مركبة لرواية (زقاق المدق) -، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1995م، ص: 195.

(60) مرتاض: د.عبد الملك، تحليل الخطاب السردي-معالجة تفكيكية سيميائية مركبة لرواية (زقاق المدق) -، ص: 196.

(61) الرواية، ص: 14-15.

(62) طالب: د.أحمد، الزمان: آلية منطق السرد، مجلة الفيصل الأدبية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، المجلد السادس، العدد المزدوج: 1و2، ذو القعدة1430 ه/المحرم1431ه/صفر-ربيع الآخر1431ه، ص: 52.

(63) مرتاض: د.عبد الملك، تحليل الخطاب السردي-معالجة تفكيكية سيميائية مركبة لرواية (زقاق المدق) -، ص: 217 .

(64) الرواية، ص: 51-52.

(65) الرواية، ص: 7.

(66) الرواية، ص: 157-158.

(67) الرواية، ص: 167.

(68) نبيغ: د.سعاد، النظام الزمني في رواية (دار الباشا)، مجلة حوليات الجامعة التونسية، جامعة منوبة،، عدد: 48، 2004 م، ص: 145.

(69) الرواية، ص: 145.

(70) الرواية، ص: 37.

(71) الرواية، ص: 118.

(72) لوكاش: جورج، الرواية التاريخية، ترجمة: د.صالح جواد الكاظم، وزارة الإعلام، بغداد، 1978م، ص: 46.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم