صحيفة المثقف

عمرون علي: إدراك العالم الخارجي.. بين فاعلية الإرادة وقوة العادة

عمرون علي "لا توجد سلطة أخرى لدى الإنسان إلا إرادته، وأن الإرادة كأسس للحقيقة

لها نفوذ على اثنين، العقل والشهوة"

حنة ارنت. حياة العقل (الإرادة)


 تقديم

وفقًا للتعريف الارسطي "الإنسان حيوان ناطق ومدني بطبعه" يتنزل الادراك كفاعلية إنسانية ضمن دائرة الوعي، من حيث هو تنظيم وتفسير وتأويل للإحساسات، وبوصفه ممارسة فردية قصدية، تستوجب حضور الذات المدركة، فالفرد المدرك يرتكز على ارادته الحرة، يفكر وفق حمولة ثقافية ويتحرك ضمن أدوار اجتماعية وتاريخية بكل ما تحمله ما ارث ثقافي، هذا الثقل – تبعا لمبدأ العطالة - يؤثر حتما على إدراكه للأشياء، ويمكن القول بهذا المعنى ان الإدراك والوعي لا ينفصلان تماما كاستحالة الفصل بين شخصية المدرك والوسط التي تغذت منه وتشكلت بداخله، وينطبق هذا التوصيف على الادراك في مدلوله العام، ونعني بذلك الادراك كمصدر للمعرفة في أوسع معانيها من حيث ان معرفتنا بالعالم الخارجي هي نتاج مدركاتنا، ويشمل هذا التصور أيضا الادراك الحسي باعتباره معرفة مباشرة للأشياء عن طريق الحواس، والادراك الباطني وهو وقوف الانسان على احساساته ومشاعره الداخلية " ويشير الى الادراك الذهني وهو:" معرفة الكلي من حيث انه متميز عن الجزئيات ويقابل الادراك الحسي ." [01] 

الإدراك فعل مركب يدخل ضمن الوظائف المعرفية، من حيث انه يستهدف معرفة واعية للعالم الخارجي. هذا المفهوم يستوجب حضور الملكات العقلية من ذكاء وذاكرة وتخيل ...وحضور الجسد وتموقعه داخل هذا العالم، ليس فقط من خلال فعل الحواس ونشاط الدماغ بل ومن خلال الخبرة المكتسبة، وهو كفعل ونشاط يستوجب أيضا حضور الإرادة والعادة. ونحن هنا لا نبحث في وجود العالم الخارجي اثباتا ونفيا، امكانا واستحالة بل نستقصي من خلال هذه الورقة دور الإرادة والعادة في بناء الادراك ونتساءل: هل يمكن القول ان ادراكنا للعالم الخارجي هو نتاج ارادتنا الواعية؟ وما العلاقة بين الإرادة كقدرة والادراك كفعل وممارسة؟ وما أثر العادة على الادراك؟ وهل يمكن القول ان كل إدراك خالص من كل تأثير للعادة هو خرافة؟

أولا: الادراك والعالم الخارجي

على المستوى اللغوي، مصدر الإدراك في اللغة العربية يأتي من إدراك الشيء أي لحقه وبلغه وناله، فضلا عن إدراك الشيء أي عقله إلى فهمه، وتدارك الشيء بالشيء بمعني اتبعه به فيقال تدارك الخطأ بالصواب، والمدارك الخمس هي الحواس الخمس. لذا فان الإدراك في أحد معانيه اللغوية يأتي من الفهم والوعي لذلك الشيء أي عقله. والعقل في اللغة هو الذي يدرك حقائق الأشياء الكلية النظرية، واللفظ مشتق من عقل، أي أدرك وعرف الخطأ. فالعقل مفهوم نفسي ملازم للإدراك وظيفة اما اصطلاحا، فيمكن العودة الى ما جاء في موسوعة لا لاند من ان فعل الادراك هو:" عمل يعمله فرد وهو ينظم أحاسيسه المباشرة تنظيما مباشرا، فيفسرها ويستكملها بخيلات وذكريات، مستبعدا قدر الإمكان طابعها العاطفي والمحرك" وعند الديكارتيين يقال الادراك على الأفعال العاقلة [2]، كما يعرف الإدراك في نطاق علم النفس الاجتماعي بأنه نتاج عقلي ومعنوي لعمليات التفاعل بين الفرد وبيئته، أو بين الجماعة المعنية ومحيطها الخارجي: بمعنى إن العملية العقلية التي تسقط على حواسنا المختلفة من العالم الخارجي الذي يحيط بنا، فالإدراك لا يقتصر على مجرد إدراك الخصائص الحسية لشيء ما، وإنما إدراك ما يحتويه من رموز لها دلالاتها ومعناها [3] وهكذا فقد ظهرت في الفلسفة وعلم النفس العديد من التعاريف المختلفة لعملية الإدراك بشكل عام، ومن أهم هذه التعاريف ما يلي:01* الادراك هو عملية عقلية يتم من خلالها تعرف الفرد على محيطه الخارجيّ، عن طريق استقبال المنبهات الخارجية بحواسّه، ومن ثمّ تأويلها وتفسيرها حسب الاتجاهات الذاتية.02* هو عمليةٌ من العمليات النفسية التي يقوم الفرد من خلالها بالتعرف والوصول إلى معاني الأفراد، والأشياء، والمثيرات المختلفة، وفهم دلالاتها، بتنظيم المثيرات الحسية03* ويقصد بالادراك: عمليةٌ عقليةٌ نفسيةٌ، تساعد الإنسان على معرفة عالمه الخارجي، والوصول إلى معاني ودلالات الأشياء، وذلك عن طريق تنظيم المثيرات الحسية، لتفسيرها وصياغتها في كليات ذات معنى. ويجب ان نميز هنا بين:

* الإدراك العقليّ: الذي يرتبط بما هو مجرد وكلي وتدخل في دائرته ادراك المفاهيم المجردة والمصادرات والبديهيات، والصور والحقائق الكلية وتتجلى ثمرته في الاستنتاج .

*الإدراك الحسي: وهو تلك الاستجابة الكلية للمنبهات الحسية وعلى اعتبار انه فعل يستهدف تنظيم وتفسير الاحساسات

والمقصود بالعالم الخارجي هو المحيط والوسط المادي والاجتماعي الذي بتحرك بداخله الفرد حيث يستقبل العديد من المنبهات وهو يحاول جاهدا تفسيرها قصد التكيف معها. والعالم بالمعنى العام هو مجموع ما هو موجود في الزمان والمكان، او مجموع الاجسام الطبيعية كلها من ارض وسماء (ابن سینا، رسالة الحدود) أو كل ما سوى الله من الموجودات قديمة كانت او حادثة (تعريفات الجرجاني)، وهذه الموجودات قسمان: قسم روحاني، وهو عالم الأرواح والعقول، وقسم جسماني، وهو مجموع الموجودات المادية . يقول لیبنیز:" اذا كنت أطلق لفظ العالم ... على مجموع الأشياء الموجودة، فمرد ذلك إلى رغبتي في اجتناب القول انه يمكن أن يوجد في الأزمنة والأمكنة المختلفة عدة عوالم، لأن هذه العوالم لو وجدت لوجب عدها كلها عالما واحدا" .. ويطلق العالم بالمعنى الخاص على جملة موجودات من جنس واحد كقول ابن سينا: ويقال عالم لكل جملة موجودات متجانسة، كقولهم: عالم الطبيعة، وعالم النفس، وعالم العقل، (رسالة الحدود) ومن قبيل ذلك قولنا العالم الخارجي او العالم الحسي وهو مجموع الأشياء التي يمكن ادراکها بالحواس، ويقابله العام الداخلي، وهو مجموع الأحوال النفسية المدركة بالشعور قال الغزالي: "والعوالم كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى، كما قال سبحانه: " ولايعلم جنود ربك الا هو" (المدثر: 31)، وإنما خبره من العوالم بواسطة الإدراك، وكل إدراك من الإدراكات إنما څلق ليطلع الإنسان به على عالم الموجودات، ونعني بالعوالم أجناس موجودات ."[4]

ولا يمكن فصل لفظ العالم الخارجي عن لفظ المكان والذي تتواجد فيه الأشياء المدركة ويعني بالمكان، فلسفيا، هو ما يحل فيه الشي او ما يحوي ذلك الشي ويميزه ويحده ويفصله عن باقي الأشياء.ونجد ان اول استعمال اصطلاحي للمكان في الفلسفة قد صرح به افلاطون اذ عده حاويا وقابلا للشيء. وبعد افلاطون، اخذ مفهوم المكان يحتل اهمية متميزة في ابحاث الفلاسفة، ان خصصوا له مكانة خاصة في مؤلفاتهم التي تركوها لنا، وان اختلف تحديد المفهوم من فلسفة الى أخرى، حسب منطلقاتها.

فهو عند ارسطوطاليس بعد محلا، وعند اقلیدس، فانه ذو ثلاثة أبعاد. هي الطول والعرض والعمق.

وإذا انتقلنا إلى الفلسفة الحديثة والمعاصرة، فإننا نجد أيضا، أن مفهوم المكان يشغل أهمية خاصة، فهو عند ديكارت، الممتد في الأبعاد الثلاثة، وعند اسبينوزا ومالبرانش، هو الامتداد غير المتناهي. أما عند ليبنتز هو نظام للأشياء في معيتها، وهو فكرة مضطربة ومجرد شيء ظاهر. اما موقف جون لوك من مفهوم المكان، فهو فكرة لا محددة، ويرى بركلي آن مفهوم المكان يتألف من جملة افكار مختلفة عن المكان، وعند هیوم، هو مؤلف من أنات ولحظات ونقاط منفصلة. والمكان عند نيوتن وكلارك، كما هو عند افلاطون، حاو للأشياء، مع اضافة خاصية له هي اللاتناهي والازلية والابدية والقدم، وعدم الفناء.

اما المكان عند كانت فهو لم يأت من الاحساسات، وليس من التجربة، انه أصل التجربة، ولهذا فان توافر فكرة المكان لدينا هو الذي يساعدنا على انشاء التجربة، وهو الامتناه، وليس تصورا للأشياء، وكذلك ليس مضطربا كما هو عند ليبنتز، كما أنه ليس شيئا عقليا.وفي القرن التاسع عشر ظهرت مفاهيم جديدة للمكان، فاصبح مفهوم اقلیدس للمكان غير كاف لتفسير علاقة الأشياء بالمكان، فأثبت جاوس، وريمن، وهلموتز، ويوليالي، ولویتشفسكي، وغيرهم، أنه يوجد مكان غير المكان الإقليدي، أي يمكن تصور ابعاد عديدة للمكان، وان المكان الإقليدي ليس الا واحدا منها. [5] العالم الذي يشار إليه بالفرنسية: Univers monde، وبالإنجليزية: Universe, Word

ثانيا: مفهومي الإرادة والعادة

تندرج الإرادة ضمن الحياة العاقلة والانفعالية للإنسان والإرادة "تصميم واع على أداء فعل معيّن ويستلزم هدفا ووسائل لتحقيق هذا الهدف، والعمل الإرادي وليد قرار ذهني سابق"[6] .ولها في الفلسفة معان عدّة فهي "نزوع النفس وميلها إلى الفعل، بحيث يحملها عليه" وهي "القوّة التي هي مبدأ النزوع، وتكون قبل الفعل" وقد ورد في موسوعة لالاند أنّ الإرادة "صورة الفعاليّة الشخصيّة، التي تتضمّن في شكلها التام، تمثّل الفعل الواجب إنتاجه، ووقفًا آنيًّا للنزوع نحو هذا العمل، مع تصوّر الأسباب الموجبة للقيام به أو عدم القيام به، والشعور بقيمة هذه الأسباب، وقرار التصرّف بموجبها، والتوصّل إلى التنفيذ أو الامتناع النهائي عنه" [7] وقد وصفها توماس بينك في كتابه الإرادة الحرة فقال وهذه هي الطريقة التي استخدم بها الفلاسفة مصطلح «الإرادة» في الماضي. ففي فلسفة القرون الوسطى، على سبيل المثال، كان المصطلح اللاتيني voluntas (الإرادة) يستخدم للتعبير عن قدرتنا على اتخاذ القرارات، تلك القدرة التي لا بد أن يحركها التفكير الإتيان الفعل. وهذا هو السبب في أن هناك مصطلحا لاتينا آخر استخدمه كثير من فلاسفة القرون الوسطى للتعبير عن الإرادة وهو appetitus rationalis؛ أي الشهية العقلانية، أو القدرة الدافعة المشتملة على التفكير. وأن تكون صانع قرارات معناه أن تمتلك «شهية عقلانية»؛ أي قدرة المرء على اتخاذ القرار أو دفع نفسه للقيام بأمر ما بدلا من آخر على أساس إعمال التفكير بشأن كيفية التصرف...

خصائص الفعل الارادي

01* الفعل الارادي فعل جديد أي بعيد عن الاندفاع الالي والغريزي فهو فعل واع وقصدي.

02* فعل اختياري فالإرادة اختبارا بين مختلف الامكانيات.

03*فعل ذاتي يتغير بتغير الافراد فهناك القوي الارادة وضعيف الارادة.

04*فعل تأملي فالفرد الذي يريد شيئا ما يدرك ما يفعل وبالتالي يشعر بفعله ويدرك الغاية منه.

في مقابل ذلك تظهر العادة ".. كقدرة مكتسبة على أداء عمل بطريقة آلية مع السرعة والدقة والاقتصاد في المجهود، فتقلّل العادة من الجهد النفسي والعمل الذهني. وتخالف الغريزة في أنها مكتسبة في حين أن الغريزة وراثية» وينسحب هذا المفهوم على العادات بانواعها المختلفة ونذكر منها:

أ- العادات الحركية: وهي استعداد مكتسب لأداء بعض الحركات، والقيام ببعض الأفعال، منها ما يكون بسيطا لا علاقة له بالإرادة، ومنها ما يكون مركبا، ومنها ما يستلزم التدريب والتمرين، فهذه العادة قد بدأت بالتكرار والتعلم، ثم أصبحت بالتمرين غير محتاجة إلى الجهد والإرادة .

ب- العادات النفسية: وهي استعداد مكتسب يبعث على الإحساس أو التفكير أو الفعل على الصورة التي يحسّ أو يفكر أو يعمل بها الشخص من قبل ؛ كعادة التفكير التي تساعد على الترتيب والتناسق في الأفكار والتعمق فيها وسرعة توجيهها، أوكعادة الصبر وضبط النفس وكظم الغيظ .

ج- العادات الاجتماعية: وهي سلطة المجتمع غير المدوّنة في قوانين ودساتير، وهي محفوظة في صدور الأفراد وتحيط بهم في كل مناسبة، وفي جميع تعاملاتهم [8]

ثالثا: الادراك والإرادة تلازم في الحضور

تتمظهر الإرادة كقدرة وقوة وكسلطة، ويتضح من الوهلة الأولى كتجربة مباشرة وفورية أي كحدس ان أهمية الإرادة متأتية من قدرتها على توجيه الحواس ولذلك الملاحظة العلمية ضمن خطوات المنهج الاستقرائي مشروطة بتركيز الحواس والعقل معا لتحويل الحادث الخام الى حادث علمي، حيث الهدف هو تحديد وضبط المشكلة والتي يستحيل ادراكها دون حضور الانتباه، والإرادة تعمل على ترتيب الصور في الذاكرة وتوجيه المخيلة وتوفير الأرضية التي ينطلق من خلالها فعل الادراك وقد كان أوغسطينوس يضع الإرادة ضمن دائرة التفكير الحر حيث لا تشتغل قوة تماسك الإرادة إلا في النشاط العقلي الخالص؛ وهي واضحة أيضا في الإدراك الحسي. إنها عنصر من العقل الذي يوفر للحواس دلالتها، يقول أوغسطينوس، أنه، من وجهة النظر هذه، يجب التمييز... بین ثلاثة عناصر... أولا الواقع الذي ندرکه... واقع يمكن بالطبع أن يكون موجودا قبل أن ندرکه؛ - ثانيا، الرؤية التي لم تكن موجودة قبل حضور الموضوع لا تثير الحس ؛ - وفي مقام ثالث، ما يجلب الانتباه للموضوع المدرك... بمعنى الانتباه». ودون الأخير، وهو وظيفة الإرادة، ليس لنا سوى «مشاعر حسية، دون أن يوجد إدراك حقيقي؛ لا نشاهد أمرا إلا بتركيز الفكر على الإدراك. فيمكننا أن نشاهد دون أن ندرك، وأن نسمع دون أن نصغي، مثلما يحدث كثيرا عندما نكون شاردين. يجب وجود اليقظة الفكرية لتغيير الحاسة إلى إدراك؛ فالإرادة التي تركز الحواس على الموضوع الذي نراه وتربط بينها الواحدة مع الاخرى مختلفة، في جوهرها، عن العين التي تشاهد والموضوع المرئي: إنها جزء من الفكر، لا من الجسم [9]

الإرادة فعل وقوة منظمة، حيث الأشياء في العالم الخارجي تبدو مفككة مستقلة عن ذواتنا المدركة ولها وجودها الواقعي المحسوس، ومن خلال قوة الإرادة تصبح الأشياء مترابطة وتمنحها الذات المدركة دلالات، فانا اجلس الان في غرفتي وحيدا محاصرا بالمرض والجهل والاستبداد وهي افات تحاصر ارادتي فتبدو لي الأشياء في غرفتي ثابتة وساكنة صلبة وقاسية لا امتداد ولا افق بعيد، داخل غرفتي يلتبس الزمان بالمكان ويصبح الحاضر كالماضي ولكن سرعان ما تستعيد ارادتي سلطتها فيتغير ادراكي.

تمتزج الإرادة بالقوة المدركة في حالة الانتباه كما قدمنا وفيها يسير الانتباه الفكر ويقوده ولذلك كان الانسان مسؤولا عن آرائه بقدر ما وجهه اليها الانتباه ان ما يرد على فكر الانسان عن طريق الحس الظاهر وتداعي المعاني انما يرد على الفكر مشتتا مختلطا اذا لم تتعهده الإرادة " [10]

أن أكثر علماء النفس المدرسين لم يسلموا بهذه الحلول، لاعتقادهم أن العناصر العقلية والانفعالية لا تكفي لتكوين الارادة، قالوا: إن الإرادة مفارقة لهذه العناصر، وأنها قوة مستقلة عن غيرها من قوى النفس، وانها جوهر بسيط يفعل بكليته من غير أن يكون فعله قابلا للزيادة، أو النقصان، حتى لقد زعم (ديكارت أن إرادة الانسان كإرادة الله لا حد ولا نهاية لها. (كتاب التأملات - القسم الرابع) [11]

قيمة الإرادة مستمدة من حيث ان مصدر الادراك ولذلك فهي تحقق التكيف مع مختلف المواقف المستجدة، ولا يمكن أن تتحقق الإرادة إلا ضمن مجموعة من الشروط تسمح بأداء وظيفتها المنوطة بها منها: تصور المثل الأعلى إذ تجعل الإنسان قادرا على تحمل الصعاب والتعب والإرهاق من اجل بلوغ الهدف المنشود وأيضا الإيمان بالنفس كالتلميذ ضعيف الإرادة لا يصل إلى ادراك سبل النجاح يقول كانط:" اذا كان يجب عليك فانت تستطيع" وتساهم الإرادة في تنظيم العمل فالإرادة الصحيحة تعتمد على قوة الانضباط، إذ أن أعظم الرجال هم الذين لهم القدرة على السيطرة على عواطفهم وتنظيم حياتهم الانفعالية يقول ارسطو في كتابه الاخلاق الى نيقوماخوس:" ان تغضب هذا سهل ولكن ان تغضب في الوقت المناسب بالأسلوب المناسب هذا صعب " والإرادة تحقق المعجزات اولم يقل نابليون:" الإرادة القوية تقرب المسافات " هنا يصبح البعيد قريبا والمستحيل ممكنا، وتتخذ الإرادة عند الفلاسفة مناسبات لفك شفرات الادراك والشعور، ومعرفة النفس والوقوف على طبيعة الانسان في تحليل وإدارة الازمات لأنها تمثل القوة الخفية، او ذلك التدبير الخافت الذي يقود الاعتقاد نحو اليقين [12]

والتلازم في الحضور بين الإرادة والادراك قوة وضعفا إيجابا وسلبا اثباتا ونفيا واضح في في حال تعطل الإرادة يمكن الاسئناس هنا بفكرة جان بوريدان (1300-1358) ومفادها انه لا يمكن اتخاذ القرار عندما تكون الأسباب متساوية وذات معاني متناقضة سواء كانت الخيارات جيدة او سيئة، هذه المفارقة اقحم فيها حمار بوريدان، كان جائعا عطشا وكان يقف على مسافة من دلو الماء وكومة الطعام لم يعرف الى أي طريق يسير ظل المسكين مترددا حائرا دون اختيار في حالة من اللاتأمل دون تصور او مداولة ودون قدرة على اتخاذ القرار ...لقد تفلسف الحمار فمات جوعا* . ولذلك قيل من الناحية المنطقية ان التفضيل بدون اختيار مستحيل. خاصة إذا كانت الدوافع متساوية والاختيارات متشابهة فان حال الانسان كحال الحمار كلاهما يبقى عالقا، وفي مواجهة حيرة الاختيار يموت الحمار ونفقد الانسان.

رابعا: الادراك بدون عادة خرافة

أعلن المجمع العلمي في فرنسا سنة 1799 موضوعا للمسابقة هو: «ما تأثير العادة على قوة التفكير؟» فدون مين دي بيران رسالة في العادة فازت بالجائزة، وأعقبها برسالة تكميلية، وقد تناول مين دي بيران تأثير العادة في ملكة التفكير، وبين الأثر الذي تحدثه في كل ملكة من ملكاتنا العقلية الكثيرة ودورها لا يقل عن دور الإرادة فلا يوجد مجهود إلا وهو إرادي، وكل فعل إرادي ينطوي على مجهود، والمجهود هو الشرط الضروري والكافي للإدراك البين.وقد بين أن فينا قوة فعلية إلى جانب الانفعال وأن تأثير العادة يختلف في الانفعال وفي الفعل؛ فالانفعالات جميعا تضعف بالتدريج حتى تنمحي إذا ما استطالت أو تكررت، كالإحساس المتصل برائحة بعينها فإنه ينتهي إلى العدم؛ لأن اتصاله وتكراره يضعف قدرة العضو الحاس على مزاولة الجهد أو الشعور بالمقاومة، في حين أن الأفعال أو الإدراكات تزداد وضوحا بازدياد حركة العضو الحاس وتضاؤل الانفعال، كالرؤية فإنها تتميز إذا ما اعتدل تأثير العضو ووهج اللون، أو ضعف الشعور بحركات عضلات العينين بتأثير العادة، وعلى العكس يغمض الإدراك حتى يصير انفعالا إذا ضعفت حركة العضو الحاس أو سكنت؛ وإذن فالإدراك غير الانفعال، ولكن العادة تكسب الأعضاء الحاسة سهولة وسرعة وسدادا في حركتها فتضعف الشعور بالقسط الفعلي في الإدراك حتى تزيله، وفي الذاكرة أيضا فعل وانفعال: فثمة فرق بين عودة الصور إلى الذهن عودة تلقائية وبين استعادتها بالإدارة، والعقل من جهته لا يتكون حقا إلا بحصوله على الألفاظ وهي إشارات إرادية وحركات مقابلة للمعانی دالة عليها، ومن شأن العادة أن تجعل العقل يربط بين هذه الحركات وبين المعاني المقابلة لها بسرعة وسداد متزايدين. [13]

يقول لارس شواب، وهو طبيب في جامعة هامبورغ ومختص في علم النفس اللغوي: "يستخدم الدماغ العادات لتوفير الطاقة". والطاقة الموفرة هي ما يحتاجه الدماغ لاتخاذ قرارات سريعة في المواقف المستجدة والعمل على تقليل المخاطر وبما ان الادراك الجيد هو نتاج حسن التنظيم والتخطيط والتطوير والتوقع ...يكون لزاما العمل على ما نسميه الاقتصاد في المجهود والذي تمنحه العادة لصاحبها وهذا العمل يكون مفيدا كلما امكن برمجة الدماغ بعادات إيجابية لاسيما في مرحلة الطفولة يقول شواب: "الجزء الأمامي من دماغ الطفل، المسؤول عن الوعي والتفكير العقلاني، نشط". ويطلق مصطلح (قشرة الفص الجبهي) على هذه المنطقة من الدماغ وكاما كانت هناك مكافاة على اتقان عادة ما فان الطفل سيكررها حتى يصبح الفعل روتينيا وهذا يسمح للدماغ بان يعمل بصورة تلقائية وتتجلى جودة الادراك عند اللاعب المحترف في كرة القدم مثلا عندما يقرر وبطريقة صحيحة كيف يتعامل مع الكرة في وضعية ما وما ذلك الا نتيجة خبرته وتعوده على ادراك الفعل ورد الفعل الصحيح في مثل هذه المواقف [14]

وهناك ميزة أخرى تمنحها العادة وهي ميزة الثبات يقول نيكولاس هوفمان:" تضمن العادات أن يظل العالم من حولنا والذات كما هو " نعم تضمن العادات ان يظل العالم من حولنا وما يحتويه من أشياء ثابتا في ادركنا له، صحيح ان هذا الثبات وهذه الصلابة قد تجعل العادة عائقا للإدراك فمن تعود على مسلك واحد في طريقه الى العمل، يصعب عليه ادراك ما يحدث على الجانب الاخر رغم إمكانية ان يوجد مسلك اخر له الأفضلية ، وسنتفق مع رافايسون بان: "العادة ترفع النشاط وتقلل من السلبية" فرفع النشاط ناتج عن تقليل الجهد، وبدل من الحركة عشوائيا يتم نقل السلوك من خلال فاعلية العادة الى نقطة محددة وانظر مثلا الى وضعية نكون فيها ملزمين بالتعامل مع شخص عنيد فبدل ان نشتت المناقشة في سلسلة من الأفعال وردود الأفعال ندرك وبطريقة حدسية نتيجة خبرات سابقة مكمن القوة والضغف عند هذه الشخصية وهو ادراك إيجابي يسمح بحسن التكيف، وانظر الى الطفل الذي يتعلم الكتابة لأول مرة يحرك جسده بأكمله ولكن بمجرد ان تستولي عليه قوة العادة ستبدأ اليد وحدها بالتحرك وهذا ما يدركه الراشد جيدا فمن خلال العادة وما تمنحه من طاقة لأداء فعل الادراك تكون الاستجابة سريعة وتلقائية .

يتجلى تأثير العادة في عمل الذاكرة وقد قيل " الادراك تذكر " فهي تعمل قبل كل شيء على حفظ الأفكار ومن هنا اعتبر برغسون حفظ قصيدة شعرية من خلال تقسيمها الى ابيات وتكرار كل بيت شعري حتى نصل الى حفظها، عمل من اعمال العادة المرتبطة بالجسد.

ويركز ستيفن كوفي في وصفه للعادات على تأثيرها الهائل فيقول: " العادات لها قوة جذب هائلة أكبر كثيرًا مما يتوقعه أو يقر به معظم الناس" .فالعادات إذًا مثل الرداء الذي يرتديه الإنسان، فكما أن الثياب تبين مظهرنا فتلك العادات تمثل شخصياتنا وسلوكنا، (وإن جميع عادتنا هي مكتسبة مثل الحال مع ثيابنا، فنحن لا نولد بأي منها، بل نتعلمها مثل ما نتعلم مواقفنا، وهي تتطور عبر الزمن وتتعزَّز عن طريق التكرار).وتُشير الكثير من الإحصائيات أن العادات تُشكِّل أكثر من 95% من سلوكنا، الأمر الذي قد يندهش منه الكثيرون خاصة وقد ترسخ لديهم أنهم يولدون بعاداتهم، ولكن الحقيقة كما صاغها جون درايدن قبل ما يزيد عن ثلاثمائة سنة: (نحن نصنع عادتنا في البداية، ثم تصنعنا عادتنا). لذلك يقول الدكتور يوسف مراد في كتابه (مبادئ علم النفس): "فائدة العادة عظيمة من حيث قيمتها في تهيئة الشخص لمواجهة مواقف جديدة تؤدي إلى تكيف الفرد مع المواقف المتشابهة وتجعله يشعر بالارتياح والتوازن النفسي", وليس هناك تصور طاهر عفيف نقي للمعاني والأهداف . فالإدراك الخالص من كل تأثير العادة سابقة هو خرافة. كما أنها خرافة أيضا تلك الإحساسات الخالصة التي تتشكل من خلالها الأفكار منفصلة عن العادة، إذ أن الإحساسات والمعاني التي تكون مادة التفكير وخطة الهدف تتأثر أيضا بالعادات التي تظهر في الأفعال، هذه الأفعال التي تؤدي بدورها إلى ظهور الإحساسات والمعاني . ومن الأمور المسلم بها عادة أن يعتمد التفكير، أو العامل العقلي من إدراكنا، على الخبرة السابقة... [15]

أضف إلى ذلك أن العادة كثيرا ما تقوي الشعور بالشيء بدلا من أن تنقصه، مثال ذلك: أنها تزيد في قوة تذوق الخمور عند الخمار، وفي قوة تمييز الألحان عند الموسيقار، والألوان عند المصور، والروائح عند الكمياوي. فهي إذن لا تنقص الإحساس، بل تنقص الانتباه. نعم أن القروي لا يسمع ضجيج المدينة بعد الإقامة فيها عدة أيام، ولكنه لو انتبه له لسمعه من جديد . قال (أغجر): أن المادة لا تضمن الاحساس عند تكرار المؤثر، بل تضعف الادراك المؤلف من الصور المنضمة إلى الاحساس . فإذا كان التكرار مصحوبا بانتباه صحح هذا الانتباه تأثير التكرار السلبي، وأبقى الشعور بالمؤثر. لأن من نتائج الانتباه أن يزيد وضوح الظواهر المدركة. فالتكرار المصحوب بضعف الشعور يولد عادة سالبة، أما التكرار المصحوب بزيادة الشعور، وجهد الانتباه، فبولد عادة موجبة. ومعنى ذلك: أن العادة لا تضعف الاحساس، بل تزيل الصور التي تنضم إلى الاحساس وتقلبه إلى إدراك. [16]

خاتمة

يجب ان نعترف وكمعادلة ان كل إحساس يتبعه على الفور إدراك وان الإحساس الخالص خرافة، وان الادراك الحقيقي يتجلى في فعل الإرادة، وكلما كان الإحساس أكثر تميزا ومألوفا ومتعود عليه كان الادراك أكثر كمالا، ولذلك يظهر خطا الحواس في بعض العادات السيئة المتصلة بالمخدرات مثلا والمرتبطة بالهلوسة ويمكن القول وبدون تحفظ ان العادة شانها شان الإرادة قابلة للتفاعل مع كل ملكاتنا العقلية انها تعفينا من العودة الى الماضي وتحرر الجسد وتجعل مخزون الطاقة متاحا لكل فعل جديد أي لكل إدراك جديد.

 

عمرون علي أستاذ الفلسفة

المسيلة – الجزائر-

..................

المراجع

[01] المعجم الفلسفي. ابراهيم مدكور. مجمع اللغة العربية . ص 6

[2] موسوعة لالاند. اندريه لالاند. منشورات عويدات بيروت –باريس ص 957

[3] انظر كتاب الادراك الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية دراسة في المبادئ الجيوبوليتيكيا -عادل البديري

[4] المعجم الفلسفي. الجزء الثاني. جميل صليبا. ص 54-46

[5] نظرية المكان في فلسفة ابن سينا. حسن مجيد لعبيدي 19-20

[6] المعجم الفلسفي. ابراهيم مدكور. مجمع اللغة العربية 1983، ص 7

[7] موسوعة لا لاند. اندريه لالاند. منشورات عويدات بيروت –باريس ص 1563

[8] إشكاليات فلسفية. السنة 3 ثانوي آداب وفلسفة. إشراف وتأليف حسين بن عبد السلام.ص 108

[9] حياة العقل. الجزء الثاني الإرادة. حنة ارنت. ترجمة أ نادية السنوسي . دار الروافد الثقافية .ص 120

[10] أصول الفلسفة. امين واصف بك. الطبعة الأولى 1921. ص114

[11] دروس في الفلسفة. جميل صليبا. ص736 

[12] الإرادة والاعتقاد ..من فلسفة القول الى نظرية الفعل ، كريم محمد بن يمينة، من كتاب فلسفة الفعل من محاولات التأسيس الى افاق النقد الطبعة الاولى 2015، منشورات الاختلاف ، ص: 63

[13] تاريخ الفلسفة الحديثة. يوسف كرم. هنداوي. ص 316

[14] لماذا يحب دماغنا الروتين؟ بقلم كاترين ايورت

[15] انظر كتاب جون ديوي الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني

[16] دروس في علم النفس. جميل صليبا . ص702

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم