صحيفة المثقف

صادق السامرائي: الإنشاء النفسي ومخاطره!!

صادق السامرائيالدنيا في عصر علمي، الكلمة العلمية فيه تعبر عن فكرة رصينة، وليس عن تصورات وآراء لا تتفق وأبسط القواعد والأصول العلمية.

ومما يثير الدهشة أن بعض الأقلام تمارس الطرح النفسي الإنشائي وتحسبه بحثا أو دراسة أو تحليلا، فتوهم الآخرين في المجتمعات التي تعز فيها الثقافة النفسية والمعرفة العلمية.

وحبذا لو أخذت على عاتقها نشر الثقافة والوعي النفسي والإجتماعي ومحو الأمية النفسية، بدلا من الكتابات التي قد تضر أكثر مما تنفع .

لأنها كتابات إحباطية تبريرية ربما تؤذي الفكر والثقافة، ولا تستند على معايير علمية ذات قيمة عملية وتطبيقية معروفة.

فقد يكون لدى المهتم بالشؤون النفسية والإجتماعية رأي أو تصور، ولا بأس من طرحه والإشارة إليه، ولكن ليس بصفة بحث أو دراسة ذات إستنتاجات وتصورات وتوصيات.

أحيانا نتناول موضوعات مختلفة ورائدنا فيما نرى ونستخلص هو الإنكار، أي ننكر المشكلة الحقيقية القائمة ونستخدم الآليات الأخرى المرتبطة بالإنكار، ونمضي في التفسير والتبرير والإسقاط والتعليل، فالبشر تحت ضغط نفسي هائل ومدمر، ونحن نتحدث عن موضوعات عجيبة في إقترابنا من الحالة المعبر عنها في سلوك ما.

فنقرأ كتابات تتناول الشخصية والسلوك الإجتماعي مبنية على رؤى وتصورات وتسمى بحوثا ودراسات، وهي تتغافل عن الأسباب الرئيسية وتريد أن تفسر ما هو قائم بما "كان يا ما كان"، وكأن ليس بالإمكان أحسن مما كان، وحبذا لو كانت نقدية بناءة ذات معطيات مفيدة .

لكنها تشيع التضليل والتمويه وتصيب الناس بأذى كبير، وتصنع سلوكا منافيا لواقع الحياة ومسيرتها الصحيحة في العالم المعاصر، وتخلو من الإيجابية، إذ تنتهي إلى نتائج سلبية ومؤيدة لديمومة الواقع وتنامي مأساويته وتداعياته.

فهل يفيد التفسير والتبرير والتمادي في إيجاد الأعذار للسلوكيات المرفوضة من جميع الجهات والأوجه والعقائد والرسالات، ونرى في ذلك بحثا أو دراسة ولا يمكننا أن نرى غير ذلك، لأن الرأي الآخر يحقق خدوشا وجروحا نرجسية لا يجوز القبول بها أبدا.

فالكتابات التي تبحث عن أعذار هي ليست دراسات ولا بحوث، وفقا لأبسط معايير الدراسات والبحوث، وقد يحسب كتابها بأنهم قد قدموا شيئا مهما ومفيدا للآخرين.

وفي حقيقة ما يفعلونه -عن قصد أو غير قصد- هو تحقيق الضرر، وإسناد الإنحراف، وتسويغ الإتجاهات السلبية المنافية للقيم والأخلاق، خصوصا عندما تكون هي كل ما يعرفه القارئ الذي لا يعرف نفسه ومرامي سلوكه ودوافعه المختلفة، بل وغير قادر على فهم مشاعره وعواطفه المتدفقة في كل الإتجاهات، ووفقا للحالات القائمة والمؤثرة في وجوده وبقائه.

فما معنى أن يتم تبرير السلوك السلبي وإيجاد المعاذير له ليبدو مقبولا ولا بد منه، بسبب ما أُخترع له من أسباب ودوافع ومنطلقات توجبه، وتقلل من حجم تحمل المسؤولية تجاه الفعل أو السلوك المدان، بل وتبريئ صاحبه من جريمة القيام به.

ولكي لا يختلط الأمر على القارئ والكاتب أيضا، يجب أن يكون التفريق واضحا وقاطعا ما بين الكتابات الإنشائية والعلمية في التصدي للظواهر النفسية والإجتماعية، فلا يجوز الخلط وإعتبار الإنشاء دراسة وبحث.

ولنخرج من عباءة التصورات والأوهام، ونتعامل بعلمية ودقة ورصانة وأمانة، مثلما تفعل الشعوب المتحضرة، التي لا يمكن لكتابات إنشائية تتناول موضوعات علمية أن ترى النور في صفحاتها المختلفة، لأنها مرفوضة وفقا للأسس والمقاييس العلمية والأخلاقية، ولأن هناك محررين علميين يقيمونها قبل أن تنشر، ويمحصونها بدقة متناهية خوفا من الخطأ الذي يعد كذبا على الآخرين، وتشويها للحقائق العلمية التي تؤكدها البحوث الرصينة والدراسات السليمة.

وقد يبدو ما نقرأه متوقعا لأن ثقافتنا البحثية والعلمية بالقياس إلى غيرنا من الشعوب لا تكاد تذكر، وما ننتجه من بحوث مهمة وذات قيمة لا أثر له ودور، بالمقارنة مع البحوث والدراسات التي تصدر في الدول الأخرى.

فما درسنا كيف نكتب بحثا أو دراسة في مدارسنا، وما تربت عقولنا على التفكير العلمي المعاصر، وإنما تتسيد على مساحة لا بأس بها من تفكيرنا أنماط خرافية وأولية سلبية قد تجاوزها الزمن بقرون.

إن حشر الموضوعات النفسية بالتفاعلات السياسية، وما تتمخض عنه من صراعات وإفرازات معقدة، قد لا يكون منصفا وموضوعيا، لأنه يقدم زاوية نظر محصورة بمفردات قليلة، ويحاول أن يميل إلى التبسيط والإستنتاج السريع الغير دقيق، رغم أنه يظهر في طبق من المنطق على مائدة من الإسناد والتعليل وربما التضليل.

فالبشر هو البشر وتفاعلاته السياسية تحددها الظروف والضغوط، وتكون القوة بكل معانيها وما يرتبط بها من مفردات، هي بوصلة السلوك البشري السياسي الأساسية ومعياره الثابت.

ويبدو أن ضعف علم الإجتماع، وندرة الدراسات والكتابات الإجتماعية في بلادنا، تشجع على خلط الأوراق ما بين العلوم النفسية والإجتماعية، وعدم الفرز ما بين النظريات النفسية والإجتماعية.

فالإقتراب من أية ظاهرة سلوكية لكي يصبح مقبولا عليه أن يكون متعددا وشاملا وليس أحاديا وحسب.

فالواقع القائم واقع إضطراب سياسي له نتائجه النفسية والإجتماعية والإقتصادية وغيرها، التي يُراد لها أن تحقق غايات كل طرف من أطرافه المتصارعة على كرسي القوة وليس العكس.

وأرجو أن لا تتشوه رؤيتنا فننظر بصورة سالبة إلى أنفسنا ومجتمعنا، ونمعن بالقسوة على الذات وعلى الغير من حولنا.

ولا بد للأقلام الواعية أن تتصدى بموضوعية وعلمية للكتابات الإنشائية، التي تتناول موضوعات ذات أهمية إجتماعية وحضارية وعلمية.

فما أحوجنا للكتابات العلمية الإيجابية، التي تمنح الأمل وتفتح بوابة للنور في جسد اليأس والإحباط والحزن المهيمن على شوارع الحياة.

وما أحوجنا لإنكار الإنكار، والتفاعل مع مفردات الواقع وحقائقه القائمة بعقل مفتوح وقلب سليم.

 

د. صادق السامرائي

...............................

* منشورة في 11\9\2007 ورأيت من الضروري إعادة نشرها لأن الإنشاء النفسي يطغى ويُقدّم على أنه دراسات وبحوث.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم