صحيفة المثقف

سامي عبد العال: سلطة الصوت في الثقافة العربية

سامي عبد العالالتراث الشفاهي هو التراثُ الأول المُؤثر في تكوين الثقافة العربية، وهو ليس تراثاً سابقاً فقط ضمن التاريخ الزمني للمجتمعات، لكنه يترك بصمات لا تُمحى بسهولةٍ على مفاهيم اليقين والحقيقة والتواصل. وهو ما لخصّه معنى الصوت وتحولاته وأصداؤه في التعامل مع الأشخاص والأفعال، لأنَّ الجانب الشفاهي يُقدَّم في الواقع على غيره من جوانب أخرى أثناء التعبير والتلقي. بل باتت الشفاهية مرتبطةً بالتعليم والتربية والسياسة، وباتت الأذنُ بمثابة الحاسة الكبرى التي تنقل اليقين إلى العقل مباشرةً، بل لا أبالغ إذا قلتُ إنَّ العقل تحوّل إلى أذن بملء المجتمع والفكر في ثقافتنا الجارية. لأنَّ الكلام هو الوسيط المرتبط بحركة الأحداث والأعمال المرتقبة.

إنّ سلطة الصوت هي (المسافة الصفر zero distance) بين (من يقُول ومن يتلقّى)، وبالتالي يصبح الصوت هو الثابت الوحيد الذي يتجاوز تلك المسافة دون استئذان. والمسافة الصفر ينعدمُ فيها التأمل والمراجعة، لأنَّ ما يُقال سيكون مَحلَّ تصديقٍ لدرجة الإلتصاق. وربما يكون الصوتُ كذلك حين يكتسب ذاتياً قوةً نافذةً لملء كافة جوانب السمع مباشرةً، ولذلك يرتهن الصوتُ لدينا بإرتفاع النبرات وتجسيدها وإلقاء الأفكار بواسطة موجات متتابعة تصم آذان المتلقي عن التدقيق والتمييز. وهذه آلية معرفية تشكلُّ بنية عامةً يكون الصوتُ فيها مركزاً يتبادل الأدوار مع كافة الحواس والمصادر المعرفية، حينئذ يكون المسموع سرديةً أو حكاية تتردد وتواصل استمراريتها. 

أظهرت التقاليد اللغوية الشفاهية أنَّه عندما (نُعبر صوتياً) عن شيءٍ ما، فسرعان ما تحمل التعبيراتُ موضوعها حيّاً. تنقله من شخصٍ إلى آخر كأنَّها مُعبَّأة بأنفاس ساخنة هي "الحضور الحي" لمعناه. بدليل أننا عندما نسمعُ الكلام المنطوق إجمالاً، فإنه يرتبط لدينا بحالة (النَفْسِ أو الأنفاس) بين المتكلم والمتلقي مباشرة. حتى أنَّه عندما نستفسر عما دار في حوار ما، نردد القول بأننا قد سمعنا بآذاننا، وأنَّ الآخرَ قد قالَ ما قالَ بعظمةِ لسانه. مما يشي بالإعتقاد في وجود(نَفْسٍ واحدةٍ) هي التي تضمن نقل المعاني والآثار المرتبةِ عليها بين الأشخاص. لدرجة إيمان بعض الاتجاهات الدينية أنَّ النصوص والتربية والتعاليم وأصول المعارف حيث لا يتلقاها مُريدٌ عن شيخٍ لا قيمة لها، وإنه شرطٌ لتعلم الدين ضرورة وجود شيخٍ لكل متعلمٍ، بل شيخ  قائم بأمور الدين لكل مواطن في الثقافة الشعبية.

وهذا في حد ذاته كان سبباً كافياً لتنصيب أصحاب الحناجر العالية والخُطباء ومنتجي (الصوتيات الدينية) أنفسهم رُموزاً للتحدث في جميع القضايا الحياتية والتدخل فيما يعنيهم وما لا يعنيهم. وكانت الأصوات الوعظية للفقهاء بالأمس القريب تملأ الساحات والحدائق والمقاهي والسيارات والحافلات رافعةً كلماتها فوق أسنة الحماس وجاريةً مع إلهاب العواطف والأحاسيس. وربما كان ذلك هو ذاته السبب وراء كثرةِ أدعياء التدين ودراويش السلطة طالما يحفظون أحاديث ونصوصاً ومقولات دينية مؤصلّة عن آخرين. وجاءت أبرز الآثار الجانبية أيضاً متمثلةً في تضخُم الخطابة وزيادة اللحن في الكلام الديني، سواء بالخُطب المنبريّة والإلقاء الدعوي أم بقراءات النصوص الأساسية (القرآن والسنة)، وغدا اللحن وطريقة الكلام أمرين مميزين دينياً في هذا الإتجاه بخلاف الخطابات الأخرى. مما أدي إلى ظهور طبقات القُرّاء من أصحاب الأصوات والنغمات المختلفة، إذ كانت لهم أساليب نطق مميزة وأصوات خاصة بالتلاوة وترتيل الآيات القرآنية.

لقد تحول القرآنُ من نص مفتوحٍ على الحياة كنص حيٍّ قابل لتعددية الرؤى والتأويل والفهم والحوار إلى مجرد(ظاهرةٍ صوتيةٍ phonetic phenomena) بالفعل. وليس هناك من علاقة جرت بين النص الأول في الإسلام ومجتمعات المسلمين سوى أصوات شيوخ التلاوة والترتيل وجرى اعتبار القرآن (خيالاً صوتياً) يستعمله الناس في المناسبات ومع أحوال الصباح والمساء ليس أكثر.  وربما هذا أكبر تحول حدث في الذهنية العربية للنص المؤسس لها داخل آفاقها الاسلامية. هو تحول إلى السلطة لا إلى قدرتنا على  مواصلة انفتاح النص القرآني.

وتلك نقطة خطيرة جداً، لأنها (عطّلت وأعاقت) قراءة القرآن بشكل مختلفٍ، لأنَّ الصوتَ يُعني التسليم والخشوع والرهبة أبعد مما لو تغير الصوت إلى شيء قابل للقراءات المختلفة. فالصوت يعني السماع المطلق لا التأمل ومراجعة القراءة والتمهل في فهم المعاني. ذلك لأن الصوت يرسم الخيال ويضع حدوداً لتأثيره في السماع على نحو كامل. لا يوجد صوت هنالك له سلطة القداسة يعطيك فرصة التعقل طويل الأمد، فالأصوات تتلاحق (كمياً وكيفياً) معاً دون فرصة أخرى.

وجزءُ من ذلك التحول أنَّ هناك نوعاً من الممارسة الرمزية لتشغيل هذا الرصيد السلطوي للصوت الديني في المناسبات وبعض المؤسسات لإكتساب مكانةٍ مضاعفة لدى الوعي العام. كأنَّ الصوت المقدّس قد تحوّل إلى تمائم وأحجبة تُعلق على الصدور وفوق الجدران وتحت الوسائد لجلب البركة والحُظوة معاً. لأن الوعي العام يسير بوقود التمسح بالمقدسات وإدعاء التدين وقبول المعتقدات كما هي، واسعمال موارد الدين الرمزية في تبرير الأعمال والأقوال.

وبلغت سلطة الصوت على خلفية القرآن درجة كبيرة، حتى قيل عن قارئي القرآن إنهم يشكلون (دولة التلاوة) في العالم العربي. ورغم عفوية العبارة إلاَّ أنَّها تنقل (النَّفس السياسي) المتعلق بالقوة الرمزية في المجتمعات الاسلامية وأيضاً تشير إلى تأثير الصوت المقدس خلال الواقع المادي بعدما كانت له الغلبةُ على كافة الأصوات الأخرى. وكأنَّ هناك دولةً ذات (سيادة جيوسياسية) تختص بسيادة النص الصوت في مقابل المكانة الكبري التي يجدها حامل الصوت والناطق به بين الناس. وبخاصةٍ في البيئات الأقل وعياً والتي تعتبر النص الديني هو أخر حبل يعتصمون به من الفقر والقهر والقمع وآثار الإستبداد. ولكن الشيء غير الإنساني أنْ يُوظّف الصوت لمآرب خاصةٍ وأن يُزيّف في الوسط الاجتماعي. ويصبح الصوتُ كالعملة النقدية التي تحقق أرباحاً مع عمليات التداول لها.

ونتيجة السلطة المُعطَّاة للصوت، ظهرت في أغلب الدول العربية ظاهرة (أصوات الدُعاة المتجولة) في الفضاءات العمومية، وهم الأشخاص والشيوخ ورجال الدين الداعين إلى الاسلامِ معتمدين في المقام الأول على تـأثير الصوت، تأثير السماع، استعمال الأذن لتوجيه الأفراد والجماعات. وقد وضُحت تلك الظاهرة في أغلب المواقع والمؤسسات العامة في المجتمعات العربية، لا لشيء إلاَّ لأنَّ الصوت كانَ حاضراً منذراً بالعذاب أو مرغِّباً في الثواب وسرد القصص والحكايا التي تدعو إلى الدين وإلى الحياة الإيمانية كما يقولون. ولم تخلوا هذه الأصوات من تلون النبرات بحسب الموقف من الأنظمة السياسية وبالإمكان تصنيف تلك الأصوات كالتالي:

1- كانت هناك خطابات صوتية قائمة على شيوع الثقافة الدينية والشعور بالإنتماء إلى الصورة الأولى للإيمان في شخص الصحابة والسلف والتابعين. فجاء الصوتُ مستحضراً وراجعاً إلى معاني تلك الأصول في السلوك والأخلاقيات ونمط الحياة.

2- كان هناك حضور للصوت الديني في الساحات العامة من باب التذكير ليس أكثر، وأنْ يكون هذا الصوت متعلقاً بمصادره الإسلامية دفعاً للناس لكي يعيشوا حالة الإسلام في كافة الأحوال. وهي أصوات الدعاة الذين يصضعون المجتمع  كهدف للأصوات الواعظة.

3- هناك الداعون إلى الإسلام ضمن مآرب حداثية ومعاصرة، وهم الدعاة الجُدد الذين نشروا خطبهم ودروسهم الدينية الصوتية بين الشباب وطلاب الجامعات وخلال رتم الحياة اليومية وأنشطتها. وربما هذه الأصوات قد وجدت حيزاً من الآذان، نتيجة انتشار التدين السطحي وتحول الصوت الديني إلى صوت مودرن modern voice.

4- هناك أصوات دينية زاحمت أصوات المطربين وأهل الغناء من باب عدم ترك الساحة فارغة للفسق والفجور واللهو كما يصنف هؤلاء الشيوخ الأغاني والفنون، ولم يتوانوا عن إغراق الفضاء العمومي بأصواتهم وتسجيلاتهم المتواصلة بمناسبة وغير مناسبة.

5- هناك أصوات دينية أخذت مواقف من الأنظمة السياسة، فشرعت في خلط النقد السياسي بالمواعظ واستعمال المواد الدينية في توصيل المضمونين معاً (الديني- السياسي)، وكانت الأصوات تُضَّفر الآيات القرآنية والأحاديث وأقوال الصحابة بالآراء السياسية ونقد سلوك الطبقة الحاكمة وتصرفات المسئولين والأغنياء.

6- هناك أصوات اسلامية مؤدلجة تنتقد السياسات نقداً دينياً بين خفيفٍ وحادٍ وملون، وهم أمراء وشيوخ الجماعات الدينية كالإخوان والسلفية الذين يعملون على الأرض، وهم الذين وجدوا معايير في التنظيرات الأيديولوجية للإسلام السياسي. وكان الصوت عالياً أو خفيضاً بمقدار ما يخذ أصحابه من منافع السلطة وبقدر السماح لهم بالحركة في الشارع.

7- انتشرت أصوات تكفيرية أعلنت تكفير الحكام والمجتمع ككل، ولم تتوان عن إطلاق عقيرتها العالية لأشاعة الخوف والترهيب في المجتمعات العربية، وقد استعملت نبراتها المتشددة مع طرائق النطق والكلام والتعبير عن المعاني. ولعلنا قد لاحظنا في وقته وجود مقاطع تكفيرية صوتية أخذت في الانتشار كإنتشار النار في الهشيم.

8- هناك أصوات دينية تعبر عن مواقف أنظمة الحكم، مثل بعض أهل الافتاء والوعاظ ورجال الدين الذين يعملون بمؤسسات الدولة. وهم فقهاء رسميون يقايضون أصواتهم برضا الدولة وتلقي الأوامر والدعم السياسي في القضايا المختلفة.

9- أصوات دينية ظهرت على ألسنة الحكام والمسئولين وهم الذين يستخدمون الدين في الخطابات السياسية في غير مناسبة مستغلين رصيد التعلق بالمقدسات لدى الناس. والأصوات في هذا الإتجاه لون من الاستثمار لرأسمال الدين، أي النصوص والرموز والتراث والقصص والسرديات الدينية.

10- هناك أصوات دينيةٌ مستعملة لدى رجل الشارع، ومصدرها الثقافة الشعبوية، وبخاص أحاد الناس أو جمعهم الذين لا يجدون ملاذاً مقبولا لهم سوى استعمال الآيات والنصوص على غرار الشيوخ لإحراز السمعة الطيبة والتقرب إلى الله ونشر السلوكيات الحسنة بين الناس، ولكن منهم أيضاً من يتقمص دور الشيوح للحصول على المكانة وأحيانا مراوغة الآخرين.

وعلى المستوى الثقافي نتيجة سلطة الصوت، انتشرت الثنائيات الشفاهية في الثقافة العربية المعاصرة بتباين مجالاتها. مثل الصوت/ الصمت، الكلام / الكتابة، الحقيقية/ الكذب، اليقين/ الزيف، الحضور/ الغياب، الفرع/ الأصل، القارئ/ المستمع. إنَّها تاريخ الاستقطاب العنيف بين (سلطة الصوت المتعال والآذان المتلقية) دون نقاشٍ ولا مراجعةٍ. ليس فقط في مضمار الدين ونصوصه، بل كان الإسقاط سمةً عامةً ويعبر عن مشكلات عقليةٍ وثقافيةٍ أعمق، حيث غطى الصوتُ مساحات شاسعةً من السياسة والصراعات وجوانب المجتمع والأفعال العامة. فليس الصوتُ صوتاً ضائعاً في البريّة لم يَستجب له أحدٌ. لكنه صوتٌ مجسّم وضخم stereographic يجثم فوق الوعي ويحمل اكراهاته الخاصة، بفضل كونه قد تشكل في أنظمةٍ ماديةٍ في الواقع. وبفضل أنه حَفر ثغرة في الوعي الجمعي نظراً لاستمرارية الشفاهية كمعيار للحقيقة وتشكيل الأفكار والتواصل الفعال، فقد كان منطيقاً أن تأتي أية قوة أخرى لتقبع في هذه الثغرة الجاهزة وبخاصة القوى السياسية.

وباتَ مما لا يُستغنّى عنه لصحةِ الاعتقاد والممارسة: هذا التلقي الصوتي المباشر من سالفٍ إلى تابع بصرف النظر عن المراجعة والنقد والاختلاف الجذري بين العصور والأزمنة. وتكاد الخلفية الصوتية تحمل جوهر معارف الدين وكيف تُواصل مسيرتها عبر التاريخ الممتد. وفي حالة غياب أطرافها سرعان ما تخلق العملية أطرافاً بالزخم نفسه، حيث لحقت تلك السمات الشفاهية بمفاهيم العقلانية والبرهان والجدل والحوار والحجاج إجمالاً. ولم يكُّن ممكناً النظر إليها من زواياً أخرى، لأنَّ الصوت له إمتياز حي في صلب الثقافة الغالبة التي تؤكد على كل شيء.

إنَّ هذا هو ما يتركُّه أثر المقدس عادةً حينما يُفرّخ ظلالاً له. والتفريخ يلتحم بإنتاج اللغة لذاتها كوسيطٍ غير مباشر وكوجودٍ شاحن للذهنيات عبر التفكر والتواصل الجمعي على نطاقٍ واسعٍ. إنّ ما يفعله صوتُ المقدس هو التالي: يترك أصداءه في تضاعيف المقولات والتعبيرات المتداولة بحكم وحدةِ الوعي. إذ قد لا يلتفت الإنسان إلى ماهيته في غيره من أشكالٍ تاليةٍ، وبالوقت ذاته سيعبر الصوتُ عما سيأتي تباعاً، نظراً لبقاء الأثر المصوّت إلى فترات طويلة. واتيان أثر المقدس – بواسطة التصورات- له وجهان. أحدهما: إعادة تكوين المفاهيم على شاكلته بطريقةٍ غير مباشرةٍ كما يحدُث في عمليات التفكير العام وفي مجال التواصل بين الناس. أمَّا الوجه الآخر، فهو وجود نماذجه الثقافية البعيدة والعميقة حيث تشكل ما يجب فعله وممارسته، ولذلك يحتاج أثر المقدس إلى وعي ناقدٍ مُتواصل بما يتركه من معانٍ.

وعملية الحضور السابقة للصوت تجري باعتقاد أنَّ المعاني واحدةٌ. كما أنها تحمل ايقاع التفكير الأصلي حول قضيةٍ ما. وليست الفكرة وراء ذلك ضرباً من المصادفة، لكنها تخترق كافة الخطابات الدينية والبلاغية والأدبية والفكرية وحتى العلمية. هذا السبق المرجعي لنقل الحقيقة كما هي شفاهية وموصولةِ اليقين المباشر، يغدو بمثابة الأولوية لسلطة الحقيقة، بينما هي في مضمونها يجب أن تكون" معكوسة". أي هي أولوية ستمثل حقيقية السلطة الرائجة الآن نظراً لتمكنها من الحاضر والواقع.

ولذلك ستُصبح تلك السلطة الشفاهية (الصوتية) نوعاً من غلق الباب أمام أيِّ نظرٍ وتأمل حولها مهما يكُّن وأنَّ كلَّ ضربٍ من ضروبها إنما هو الموت الفعلي لعملية البحث عنها. نتيجة اعتبارها كاملةَ الانجار وتنطوي على ما يجعلها فوق مستوى النقد، فالحقيقة عندئذ مجرد جثة مقدمة سلفاً. وأنها لا تخضع لعمليات الانكشاف والتدقيق، لكنها جاهزة التكوين والتقديم فقط. وليس لمتلقٍ أن يعترض ولا أن يُعْمِل فكره أبعد مما يرى، بل عليه أن يأخذها كما هي إلى نهاية المدى.

إذ يتعلق بذهنية المتلقي (القارئ) أنه طالما يتلو – هذا النحت اللغوي  العربي- حروفاً مصوتة، فإنه يتلو معها أنفاساً دلالية من مصدر أعلى دون وسيط. ولا يستطيع ايقافاً للمعنى ولا مراجعة له.  ولذلك، فعليه أن يتقبلها على نحو انفعالي- حماسي كما في السياسة والاجتماع والمعرفة. وليصبح القُرَّاء منحوتات خشبية لا حول لهم ولا قوة غير السمع والطاعة. تلك هي الفكرة المؤسسة التي كانت بمثابة الأمر الأول للسلطة الدينية ولغيرها من السلطات المتعاقبة في تلريخ المجتمعات العربية باسم المقدس. "اسمعوا وعوا واطيعوا"... مقولة كانت عصا الإيمان بالغيبيات الدينية ثم تحولت إلى عصا السياسة والاجتماع. حيث ظلت تهوي على رأس المتلقي، فيخضع لقول القائل دون حراك، رغم أنه لا يُحصر في مجال الدين بالضرورة. ومع اعتبار الكلام كلاماً بشرياً فوق المنابر وفي المحافل ومع الوعظ والارشاد، غير أنها آلية خضعت لها الطوائف والمذاهب الدينية في جغرافيا العالم الاسلامي لا العربي فقط.

وهذا ما جعل المناخ الفكري لدينا ملبداً بغلبة التقليد والاحتذاء، من جيل إلى جيلٍّ ومن طائفةٍ إلى طائفةٍ ومن جماعةٍ إلى جماعةٍ ومن تنظيمٍ إلى تنظيمٍ ومن مذهبٍ إلى مذهبٍ ومن فقهاء إلى فقهاءٍ ومن أفراد إلى أفراد وعلى التوالي من أنظمةٍ حاكمةٍ إلى أنظمةٍ أخرى. فالعبارات نفسها كما يرددها الشيوخ يرددها الأدباء والباحثون والكتاب والساسة على اختلاف ألوانهم. فهم على تباين أفكارهم يعتبرون اللغة هبة ميتافيزيقية metaphysical gift تحتاج طاعةً وتحتاج تدبيجاً خارج قدرة الإنسان على انتاج الدلالة.

وفي الثقافة الإسلامية رسَّخ مفهومُ الوحي هكذا نموذجاً لغوياً فكرياً بعينه في غير مجاله، حتى كانت تجربته الأصلية فوق مستوى الحس البشري. ويمكن التأكيد على أنَّ الوحي كذلك من جهة المصدر الإلهي. ولكن فيما هو إنساني على منواله، فلم تتلاشَ تجربته بسهولة، كما يحدث مع تجارب أدبية ابداعية خطها- على سبيل المثال- الجاحظ وأبو العلاء المعري وابن المقفع. فهؤلاء اهملت نصوصهم الأدبية لصالح ما قالوه هنا أو هناك بشأن قضايا الاعتزال والسياسة والدين والزهد. إن تجربة الوحي نتيجة تأثيرها العظيم في الذهنية الثقافية قد وضعت كل محتويات اللغة العربية (دون تفرقة ولا تمييز) في سلة التعبير المباشر عن الفكر. كأن المعنى مهما يكن مطلقاً أو غيره هو الأساس وليس اللفظ القابل للتأويل التعددي. فكانت أقرب النتائج الخطيرة: هي مصادرة القراءة المبتكرة لأي موضوع فكري. وتمَّ التحام النصوص بالمقدسات على أنها الخميرة الإلهية المنتشرة في كافة الدقيق بلغة المسيحية. فجاءت الألفاظ المعبرة عن التقديس، التأليه، التبجيل بمثابة الخلفية المؤسسة لمفاهيم اللغة.

والدليل على هذا هو تلك الألفاظ المرسومة في بداية النصوص ومقدمات الرسائل ومفتتح الخطابات العامة. ألفاظ تتعلق بالحمد للخالق أولاً  والثناء على الأسلاف والأولياء والحكام والمسئولين ورجال العلم وأقطاب الفكر (الخلط بين التوحيد والوثنية). حتى وإنْ كان الموضوع المتحدَّث عنه علمياً صرفاً كالطب والهندسة وكتب الأعشاب النباتية والجغرافيا والهندسة. وهذا يفترض الوقوف عند الحدود القصوى لنهايات التفكير للإمساك بكيفية نفاذ المعاني على غرار الأصوات المقدسة هنا أو هناك.

 

د. سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم