صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: منهج الدرس الفلسفي في الإسلام.. رؤية نقدية (2)

مجدي ابراهيمـ المنهج غاية لا وسيلة:

وبديهيٌ أن يُقال: إنه من الضروري للمثقف العربي أن يكون له وعي بتلك الحركة الفلسفية الكبرى التي أسهمت في البناء الحضاري بجهد وافر ملحوظ، حتى يستطيع أن يصل الطارق بالتليد. ولا يتسنى له ذلك الوعى بغير أن يكون له خطة منهجية تنويرية يسير عليها في دراسته للمشكلات الفلسفية والكلاميّة والصوفية، ناهيك عن الإسهامات المنهجية العلمية في الحضارة الإسلامية على التعميم.

فليس المهم أن تكدّس مباحث الفلسفة الإسلامية في ذهن المتلقي في غير منهج يفحصها وعقل مُبدع يفرزها ويحللها ويرفض منها ما يرفض ويقبل منها ما يقبل. ولكن المهم هو دراستها بعمق وتؤدة وغزارة، وبمنهج تنويري من شأنه أن يصقل وعي الفرد الذي يؤثر في الجماعة البشرية، وأن يقوده الوعي إلى إذاعة ما كان فهم وحلل واستنار. ومَرَدّه إلى منهج مناسب للموضوع المطروح، صالح يُعمله في موضوعات أراد لها أن تكون مدار بحثه بالدقة والانضباط.

وأغلب الظن أن مناهج تدريس الفلسفة الإسلامية بالجامعات المصرية تركز التركيز كله على الموضوعات التقليدية، ضاربة عرض الحائط بالكيفية التي يتم بها تصويب المنهج التنويري نحو الموضوعات التي يختارها الباحث منذ البداية، والذي سيؤهله استخدامه للمنهج في يوم من الأيام لإلقائه على الطلاب والباحثين سنوات تعقبها سنوات؛ خلاف تقرير المادة العلمية عليهم صماء قاحلة بلا منهج. غير أننا فيما لو كنا نعتبر أقل اعتبار بسياسة التدريس في مقررات الدراسة لألفينا أنفسنا إزاء كلمة "منهج" وهى تسبق كل مقرر من هذه المقررات أو تلك؛ لكأنما المطلوب كان واضحاً وهو: دراسة المنهج باعتباره غاية لا وسيلة، ثم كيفية استخدامه صالحاً لتفتيت الموضوع وتحليل أجزاء المادة المدروسة التي تتكون منه، وتقوم عليه، وتدور في مداره دوران حياة ووجود وفاعلية.

المعلومة من غير منهج شتات متفرق الأجزاء لا عبرة به. والنصوص بغير توظيف منهجي لا يقوم عليها اعتبار.

هناك المنهج النقدي، وهناك المنهج التحليلي، وهناك المنهج المقارن بين الأفكار والموازن بين الأشباه والنظائر في الثقافات والحضارات المختلفة، والكاشف بحكم فاعليته عن جوانب التأثير والتأثر بمقدار ما يكشف تباعاً عن جوانب الأصالة وركائز التفرُّد والإبداع. وعلم المناهج الحديثة يختص بهذا كله، ويوليه العناية والاهتمام، ويطبقه، ويطالب بتطبيقه، ولا يتعداه. فما الذي يعنيني أنا فيما لو حشدت أقوال "البغدادي" و"الإيجي" و"الشهرستاني" و"الآمدي" و"الباقلاني" و"الجويني" و"الأشعري" و"الماتريدي" وغيرهم من علماء الكلام في مشكلات الذات والصفات والجبر والاختيار والنقل والعقل .... إلى آخره، دون أن يكون هنالك منهج يخصني أنا أتناول بمقتضاه مشكلات وقضايا فلسفية أو كلامية أو صوفية، وأطرح الرأي خلاله مقدمة ونتيجة؛ فأتوصل من خلال منهجي إلى نتائج هى بطبيعة الحال الرؤية الخاصة بي ينبغي أن تدرس للطالب. وعلى الطالب ـ من بعدُ ـ وله الحرية في ذلك، أن يقبلها أو يرفضها إنْ أراد.

الرؤية منهجية بنت الحرية. والمنهج وحده هو الذي يتيح مساحة كبيرة للممارسة الفكرية المنزهة عن سطوة الأغيار، وللتفكير الحر المباشر تحت أشعة النور العقلي وفي آفاقه الرحبة المتسعة.

وليس شحن الذهن بمعلومات جاهزة صماء تتراكم على موضوعاتها حتى لتكاد تفقد الدارس رؤيته الخاصة لما عساه يدرسه ويدلي فيه بالقول أما رفضاً أو قبولاً.

وطبيعيٌ أن يتفق المنهج الذي يؤثره الباحث مع طبيعة الموضوع وطبيعة المنهج العام الذي تقوم عليه الدراسة لأي فرع من فروع الفلسفة الإسلامية، ولكن الذي ليس بطبيعي ولا هو بالبديهي كذلك هو أن يكون هناك خلط في المناهج في غير ما يحتمله الموضوع المبحوث، فترى الباحث وهو يبحث في دائرة فلسفة فلاسفة الإسلام يستخدم منهجاً ذوقياً أو خطابياً إنشائياً، أو ترى الباحث وهو يبحث في التصوف يستخدم منهجاً عقلياً؛ ليعمله في دراسة آثار الصوفية .. وهكذا .. وهكذا؛ فمثل هذا الخلط إنْ لم يؤدْ إلى سوء فهم لمضامين الفكر وأحكام الرأي وطبيعة الموضوع؛ فلا أقلّ من أن يكون مجرد ألاعيب صبيانية لا يسوغها البحث العلمي المضبوط بضوابط الحركة في إطار علاقة المنهج بالموضوع.

ــ الكشف عن الحقيقة:

ومن أشراط المنهج العلمي المضبوط أن يكون هنالك تنظيم لسلسلة من الأفكار يُراد منها الكشف عن الحقيقة حين تغيب عنا هذه الحقيقة؛ فتأتي السلسلة الفكرية، فتكشف لنا عن مجمل ما كان خُفى عنا تجاه قضية ما، أردنا بحثها أو مشكلة صوبنا أنظارنا تجاهها، بغية الوصول إلى حقيقتها، وهو ما نسميه "بالكشف عن الحقيقة". والمقصود بالكشف عن الحقيقة هو كشف عن حقيقة النقطة البحثية التي أقوم بالبحث فيها لا الكشف عن الحقيقة المغيبة المجهولة (كالمسائل الميتافيزيقية) التي لا تتصل بعالمنا بوجه من الوجوه.

فنحن نبحث في جزئية يُراد لنا كشف حقيقتها وسبر أغوارها وفق منهجية تلائم الموضوع الذي يكون الباحث بصدد البحث فيه.

وليس مطلوباً من الباحث أن يكشف حقيقة الكون بأسره، أو يدعي الوصول إلى حقائق ميتافيزيقية فوق مستطاع بحثه وفوق إمكاناته المعرفية.

فكأن الكشف عن الحقيقة يتأتى حين تتجمع أمامنا صنوف من الآراء والاتجاهات في قضية بعينها، نقف إزاؤها موقف الحائر المضطرب إنْ لم يكن موقف الجاهل الذي لا يدري من أمر مشكلته المبحوثة التي يريد كشف النقاب عنها شيئاً؛ لأنه يقف عندها فارغ الذهن من سوابق المعلومات، ينتظر أن يقوده البحث إلى الجديد، لا هو الذي يقود البحث على التقليد. ففي الحالة الأولى هو باحث بمنهج. وفي الحالة الثانية هو مقلد للآخرين بلا منهج ولا خطة يسير عليها غير التقليد.

وحين يشرع في العملية الفكرية تنتظم خطته لمعالجة مشكلته التي يريد لنا كشف حقيقتها، يواجهها وعقله صفحة بيضاء. وشيئاً فشيئاً يمضي في طريقه مع البحث محللاً للآراء المختلفة والاتجاهات المتعارضة التي تخص موضوع بحثه حتى تتكون لديه ـ من جملة ما كان حلل وفتت من آراء واتجاهات نحو قضيته المختارة ـ الرؤية الخاصة، والتي من خلالها يستطيع كشف الحقيقة لموضوعه المبحوث.

وعليه؛ يصبح السبيل الأول في المنهج هو كشف الحقيقة، ليس كشف الحقيقة الكلية المغيبة المجهولة كما قلنا، ولكن كشف حقيقة نقطة البحث. ومن خلال هذا الكشف تتكون لدى الباحث المنهجي ـ بعد المرور بقواعد المنهج العلمي ـ رؤيته الخاصّة، أي الإضافة الجديدة. وهذا السبيل هو بمثابة الخطوة الأولى التي تمكن الباحث من معرفة إمكاناته وقدراته على الصورة التي يواجه بها موضوع بحثه ويضمن ـ بمراعاته السبيل الأول للمنهج ـ العصمة من مزالق الشطط في كثير من الأحيان.

فإنّ القواعد العامة التي تهيمن على العقل وتحدّد عملياته الفكرية من شأنها ـ فيما لو كانت واضحة ـ أن تعصم الباحث من مزالق الشطط وهو يريد الوصول إلى نتائج معلومة، بل ويقينية.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم