صحيفة المثقف

محمد العباسي: بين الأمن والأمان.. الماضي الجميل والحاضر المر!

محمد العباسيبين الماضي الجميل والحاضر المر، كانت مملكة البحرين، وبإذن الله ستظل، واحة جميلة تتمتع بخيرات وأمن وحريات منذ قديم الزمان.. نحيا في ربوعها في شعور دافئ يجمع بين كافة مكوناتها البشرية في جو مفعم بالاطمئنان التام.. ولا نزال نتمتع بالطيبة التي عرفنا بها أهل الخليج بضفتيه، ولم نكن قط ممن يتنابذون بالألقاب وبالأديان والمذاهب.. فبين ظهرانينا يتعايش المسلمون مع المسيحيون ممن انتقلوا إلى البحرين واستوطنوها منذ أجيال، ومعهم بعض الأسر من اليهود العرب والهنود وغيرهم.. وعاشت بيننا أسر عديدة من كافة الأديان من الهندوس والبوذيين وأتباع المذاهب المختلفة، لكل طائفة ومعتقد معابد وكنائس ومآتم وحسينيات ومساجد وجمعيات دينية وخيرية وأندية خاصة تجمع شمل كل مجموعة يمارسون فيها طقوسهم وعباداتهم وأنشطتهم الاجتماعية دون أدنى حساسيات تحت مظلة الحريات الممنوحة كحقوق لكل ملة في ممارسة معتقداتهم دون وجل.. فالبحرين كانت ولا تزال واحة من الأمن والأمان لجميع قاطنيها من مواطنين ووافدين وزائرين.

ربما مسألتي الأمن والأمان في ظل الحريات الأخرى كانتا تشكلان أهم عناصر جودة المعيشة في هذه الجزيرة الصغيرة رغم قلة الموارد الأخرى التي أنعم الله بها على جاراتنا الخليجية من حولنا، ولكن سياسات قادتنا منذ أوائل القرن الماضي جعلت البحرين سباقة في كثير من الأمور قبل أن تلحق بنا وربما تسبقنا جاراتنا في مراحل الطفرة البترولية اللاحقة.. لكننا ورغم القدرات المتواضعة تبوأنا السبق في الصحافة وإنشاء المدارس وتعليم البنات وقيادة السيارات والبعثات الدراسية الخارجية والمصانع العملاقة في مجالات تكرير النفط وصناعة البتروكيمياويات والألمنيوم وملحقاتها من صناعات خفيفة وثقيلة والخدمات المصرفية والفندقية.. كل هذه النشاطات الصناعية والخدمية وجدت لها المرتع المشجع في ظل تمتع البحرين بالحريات المعيشية والأمن والشعور بالأمان، وهي في مجملها عوامل جاذبة ومطمئنة للمستثمرين والوافدين والمواطنين.. وحتى بعد سنوات الطفرات النفطية ومعها العمرانية في دول الخليج المجاورة حافظت البحرين على رضى الوافدين فيها من كافة الجنسيات وعلى رغبتهم في البقاء فيها رغم الفروق الكبيرة أحياناً في المكاسب المادية والعروض المغرية.

لكن الوضع بات مختلفاً في السنوات القليلة الماضية، ربما منذ الألفية الجديدة، بالذات بعد بعض النكسات الاقتصادية العالمية مما تركت بصماتها المجهضة على الحركة المصرفية والبورصة وارتفاع تكاليف المعيشة وتضاعف أسعار العقارات بشكل "جنوني" مما بات يشكل عبئاً ثقيلاً على الجميع، وربما هو المواطن الأكثر تضرراً من هذه الأوضاع.. فالوافد قد يختار العودة لموطنه أو الانتقال إلى دول أخرى أقل تأثراً بالمتغيرات أم تلك التي قد توفر لهم مكاسب مادية ورواتب وفرص أكبر.. لكن المواطن "المطحون" قد لا يحبذ ترك وطنه وأهله بذات السهولة، وإن كان الكثير من الأجيال الأصغر سناً باتوا يطرحون فكرة "الهجرة" بلا عودة بسبب العطالة والبطالة وقلة ذات اليد وصعوبات الحياة.. إنها معضلة كبيرة ألا تلتفت قياداتنا لمطالب شبابها المتعلم في توفير حياة كريمة تمنحهم الحرية والاستقلالية المالية والمعيشية وتملك المسكن وبناء الأسرة الآمنة والحياة الكريمة.

فهل لم تعد دولتنا الصغيرة تتمتع بالأمان المعيشي ولم تعد كما كانت فيما سبق من عهود كونها الملاذ الآمن لشريحة كبيرة من أهلها في ظل المنافسة مع أعداد قد لا تزال غير متكافئة من الوافدين والعمالة الآتية لنا من خلف الحدود؟   وكم هي الأصوات المنادية والمشتكية من صعوبات الحياة في ظل صعوبات جمة تثقل كواهل الآباء ممن يعينون أبنائهم بسبب قلة فرص العمل وضآلة الرواتب وصعوبات الحياة ومنغصاتها التي تتكالب عليهم بشكل مطّرد.. فمع كل الصعوبات والضائقات أتتنا قي السنوات القليلة الماضية تخلي حكومتنا (ربما مضطرة) عن الكثير من سياسات دعم بعض ضروريات الحياة من وقود ولحوم وخدمات الكهرباء والماء وغيرها، مع فرض ضرائب على البضائع والمبيعات، والتي ستتضاعف مع السنة الميلادية الجديدة 2022، لتصبح في مجملها من أسباب العناء المتراكم على كافة الأسر المتوسطة والمحدودة المداخيل.

الحمد لله أننا لم نزل نتمتع بالكثير من مظاهر "الأمن" بشكل عام، لكننا بتنا نفتقر للأمان المعيشي والمادي حتى بات المستقبل همنا الأكبر.. فقد فقدت الكثير من العوائل مصادرها المالية وفرص الاستثمار ولم تعد قادرة على مجاراة التضخم.. فبحبوحة العيش صارت من صفات غابر الأيام.. الحياة الكريمة أصبحت مهددة ولا من بريق أمل في الأفق القريب.. بل وبات المواطن يحمد الله أنه ليس من سكنة ومواطني الدول العربية والإسلامية العديدة ممن تعاني سوء الأحوال من حولنا مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا والسودان وأفغانستان ممن دمرتهم الحروب الأهلية من جهة وظلم الدول الكبرى الباغية.. نحمد الله على أننا لا نزال في كنف أوطاننا في هذه البقعة من الدنيا وفي ظل قادتنا التي تفادت وقوعنا في فخاخ مخرجات "الربيع العربي" المشئوم التي كادت أن تعصف بنا كما قد حدث من حولنا.. ونحمد الله على الرعاية الطبية التي لم نزل نحظى بها في خضم جائحة الوباء المريع الذي يعصف بالكرة الأرضية من شرقها حتى أقصى غربها.. نحمد الله كثيراً لتوفير المراكز الصحية والكثير من الأدوية والرعاية الصحية بلا مقابل.. ونحمد الله كثيرا لتوفير فرص الدراسة الإلزامية المجانية بشكل عام.. نحمد الله على البنية التحتية وتوفير مياه الشرب والكهرباء التي لا تنقطع عنا صيفاً وشتاءً كما هو الحال مع بعض الدول الشقيقة التي عصفت بها الحروب الأهلية والنزاعات السياسية التي أدت إلى تدمير بناها التحتية.. نحمد الله كثيراً ونشكره ونثني عليه لأنه لم يعد لنا غير أن نرجو من الله أن يعطف بنا ويلهمنا الصبر ويكرمنا براحة الرضا عن الخيرات القليلة الباقية التي لم نزل نحظى بها مقارنة بالكثير من دول العالم الأخرى.. فمن أهم وأعظم خصال أهل البحرين أنهم يحمدون الله كثيراً ويثقون بالله أن يرحمنا برحمته.

نعي جميعاً أن على الإنسان حمد الله وشكره على جميع النعم التي أنعم الله عز وجل بها علينا من صحة ومال وسعادة وأمن وأمان وحريات، فعلينا تجنب زوالها والمحافظة عليها بشكر الله عز وجل عليها، وهذا أقل ما نفعله.. ولعلنا أيضاً نعي أن حب المواطن لوطنه يأتي بالأساس من شعوره بأنه مدين لوطنه بالولاء ونكران الذات من أجل المصلحة العامة، في ظل شعوره بأن وطنه لم يخذله ولن يخذله.. فحين تقع الفواجع التي يشعر معها أفراد المجتمع بأن هنالك تقصير أو إهمال أو سوء إدارة من جانب المعنيين بشؤون تسيير وتيسير الأمور يفقد معها الثقة والشعور بالأمان والطمأنينة على المستقبل.. ومعها تتعالى نداءات تنم عن اليأس وفقدان الأمل، ومعها تهترئ وشائج الولاء المتوارثة منذ قديم الزمان.. وتحل محلها بوادر الخلل المجتمعي والنفسي بسبب عصف الشدائد المتكالبة وتراكماتها السلبية.. وتختفي معها مشاعر السعادة والرضا والراحة ومشاعر الأمان التي لطالما تشدقنا بها عبر أجيال متلاحقة، وهي كانت خير ما تتميز به مملكتنا الجميلة وهذا الشعب الطيب البسيط!.

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم