صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: بنية الهوامش السردية بين الفتيات المفقودات والأميرات السجينات

حيدر عبدالرضامباحث قرائية في رواية (أغنية هادئة) للكاتبة ليلى سليماني (3)

توطئة: تشكل خاصية مفهوم ومدلول الفضاء المغلق في مساحة رواية (أغنية هادئة) ذلك القطب القائم بذاته وصولا نحو مقولة اللغة والملفوظ التواصلي في تمفصلات الزمن الروائي وعبر مواقع مهيمنة من مؤديات ممارسة الدوال الفعلية والضمنية في مفترض الصناعة الدلالية المخصوصة في تداولية رؤى وحركية وتأشيرية الصفات والأفعال والظواهر البنيوية والسيميائية المرهونة في حيثيات الشكل الوظيفي المتباين من خلال علاقات البنية الهامش المتآتية من مجال الفعل السردي المتاح على مسرح مشاهد التمثيل والتماثل النصي.

ـ الأبعاد الفضائية الشخصانية في أبنية الهامش السردي.

نستشف من خلال تمفصلات دفقات فصول رواية (أغنية هادئة) بأن العامل الشخوصي ذات تصريفات أحوالية زمنية، راح يطرح ذاته من خلال موقعه المعاين فيها ضمن جملة تفاصيل خاصة تتمركزعبر حوامل ارتكازية موغلة في العلامة والإيحاء والتخيل المشحون بأدق مواجيد الدلالة الذاتية المعزولة وما ترمي إليه من وراء ظاهرية سلوكها المؤول: (فتحت لويز مصاريع نوافذ شقتها.كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة صباحا بقليل.. ومصابيح الإنارة العمومية مازالت موقدة.. كان ثمة رجل يسير بمحاذاة الجدار في الشارع تجنبا للمطر الذي هطل بغزارة طوال الليل./ ص27) من هنا لعلنا نعاين مساحة الصوت الساردي،وهو يقف عند حدود الرؤية الشخصانية المراقبة والتي لا تتخطى آنية المشهد الخارجي،وهو الأمر الذي لم يبد معه أي حافزية استنباطية ـ تنافذية ،إلى دواخل شخصية لويز،سوى الحكي بتقديم السارد المنظور المسار المكاني الذي سوف يمنح الشخصية وما حولها من استجابة تمتلك أحداثا شعورية خاصة في الصورة الداخلية من حيز الشخصية المرسلة: (التفعيل: المرسل ــــــــ وحدة الشخصية/ الأداء: منظور مكاني/فاعل الحكي ــــــــ أجواء الشخصية ـــــــــــ أرادة الفعل) وعلى هذا النحو من الترسيمة تمنحنا قيمة مؤشرات الزمن المكاني في حدود الوحدات السردية في المشهد المعروض قاب قوسين،ثمة رؤية مصاحبة لم تبتعد بموقع المكان إلا من ناحية ما يوفر إلى السارد الشاهد والشخصية،ذلك الاقتران بين: (السارد + الشخصية = بؤرة المكان = رؤية مناظرة ـــــ بين أنا الشخصية ـــــــ فضاء المشاركة: الرؤية المصاحبة ـــــــــ السارد = الشخصية = الصورة الداخلية للحالة الشخوصية) ففي الأولى من زمن الشخصية (فتحت لويز مصاريع نوافذ شقتها) كحالة تجاوز يذهب بمصداقية المتكلم إلى تحديد التوقيت الزمني إياه بما يهيأ لعامل الاستبطان فسحا لدواخل الصورة الخارجية للمكان نفسه بالخطية الزمنية (كانت الساعة قد جاوزت الخامسة صباحا بقليل) وهو الأمر الذي يسترع انتباها بأن موجة الزمن في حالة المكان جاء ضمن مخزون خلفية موقعية موحية بالحكي عن دلالة دواخل الحال الشخوصي لدى لويز،وما يترتب عليه من مشاهد ذات رؤية مصاحبة أخذت ترتكز في الخارج المكاني تارة وبتسليط الضوء على الداخل الشخوصي تارة أخرى: (كان ثمة رجل يسير بمحاذاة الجدار في الشارع تجنبا للمطر.. صفرت الريح في الانابيب وسكنت أحلامها./ ص27) فالسارد كلي العلم يقوم منا بأفتراض المعادل الحلمي صوتا وإحالة نحو الدور العاملي المسند للشخصية كعلاقة فاعل حالة أو إرادة فعل مواز بأستشعاراته نحو علاقة المصاحبة في الدور المرسل: (الفاعل المرسل: لويز = معادل مناوب = صفرت الريح في الأنابيب = الدور العاملي = سكنت أحلامها ــــــــــ النتيجة = علاقة مضمر) أشرنا فيما سبق أن هناك رؤية مصاحبة ومتماهية ما بين (المنظور الفاعل) بالمقابل من ناحية الناظر الفعلي ذاته،وهذان المتقابلان يشكلان بذاتهما أحداثا ونفاذا في معادلة (علاقة ترابط ـــــــ التقابل والتمثيل) وهذا ما بدا واضحا في مسار هذه الوحدات: (لويز تحب أن تنظر إلى الخارج، وتحديدا قبالة شقتها حيث يوجد منزل صغير رابض بين عمارتين كئيبتين./ ص27) من هنا نفهم ما تشتمل عليه علاقة المصاحبة في الرؤية وما تترتب عليه المعادلة في ثنائية (التقابل = التمثيل) ومن ناحية ما يمكننا الجزم بأن مظاهر الرؤية لدى الشخصية،جعلت تتصل بعلاقة وجودها الكياني المعزول ــــــ المغلق،إزاء علامة جملة (منزل صغير ــــ بين عمارتين كئيبتين) وذلك الحال يعود بالشخصية نحو الرؤية المعادلة ما بين واقع حياتها المركون وبين الحيوات التي تنتظرها،في بيت مريم وبول وطفليهما،وقد تكون القيمة التصويرية من ناحية أخرى،محض علاقة مكانية متنامية تسعى إلى الكشف عن متعلقات خاصة من حدوثية الأفعال الروائية المؤجلة والدلالة والتدليل.

1ـ الفضاء الشخوصي بين الوقائع المجردة والأطر المغيبة:

أن بنية الرواية الاجتماعية ـ النفسانية،تتطلب من قارئها الناقد أو الدارس البحثوي،الألتفات إلى أدق جزيئات المتتاليات المتخيلة في مبثوث المرسل الحدثي المزود بالذوات والمواقع الشخوصية ،لذا فإن فعل شحذ المقصد المخبوء أو المؤجل في بناء الضرورة السردية،جعل يتماهى بمقتضى طاقة تخييل مترابطة ومنفصلة في أحوال النص الروائي الذي بين يدينا ـ درسا وانموذجا،أقول من جديد بأن المسار المركب في شخصية (لويز) المربية لدى عائلة الزوجان مريم وبول،تتطلب نوعا خاصا من ثنائية الفعل العاملي،الأول: تتمثل في تكوين عالم المربية المجتهدة وكيفية قيام دورها كحاضنة دافئة لكلا الطفلين (ميلا ـ آدم) أما الثاني: فيتركز في استبطان مجمل الإيحاءات والصور والتداعيات الخاصة في مجال رؤية وفعل الشخصية لويز كوحدة عاملية في ذاتها الاجتماعية والنفسانية الخاصة بها.ولكي نؤكد الجانب الأخير دون الأول نقرأ هذه الوحدات من أجزاء النص: (شعرت بقشعريرة بسبب قلة النوم،وكشطت بطرف ظفرها زاوية النافذة.. رغم ما تبذله من جهد في تنظيفها مرتين في الأسبوع،لا تزال تبدو مكدرة،يكسوها الغبار وبعض البقع السوداء.. في بعض الأحيان تمعن في تنظيف الزجاج حتى لتكاد تكسره.. راحت تفركه بطرف إصبعها بقوة حتى تكسر ظفرها. /ص27) تحدد العلاقة هنا ما بين موقع السارد وما تختاره الرؤية الشخوصية من اتجاهات حاصلة في وقائع السرد،كما أنها ترتبط بأهواء ومزاجية نفسانية ما،إذ راحت تستبطن الاختلاف أئتلافا في بؤرة تعيين مغايرة،أقول أن الدور الأخري المناط بشخصية لويز تتكاثر من وراءه مضامين دلالية تستحق منا التوقف عندها،لأجل معاينتها بروح التقييم والتمحيص وذروة التحليل المثمرة.في كل هذا ونحن إزاء مظاهر تعبر عن حكاية المربية المثالية حقا في مكونات علاقتها بدءا من منزلها أو شقتها الغاطسة بالهامش المكاني،أو متابعة جملة حالات تنتمي بدورها الحاكي عن سيرتها برابط كونها المرأة التي تديم حفظ حدود مهنتها بصورة موفقة،فهي لا تتجاوز بطبعها وجود بقع الغبار على زجاج نافذتها،ذلك ليس لأنها داخل أهلية دور المربية التي سوف تعمل بأبهى الصور في رعاية طفلي الزوجان مريم وبول فحسب،بل أن هناك صورة داخلية للشخصية تكون أقرب إلى البؤس أو الشرود الذهني عن موقع حالها المكاني في شقتها التي لا تتعدى حدود حالة وغرفة مكممة بنافذة واحدة بصرف النظر عن حدود نافذ الحالة التي تطل منها نحو مشهد ذلك الرجل الذي يحاذي الجدار تجنبا للمطر،أو منظر ذلك البيت الصغير بين العمارتين الكبيرتين،أو حالة خروج الدم من طرف أصبعها رأيناها حاولت وبيأس كبير من تجاوز أزمنة قهرها المتمثلة ببقع الغبار رمزا معادلا،وصولا بها إلى تحضيراتها الخاصة داخل الشقة،لأجل موعدها الأول في العمل في شقة الزوجان: (لم تستطع الانتظار في بيتها.. ورغم أنها بكرت كثيرا والساعة لم تكن جاوزت السادسة صباحا،حثت الخطى إلى محطة قطار الشبكة الجهوية المربعة ـ RER ـ واستغرقت ربع ساعة تقريبا لتصل إلى محطة سان موردي فوسي. / ص29) نعاين أن السارد من خلال هذه الوحدات من الوصف الخارجي،الذي كان المراد منه أن يحمل الشخصية مؤشرات خلوصها النادر إلى خدمة عملها بالشكل اللائق،فضلا عن أنه هناك ما تود الروائية سليماني تضمينه من صورة نفسية ملائمة لفحوى شخصيتها العاملة في الوصف الخارجي، ليقرر بها ذلك المغزى من حالة الحيرة والتوتر العصابي الذي كان ماثلا في الشخصية المتوجه إلى موقع عملها،ولكن هناك سؤال يلازمنا يجعلنا في توتر أشد من حالة الشخصية ،يتلخص هذا السؤال بما تود إيصالنا إليه الكاتبة ليلى سليماني من وراء كل هذا التركيز حول دقائق شخصية مربيتها لويز؟مثالا نقول هل أن المربية لويز الرؤية البؤرية في مراكز النص مثلا؟أم إن فعالية البناء الهامشي من الدور العاملي في النص تستند عليه كامل المحاور الثيمية الأخرى المكملة للرواية؟.في الواقع إن جميع مصاحبات الشخصية لويز الخارجية والداخلية،قد أتى بما هو تجسيدا لملامح ضمنية في مشاهد المحاور النصية من بنية وأفعال شخوصية وبطريقة تجاوز الرؤية النفسية على حساب حدود صور المظاهر الخارجية للشخوص،بأستثناء حدود شخصية لويز التي تحدد بها السرد كحالة متوارية عن تواصيف السرد العابر.وعندما نركز في الوحدات الخاصة بمقصورة غرفة القطار،نلاحظ مدى الدقة في عينات هذه الوحدات: (جلست في عربة القطار قبالة شيخ صيني نائم،متكوم على نفسه وقد أسند جبهته إلى زجاج النافذة.تفرست وجهه المنهك،وفي كل محطة كانت تهم بإيقاظه.خشيت أن يظل طريقه،أن يحمله القطار بعيدا عن وجهته،أن يفتح عينيه في آخر محطة،ويضطر إلى أن يقفل راجعا،لكنها لم تفعل.من الحكمة ألا تلكم الغرباء. / ص29) .

2ـ النوى والمحفزات في المتخيل السردي:

لقد قام رولان بارت في تطوير مصطلحي (النوى ـ المخفزات) في كتابه القيم (التحليل البنيوي للقصة القصيرة) وقد بين بارت مدى التقارب الواقع ما بين مفهوم الحافز والنواة،فالنوى تشكل مفاصل حقيقية للقصة ـ بحسب بارت ـ وهي تتميز بكون الفعل الذي تستند إليه يبدأ بالتناوب المتتالي لاستمرار النص أو يديمه أو يغلقه،أما المحفزات فهي تعمل على ملء الفسح الواقعة بين النوى حسب أي الناقد رولان بارت في كتابة.

ـ تعليق القراءة:

وبهذا النحو من التعيين نرى أن الكاتبة ليلى سليماني،كانت تملء الفسح المترتبة ما بين العلاقات الوجودية المقاربة ما بين الأفعال.فعلى سبيل المثال لا الحصر،نلاحظ من خلال عينات مشهد الرجل الصيني النائم،والذي حرصت لويز على عدم إيقاظه خوفا من ردود فعله السلبية نحوها،بمثابة الحالة من ملء الفواصل المرسخة ما بين بداية كل مرحلة فعلية من السرد الروائي،ولولا أننا يمكننا أيضا عدها بمرحلة سردية ما من المتن النصي ـ إي حادثة نوم الرجل ـ ولكن لا يمكننا عدها بغير مسمى (بنية الهوامش السردية) دخولا منها إلى السرد البؤري المركز في النص.وكل ما أريد قوله في هذا المبحث بأن بنية الهوامش في العمل الروائي،ما هي إلا المقاربة الدلالية المنسجمة نحو المقولة والقيمة الروائية الدالة والمكثفة. وعلى نحو ما نستدل من خلال ماهية بنية الهوامش في الرواية،كمثال أحداث أن أجور لويز تثقل كاهل ميزانية الزوجان،رغم أن الزوجة والزوج لم يتبرما من ذلك،لأن لويز احتلت مكانة محورية في دينامية الأسرة،ولما أصبحت الزوجة مريم من مقدار سعادتها بالمربية لويز تقول: (مربيتي ساحرة. لابد أنها تملك قدرات خارقة،فقد استطاعت أن تغير هذه الشقة الخانقة الضيقة إلى مكان هادىء ومشرق. / ص31) نعم كما تخبرنا الرواية بأن المربية لويز قد خاطت أزرار كل معاطف وثياب الأسرة،وأعادت خياطة حواشي كل الملابس والستائر،فيما أخذت تروض بكاء ميلا و آدم عند ذهاب الزوجان إلى عملهما بحكايات غريبة تتكرر فيها شخصيات هامشية من أيتام وفتيات مفقودات و أميرات سجينات وقصور أفرغتها الغيلان من أهلها، كما وهناك حكايات موحشة تحكيها عن عوالم حيوانات اسطورية عن طيور بأنوف مشوهة،ودببة بساق واحدة،ومخلوقات فنتازية وطوطمية ذات قرن أحادي،أو تلك الحكايات التي يموت فيها الطيبون في النهاية من دون أن يخلصوا العالم من الشر والأشرار.هكذا وجدنا بنية الهوامش الروائية في نواة ملء الفراغات النصية ما بين الأفعال المركزية في الرواية،ولكن قد لا تكون هذه الهوامش والنواة هي قمة دليل الأفعال الجوهرية في مستحدثات الدلالات الكبيرة في الرواية،أما حكايات الفتيات المفقودات والأميرات السجينات في قصور الغيلان هي الخلاصة المبثوثة في نسبية المتن الروائي،التي قد يقدر لها أن تكون لاحقا تجسيدا معادلا أو فعلا مرمزا في موضوعة غرائبية من مساحة المضمون الروائي ذات الدلالة المؤجلة.

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم