صحيفة المثقف

كاظم الموسوي: قراءة في كتاب فياض موزان.. عن العنف السياسي في العراق

كاظم الموسوييضع العنوان، البداية في النهاية، القارئ، من أول وهلة أمام التباس المعنى والمقصود منه، فالمفردتان متقابلتان، بمعنى تقابلهما بين طرفَي خط المعنى والدّلالة منها. وحتّى المؤلف وضع العنوان بتقديم وتأخير المفردَتين، فمرّة كتبه كما هو أعلاه ومرّة قلبه وسجّله؛ النهاية في البداية. ورغم ذلك فمن يقرأ الكتاب يصل إلى هدف الكاتب منهما وهناك من أشار لهذا الالتباس كما وقع فيه أو صاغ ما يبرّر لذلك، وفي كلّ الأحوال فالمعنى المقصود من كل ذلك هو ما شرحه الكاتب في فصول من الكتاب الأساس الذي تعمّد الكتابة فيه وعنه، وهو الذي يفترض أن يكون الجوهر في الكتاب ومقصده، رغم أهمية الابتداء بالعنوان، والدخول منه إلى النّص/ الكتاب.

يقدّم المؤلّف فياض موزان في كتابه صفحات من حياته الشّخصية، ومن تجربته السياسيّة أو نشاطه الحزبي، من خلال استعادة ذكرياته عن ما سمّاه أو وضعه عنواناً، العنف السّياسي وقصر النهاية نموذجاً. والكتاب في طبعته الثانية شمل توسّعاً في فصوله الأولى، أضاف معلومات إغناء وإحاطة تاريخيّة، كما رآها المؤلّف. والكتاب كما يُفهم من شرح عنوانه وتقديمه سجّل تجربة معاشة بتفاصيلها وشهادة جديدة، بوقائع يوميّة للعنف السياسي الذي عاناه المؤلّف وغيره منطلقاً من اسم السّجن الذي وصم التاريخ السياسي للعراق الرسمي، قصر النهاية، ورابطاً بينه وما عاشه شخصياً أو اطّلع عليه من عذابات العراقيّين خلال الحقب الزمنية التي ابتلوا فيها بطبيعة حكّام ورهانات وارتباطات لم تحمل خيراً للشعب والوطن.

تضمّن الكتاب مقدّمة وكتابات لرفاق المؤلّف، عنه وعن الكتاب، وخمسة فصول وملاحق، كتابات وصور من الأرشيف السياسي العراقي. في الفصلَين الأول والثاني أسهب المؤلّف في قراءة واسعة لمصطلح العنف كظاهرة وحشية، وتاريخه السياسي والديني وتجارب متعدّدة سجّلها التاريخ السياسي، وواصل في الجزء الأول من الفصل الثاني، في تفاصيل العنف، ومشاهد معروفة، خاصة في السجون العراقيّة والمجازر التي كابدها المعتقلون السياسيون وأصحاب الرأي ومناضلو الكفاح الوطني، مكملاً في الجزء الثاني، البحث عن العنف الذي تعرّضت له مكوّنات المجتمع العراقي الاجتماعية والقوميّة والدينيّة، ولا سيّما «الأقليّات» منها، من سياسات أضرّت بها وبتاريخ الحركة الوطنية والسياسية في العراق. (هنا هل يمكن الاقتراح من خلال ما وفّره الكاتب من معلومات وسعة اطّلاع في الفصلَين الآنفين أن يطوّر كل فصل في مبحث منفرد، وينشره في كتاب مستقلّ لكلّ من الموضوعين المهمّين خدمة للبحث والمسؤولية الوطنية والتاريخيّة، ويختصر محتويات صفحات هذا الكتاب؟).

في هذه الصفحات التي قاربت المئة والثلاثين صفحة، أضاء الكاتب على المكوّنات الاجتماعية والدينيّة الصغيرة وعن ممارسات العنف الوحشي والإجرامي ضدّها، فذكر ما تعرّض له الأيزيديّون، والآشوريون والبهائيّون والمندائيون والفيليون والشبك من مظالم واضطهاد ومعاناة، وأكمل عن اليهود، وعن دورهم في عصبة مكافحة الصهيونية والثقافة العربية. خاتماً الفصل في العنف والغزوة الداعشية، في تفاصيل إضافيّة وملاحظات عنها.

أما الفصول، الثالث والرابع والخامس، فهي مضمون الكتاب الذي قصده المؤلّف في النشر والطبع. أو هكذا يصل القارئ له. كمذكّرات وسيرة للكاتب. إذ احتوى الثالث ذكريات المؤلّف الأولى عن الطفولة والشباب في الحي والمنطقة التي وُلد وترعرع فيها، حي البتاوين، وسط بغداد وانتقال عائلته منه وظروف الحياة التي مرّت عليه أو عاشها ضمناً وفي صورة التغيّرات والتطوّرات الاجتماقتصادية والطبقية في أجوائه ومناخه السياسي والتحوّلات في المجتمع والبلاد عموماً. تبقى صور الطفولة والصبا مألوفة مع الصداقات الأولى والمغامرات الأولى والخيبات والتوترات والتداعيات الأولى في إطار التحوّلات والتغيّرات الفاعلة في المحيط والمجتمع. وهو الفصل المتميّز في أغلب صفحات السير والمذكرات لأغلب الكتّاب والسياسيّين.

أما الفصلان الرابع والخامس، (والخامس غير مثبت في الفهرست) فقد شغلا أكثر من ثلثَي صفحات الكتاب البالغة 491 صفحة من القطع الكبير، واحتويا جوهر العنوان وخيار الكاتب في سرد ما أراد أن يسجّله للتاريخ وللشعب والوطن عن تجربته الشخصية وما شاهده بنفسه أو نقلاً عن تجارب أخرى لرفاق له شاركوه تلك الصفحات بكل منعطفاتها. ووضع للفصل الرابع عنوان؛ العنف السياسي ضد حزب القيادة المركزية. ومنه إشارة للتعريف به سياسياً وإيديولوجياً. فهو كادر شيوعي، عضو الجهاز الصدامي في الحزب الشيوعي العراقي- القيادة المركزية، الحزب الذي انشقّ عن الحزب الشيوعي العراقي- اللّجنة المركزية، أيلول/ سبتمبر عام 1967 وقاد خطاً «عنفياً» في نضاله اليومي، والأبرز في السّرد هو تسجيل تجربة شيوعية للقيادة المركزية ودورها في التاريخ السياسي الوطني من كادر حزبي وإضافة نوعيّة لصفحات الكفاح الوطني من داخل العمل الحزبي، فتكون شهادة حيّة تُضاف إلى ما نشر عن دور الحزب. ولهذه الصّفحات أهميّتها في هذا المجال، كما تحتاج إلى شهادات و«اعترافات» ودراسات أخرى توثّق معها للتاريخ وللأجيال القادمة ما حصل وما حدث وما بقي من دروس وعبر تلك الخطوات بما فيها وما عليها.

اعتمد المؤلّف في الفصل الرابع وعنوانه على طرح رأيه في المسيرة السياسيّة، الرسميّة والحزبيّة، وما سببه العنف ونتائجه على مختلف الصّعد، والأبرز فيها حالات الانشطار والانقسام الإيديولوجي والسياسي داخل كل الواجهات الحزبية، بدءاً من الحزب الشيوعي والحزب الحاكم، البعث بعد انقلابه ووصوله إلى الحكم، وإلى الأحزاب القومية الأخرى. (ص 191 من النسخة الإلكترونية)، والتركيز فيه على الفعل السياسي المباشر عبر الانتفاضة المسلّحة في أهوار الجنوب العراقي ورسائل للشاعر الشيوعي مظفر النواب لرفيق له في حزب القيادة المركزية ومجموعة الهور وقصائد للنواب عن تلك الأيام وتدويناً لأحداثها وقيادتها، بدايتها وما حلّ بها مع أسماء المشتركين فيها. وشرح أسباب الصراعات الداخلية وانقسام الحزب، تنظيميّاً وفكرياً، ومواقفه من كل تلك التطورات.

وتطرّق إلى أسباب الصراع الداخلي وانتقد التجربة بعد سنوات من العنف والتأمّل. مؤشّراً إلى احتدام الصراع والمواقف وصولاً إلى قناعات الانشقاق وإعلان تنظيم جديد، كسب كوادر مجرّبة ومنظّمات حزبية بكاملها. أسهمت بدورها بما دفعها إلى مقابلة الأزمة بما وسّعها وطوّر الصراع فيها. «وبالتّناظر مع المجازر الدمويّة البشعة عام 1963 وحملة القمع والمطاردة التي شملت الآلاف من المثقّفين اليساريّين وانعكاساتها، زادت فاعليّة بداية ظهور حركات تمرّد، وبروز مفاهيم وآراء تدعو إلى تجديد الحركة الشيوعية في العراق، حتى أصبح أمراً لا مفرّ منه، ونتيجة حتميّة، أدّت إلى انشقاقات فكريّة وتنظيميّة طالت جسد الحزب الشيوعي العراقي.. منها: القيادة المركزية التي انطلقت في 17 أيلول1967. «فريق الكادر» الذي كان يقوده ابراهيم علاوي (نجم محمود) في أواخر عام 1966 ومجاميع صغيرة كمجموعة «الكفاح المسلح» بقيادة أمين الخيون «ابو جماهير» (الرفيق صادق) الذي كان جزءاً من فريق الكادر واختلف معهم قبل انطلاق القيادة المركزية، ورفاق من داخل الحزب الشيوعي غير مقتنعين بسياسته، منتقدين إياها، يحملون أفكار التغيير والتجديد، وأن الخروج عليه إضعاف له».(ص 202 وص 198).

بينما انتقل في الفصل الخامس إلى قصر النهاية، تاريخاً ومآلات ومصائر بشر، ارتبطت اسماؤهم به وتداخلت الصور شاهرة عنواناً مأساويّاً له، وحذفاً سياسيّاً لاسمه، وتحوّله إلى ما انتهى إليه، من قصر الرّحاب الملكي إلى مسلخ بشري، بعنوان: قصر النهاية. وفي محاولات الرّد واصل في الكتابة عن انتفاضة 3 تموز 1963، أو حركة معسكر الرشيد، أو حركة حسن سريع، ونشر تقرير الرفيق هاشم الألوسي إلى اللّجنة المركزية للحزب عنها، في تفاصيل مهمّة ودراسة مسؤولة عن الحركة والقائمين بها وخططها ورأيه في أسبابها ونتائجها وقائمة باسماء الأبطال الشهداء الذين قادوها وناضلوا بما تمكّنوا للردّ على الانقلاب الدموي وبيان رقم 13 لإبادة الشيوعيّين.

كما كتب عن تفاصيل أخرى قادته إلى العنوان: البداية في «النهاية»، عارضاً موقفاً له عن حزبه، (ص313) «كنت قبل شهرين من توقيفي الثاني في أواخر كانون الأول 1968، أفكّر في إيقاف نشاطي في حزب القيادة المركزية. بدأته في حوار مع الرفيق كاظم الصفار، عضو (ق م) ومكتبها السياسي، طرحت فيه مآخذي على نهج الحزب. خصوصاً عدم الاكتراث بمسألة الصيانة، وتعريض رفاق الجهاز الصدامي للخطر بسبب ذلك، والاندفاع الكبير والمبالغة الزائدة بإمكاناتنا المتواضعة جداً، والتي أنا على معرفة تامّة بها، وتضخيمها وإعطاءها حجماً يفوق واقعها، عبر البيانات القيادية ذات الحماس الثوري!. «وسجل ما عاناه وكابده مع المعتقلين الآخرين في القصر، مفصّلاً في أساليب التعذيب الدموي و«العنف السياسي»، ومثبّتاً قوائم باسماء المعتقلين والشهداء وحتى السجّانين ولجان التحقيق الوحشي والممارسات الإرهابية.

والجزء السادس والأخير من الفصل روايته عن قصة اختطافه من عصابات الإرهاب التي انتشرت بدعم من قوى احتلال العراق وإدارته المهيمنة على العملية السياسية في العراق بعد عام 2003. وبعد كل التفاصيل وما حملته من قصص رعب وعنف، ختم المؤلف الفصل بخاتمة: «بات من واجب مفكّرينا المبدعين، أنّى هم، أن يسترجعوا هذه التجارب، منذ «البداية» التي (ليست في النهاية) كي يقفوا عندها، بتروٍّ، وتمعّن، مراقبين مستقلّين، ثم يقيّموها واجدين لها حلولاً وبدائل، باتّة، أمست ضرورة ملحّة من أجل استشراف مستقبل مبشّر ببناء وطن، متطوّر مزدهر، ينأى عن العنف، عاجلاً ليس آجلاً، فيسود فيه السلام...» ،(ص 431). وهذه دعوة مفتوحة منه، وبالتأكيد هذه مهمّة وطنية، ثقافية، لتسجيل التاريخ السياسي العراقي ومراجعة ما حصل وما حدث والعمل على بناء دولة مدنية ديموقراطية تضع العراق في موقعه الاستراتيجي في المنطقة والعالم. كتاب فياض موزان، البداية في النهاية، صفحات من تاريخ العمل السياسي في العراق، وشهادة موثّقة، ورصينة، تضاف إلى ما صدر ونُشر من كتب دراسات ومذكّرات وقراءات في الكفاح الوطني الديموقراطي في العراق.

 

كاظم الموسوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم