صحيفة المثقف

عصمت نصّار: المدرسة الفلسفية: إدارة ومُعَلِم

عصمت نصارلم نظفر من مطالعتنا لعدد مجلة السياسة الأسبوعية عن الفلسفة بروائع المقالات وأذكى الآراء فحسب؛ بل اهتدينا أيضاً لعظم ومكانة المدرسة الفلسفية الأم في مصر ونهجها في الإدارة وأصالة ودربة معلميها، أولئك الذين ننظر إليهم الآن باعتبارهم مفكرين وقادة رأي وأرباب رسالات.

وقد المحنا في حديثنا عن الأطوار التي مرت بها المعارف الفلسفية في مصر إلى دور الجهود التي أضطلع بها قادة الرأي؛ تلك التي انتهت بهم إلى إدراج المباحث الفلسفية ضمن البرامج التعليمية في المدارس الثانوية ثم الكليات والمعاهد العليا؛ لإعداد جيل من الدراسين لتقويم الفكر السائد وحمل راية التجديد والإصلاح في شتى ميادين حياتنا الثقافية، وتربية الرأي العام، وإعداده لدفع المجتمع إلى سبيل الرقي والتمدّن والتقدّم.

كما بيّنا أن تلك الجهود لم تقتصر على المصريين فحسب؛ بل شارك فيها الأغيار المحبين والمخلصين لهذا البلد، ومنهم أكابر المستشرقين الذين قاموا بالتدريس في الجامعة المصرية ولا سيما في كلية الآداب قسم الفلسفة عند نشأته.

وسوف نقف على جهودهم في موضع آخر من هذه الدراسة، ونخص بالذكر المفكر الإنجليزي آرثر جون آربري (1905-1969م) الذي عين في 1932م رئيساً لقسم الدراسات الكلاسيكية بكلية الآداب لمدة عامين. وقد كلفه الدكتور منصور فهمي بتدريس مدخل إلى الفلسفة، وتاريخ فلاسفة اليونان وأثر كتاباتهم في الفكر الإسلامي. ويرجع ذلك الاختيار لثقافة مفكرنا الفلسفية الموسوعية حيث جمع بين دراسة الآداب الكلاسيكية واللغة الفارسية والتصوف الإسلامي بخاصّة، والثقافة الإسلامية بعامة، بالإضافة لإلمامه بأثر التراث الفلسفي في الفكر الحديث والمعاصر.

وقد تميز مفكرنا بالبساطة والوضوح في إلقاء الدروس الفلسفية باللغتين العربية والإنجليزية، ذلك فضلاً عن محاضراته عن اللغتين اليونانية واللاتينية وآدابها، ناهيك عن موضوعيته والتزامه بالحيدة في التقييم وفصله تماماً بين الدين والجنس من جهة، والعملية التعليمية من جهة أخرى. وقد أستعان بالأستاذ أبي العلا عفيفي (1897-1966م) المعيد بقسم الفلسفة -آنذاك- لمتابعة دروس الترجمة، والقواعد مع الطلاب، وكذا تدريبهم على استخدام المنهج المقارن في التصوف؛ ليجمع بذلك بين الجانب النظري والتطبيقي في دراسة المناهج والنظريات ذات الصلة. ومن مصنفات "آربري" تحقيقه لكتاب "التعرف إلى أهل التصوف" للكلاباذي (ت990م) ثم نقله إلى الإنجليزية في عام 1935م، مع كتاب "المواقف والمخاطبات" للنّفّريّ (ت965م) بعد تحقيقه أيضاً. وفي عام 1937م نشر كتاب "التوهم" للحارث المحاسبي (ت857م) وكتاب "الصدق" للخراز (ت1899م). وفي عام 1947م نشر تحقيق كتاب "الرياضة" للحكيم الترمذي (ت869م) وطبعه في القاهرة. بالإضافة إلى ترجمة العديد من قصائد محمد إقبال (ت1938م) عن الفارسية وذلك خلال توليه لكرسي الدراسات العربية والإسلامية في جامعة كمبردج، ذلك الكرسي الذي تأسس عام 1632م.

ويحمد لمفكرنا موقفه المنصف للإسلام؛ فقد تصدى بشجاعة للحملات العدائية التي شنها بعض المتعصبين والمبشرين ضد الحضارة العربية والتراث الإسلامي؛ كاشفاً الوجه الحضاري الراقي في الفلسفة الإسلامية والقيم الإنسانية المتحضرة في التراث الإسلامي بوجه عام. وقد توج دفوعه بترجمة رصينة للكثير من معاني ومضمون الآيات القرآنية مع مقدمة علمية ضافية أشاد فيها بشريعة الإسلام وتسامحه وإجلاله للعلم والعلماء، وحمايته للحريات وحقوق الأغيار في الدولة الإسلامية، وذلك كله في الفترة الممتدة من عام 1950م إلى 1955م.

والجدير بالإشارة في هذا السياق هو الإشادة بمهارة منصور فهمي في إدارة قسم الفلسفة، ولا سيما في اختياره للقائمين على تدريس مقرراتها المختلفة من أعضاء الأقسام البينية أو الأقسام ذات الصلة. فقد كلف "آربري" بتدريس التاريخ العام للفلسفة والاستفادة من اهتماماته بالبحث في التصوف الإسلامي بجانب تخصصه الدقيق في الدراسات الكلاسيكية وآدابها؛ وذلك كله حتى لا يشعر الطالب بالاغتراب أثناء الدرس الخاص للعلوم الفلسفية الفرعية.

وقد نجح هذا الجيل الرائد في تطويع الطاقات البشرية القائمة على التعليم في كلية الآداب لصالح منظومة المعارف التي تأهل طالب الفلسفة لاستيعاب كل نواحي المادة العلمية المكلف بدارستها، وهذا ما نفتقده الآن في جامعاتنا.

أمّا نهجه في الدراسة فيبدو في الجمع بين السرد التاريخي وتحليل المصطلحات وتبسيط المفاهيم ونقد الآراء والتصورات والنظريات، والكشف عن الروابط التي تصل أجزاء بنية المقرر الدراسي ببعضها. وأخيراً مقارنة الدلالات والمعاني بغيرها من الأمثلة المتشابه والأصول التي نبتت فيها كاشفاً عن العلاقة التي تربط بين الشعر والأدب والفن والفلسفة اليونانية ومؤثراتها التي انتقلت بعد ذلك إلى بنية التصوف بداية من اللغة إلى النظريات. فقد ذهب "آربري" بموضوعية العالم وحيادية الفيلسوف إلى الكثير من الحقائق خلال درسه الأول للفلسفة الذي نقل جانباً منه في هذا المقال؛ إذ سبق الكثيرين من المؤرخين المنصفين للحقيقة؛ فصرح بأن التفكير الفلسفي لم يكن قط حكراً على الثقافة اليونانية، ولم يكن من اختراع أدباء وفلاسفة الإغريق فحسب؛ بل كان مُشاع بين الثقافات التليدة المنتجة للعلوم والفنون والتربية والأخلاق؛ بل وفي الثقافات البدائية في أفريقيا وأسيا أيضاً. غير أن مفكرنا قد أوضح أن ما يميز التراث الإغريقي الفلسفي هو دقة السياق في السرد والصياغة، وعمق القضايا التي أعادوا طرحها في مناقشاتهم بعد تهذيبها وترتيب أجزائها عن ما كانت عليه في قالب المأثورات والمواعظ والآداب والفنون.

وقد برهن على ذلك بتحليله للبنية الفلسفية الإغريقية تلك التي تكشف بوضوح عن تأثرها البالغ بالثقافة السائدة في بلاد الإغريق والثقافات المجاورة، مُوضحاً أنه لم يكن المتفلسفون قبل سقراط حكماء أو أرباب نظريات، فمنهم الأدباء والمنجمين والشعراء والقصاصين والكهنة والعلماء والساسة، وقد تطورت أذهانهم بالمناقشات والجدل والمحاورات والأقوال الملغزة والتعبيرات الرمزية الخفية والتناظر حول القضايا والمسائل التي يفرضها الواقع المعيش.

أما التصورات العقلية المبررة والنظريات الناقدة فلم تطرح على مائدة التفلسف دفعة واحدة؛ كما صرح بأن مصطلح فلسفة لا يمكن للباحث المدقق التسليم برده إلى شخص بعينه أو الإجماع على ما لحق به من معانً ودلالات، الأمر الذي يقودنا إلى القول بأن مؤلفات أفلاطون وأرسطو هي نتاج معقد من تآلف أفكار لا يمكن الفصل بينها أو بين مكوناتها أو أصولها المتشابكة، وأن الأحداث التي واكبت هذين الفيلسوفين هي التي أخرجت نظرياتهما وأقوالهما لتلك الصورة التي نراها وندرسها الآن.

ولم يقف جهد مفكرنا عند الحديث عن بنية الفلسفة والعلاقة بين الأدب والتفلسف بل كان من أوائل المدرسين في الجامعة المصرية الذين أثاروا عقول طلابهم واستفزوا قرائحهم بدفعها إلى تأويل شذرات هرقليطس مثل (أن الانسجام والتآلف يرد إلى طبيعة مصدره مثل الأنغام التي تخرج من أقواس وأوتار الكمان والعزف على القيثارة) (وأن الصراعات والحروب هي أم الأشياء كلها وملكات الأذهان) (نحن لا نستطيع تكرار الغوص في نفس اليم أو التأكد من حضورنا أو غيبتنا في عين الحظة). ويبدو أن هذا المنحى من التدريبات التي كان يقوم بالإشراف عليه أبو العلا عفيفي -آنذاك- من أفضل الآليات التي تعين دارسي الفلسفة على تذوق هذا الضرب من ضروب التفكير والعصف الذهني.

ويقول مفكرنا عن هذا المنهج في تدريس النصوص المُلغزة (وهذا يمكن أن يقال أن هرقليطس Heraclitus هو أستاذ كل مفكر يعبر عن نفسه بتلك العبارات الرمزية لأنه يرى أن أقوم طريقة للتعبير عن عالم الصور والظلال أن توصف بالصور والظلال كذلك. ومن حذا حذو هرقليطس في هذا المضمار بعض متصوفي الإسلام كأبي يزيد البسطامي والحسين بن منصور الحلاج اللذان بلغا الغاية في التفنن في العبارات الرمزية المعروفة بالشطحات. وقد أحدث الإيليون وخاصة الأوائل منهم أمثال زينون Zenon وبارمنيدس Parmenides  تطوراً جديداً له أثره في تاريخ الفلسفة ذلك أن هذين الفيلسوفين لم يقنعا بالنثر وسيلة للتعبير عن الأفكار؛ بل اطلقا على كتابة مذهبيهما الفلسفيين أنهما مقلدين في ذلك الشعراء الحكماء " الذين سبقت الإشارة إليهم).

ويكشف هذا النص عن أمرين غاية في الأهميّة لدراسي الفلسفة: أولهما: وعي آربري وأبي العلا عفيفي بأهمية هذه التدريبات وأثرها على الطلاب وآلية تدريس النصوص الفلسفية على وجه الخصوص.

وثانيهما: ضرورة إلمام؛ بل تمكن أستاذ المادة العلمية من جُل مراحل تطور الفلسفة بما في ذلك الدراية بالأنساق ذات الصلة بالموضوع الرئيسي الذي يتصدى له المعلم في درسه (بنية الفلسفة، مراحل تطورها، خصائص النص الفلسفي، كيفية الربط بين الألغاز والرمز والتعمية في الأقوال بغض النظر عن سياق الموضوع أو المرحلة الزمنية التي يُصاغ فيها القول، وذلك للتدريب على العصف الذهني أو منهجية التأويل)

وينتقل مفكرنا إلى جماليات اللغة ودقة التعبير وروعة الخيال والتصورات في السرد، ساعياً في ذلك إلى إثبات أصالة الرابطة التي تجمع بين اللغة الشعريّة والأدب القصصي والأساطير والفلسفة في سياق واحد، وذلك للتعبير عن المعاني المجردة والأفكار الملهمة. ويبين أن السفسطائيين ثم سقراط وتلميذه أفلاطون خير من يعبر عن التآلف بين لغة الأدب والتصورات الفلسفية التي تعين الفيلسوف على توصيل الفكرة للمتلقي.

ويمكننا الحكم على مدى نجاح وبراعة الفيلسوف في ذلك المزج خلال اختبارنا لقدرة استيعاب المتلقي على إدراك المعاني المباشرة والمستترة والدلالات الإحالية؛ ولا سيما في المجادلات والمحاورات التي كانت تدور بين السفسطائيين والعوام من جهة، وسقراط وتلاميذه من جهة أخرى. وينتهي مفكرنا إلى أن لغة الأدب ظلت أفضل الخيوط الحريرية التي صاغها الفلاسفة بحِرَفيِّة ومهارة وفن لصناعة النسيج الفلسفي في صورة عقلانية تجمع بين الخيال والتمثيل لحبك النظريات ومنطقة القضايا المختلفة في السياسة والأخلاق والتربية والفن والمعارف العلمية، ويعني ذلك كله أن الفيلسوف مُطالب باستيعاب لغة الشعر والبناء الدرامي - في الفلسفات القديمة - للخطابات والمرويات لتوصيل ما يدور في ذهنه من أفكار مجردة ونقدات مُحللة ورؤى مستقبليّة من صنع خياله.

وذلك ليسهل على اللاحقين من المتفلسفين والمتفلسفة الوقوف على الأفكار والنظريات بغض النظر عن النسيج اللغوي الذي حمل جوهر كتاباتهم. وأقرب الأمثلة إلى ذلك نجاح المترجمين في نقل كتب أفلاطون وأرسطو ومن نحى نحوهما في فن الصياغة إلى اللغات الأخرى، واستطاعوا تخليص آرائهما من ذلك الرداء البلاغي الذي تسربلت به تلك الأفكار والتعاليم، ومن ثم لا عجب أن نشعر بأنفاس أفلاطون في تاسوعات أفلوطين وتصوف محي الدين بن عربي (ت1240م) ومعظم كتب الأخلاق الحديثة، وأن ننصت لحديث أرسطو في كتب النقد والدراما والمسرح، وذلك دون أن تحرمنا التراكيب اللغوية الحاملة للمعاني والأنساق والبنيات الفكرية من الوصول إلى المفاهيم التي كان يقصدها الكاتب أو المؤلف. ويقول آربري في ذلك : ومن هذه العجالة نرى أن أثر الفلسفة الإغريقية في الأدب الإغريقي كبير جداً وأن هذا الأثر كان لاشك حسناً : وأن اللغة والفلسفة اجتمعا ليهديا العالم بمثل تلك الدرر الأدبية النفيسة كمحاورات أفلاطون - ولا داعي لذكر غيرها-

ويجدر بنا أن نعتني بتوجيه شبيبتنا إلى مواطن المعقول في كل شئون حياتنا، وأن نصرف كل الناس إلى العمل الذي يصاحبه النظر؛ بل يجب أن نحفظ للنظر مقامه الأول، وأن نقوي الدرس العظيم للفلسفة والآداب والعلوم، وأن نساعد على تقدّمها، أي بالنظر والعمل والفلسفة والعلم، وأن نعترف بأن كليهما الكنز الحقيقي للمجتمع والأمل المتين للمستقبل.

وحري بنا أن نتسأل، هل كتبنا الفلسفية ترمي إلى تعقيد الأذهان وإرهاقها بالمصطلحات والتعبيرات الشاذة أو تسعى إلى تقعيد المناهج في التفكير لاستيعاب الأفكار التي تحملها الجمل والعبارات المكتوبة؟

ونتسأل أيضاً، هل نحن في زمن المتلاعبين بالعقول أو العابثين بلغو الكلام؟ وكيف تستشرف الفلسفة مستقبل الثقافة وهي لم تحسن قراءة الماضي ولم تستوعب وقائع الحاضر وعجزت عن ممارسة الحدس الاستنباطي، وشغلها قراءة أبراج المنجمين وكتابة حيل الساسة وأحلامهم؟

ونتسأل على استحياء عن حال مدارسنا الفلسفية والقائمين عليها ومعلميها؟ وماذا عن التلقين بغيبة الروح النقدية في دروسنا؟ ألم تمسسنا نفحة من عبق مسوح الأوائل؟

(وللحديث بقيّة مع درس آخر من مجلة السياسة الأسبوعية)

 

بقلم : د. عصمت نصّار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم