صحيفة المثقف

عقيل العبود: جنون المغارات وتداعيات أرض الفرات

عقيل العبودفي ذاكرة غادرت مشاعر أصحابها، لم يبق من تلك الحكايات إلا مقدار هذا الذي يفتقر الزمان إليه من المشاهد، ليتها الأحكام تسوق عقولنا صوب مفردات نهجها القويم.

رجل ببشرة تنحدر من أرض الفرات، مشيته كأنها تتعقبها حقائب سفر متعبة، يرتدي أربع دشاديش، ويعلق ثلاث مسابح على شاكلة قلائد، أما دورهُ على مسرح الحياة، فهو أنه متحدث على طريقة الفلاسفة، خاصة عندما يلوح بعصاه التي يختارها من غصن شجرة ذابلة، مع نعلين يحملان أصابع قدميه العريضتين، وهو يرد التحية بتمتمة تبدو غامضة.

لم يثبت من تاريخه إلا بعض ما ألفناه من انطباعات عن مظهره حين ارتبط بشوارع محلتنا التي لبس السواد أديم أحزانها، لتبدو أشبه بكيانات حجرية تستبطن في أعماقها سِمَة الزهد، والعفة، والنقاء بعيداً عن مفردات وجودنا الذي لم يعد يكترث اليوم إلا لظاهرة الغَطْرَسَة، والتَبَجُّح، والألقاب.

أما الجنون فهو مفردة ما انفكت تفرض علينا أن نتآلف مع تفاصيل أضدادها، بحثاً عن أبجديات تتيح لنا مرتبة التعايش مع مفاهيم عصر تختلط فيه المقاييس.

ندون أقوالنا، نتداول التسميات بحسب أبجدياتها المسموعة دون أن نكترث لطبيعة الإفرازات التي تقررها أفكارنا الناتجة عن أعماق مشاعرنا القلقة.

تسير بنا السرائر عبر فضاءات مظاهر واجفة، نتوقف عند مداخلها، تحاصرنا العناوين على شاكلة محاور يتم تداولها كل يوم في مجالسنا، وعبر أحاديثنا المحكومة بشروط البهرجة، والمجاملات ما يجعلنا نمضي على أساس إملاءات لا صلة لها بمنطق العقل.

مقامات أَعْرَضَت عن استحقاقاتها الدقيقة، لتتحول إلى أوصاف تتعكز على ألسنة الذين لا باع لهم إلا إشباع رغباتهم بحثاً عن الزهو، والتكبر، وتلك حصيلة فرضت نفسها، وفقاً لتداعيات عصر به تستباح حقيقة القيم.

يطلقون الكلمات جزافاً، وعلى ضوء ذلك يتم اختراع مفاهيم تبدو مألوفة للعيان، رغم أنها مشوهة وناقصة، وبذلك يتضاعف الصغير، ويتضاءل الكبير، تتغير هندسة الأشياء، والمضامين، ما ينتج عنه أن يصبح العاقل مجنوناً، والمجنون عاقلاً.

وبهذا أمسى القابع عند مفترق الطرقات يبحث عن شيء لا نقدر نحن البسطاء أن ندركه، يصفف الأحجار، ويشتغل مع مغارات صمته غارقاً في سبات هذيانه الذي لا نعرف عنه إلا كلمة اعتاد أن يرددها عندما يضايقه أحد، وهي تعني (دعني وشأني)، وبالعامية (روح). وبالفصحى (ابتعد).

أما العامة من المستهزئين فلا يهمهم إلا الثأر لذواتهم المستَفَزَة، تعبيراً عن حالة غضب تعتريهم، كونه كما يبدو لا يحترم أحداً منهم استنكارا، فهو لم يعد بحسبهم يصلح إلا لتصنيف واحد بعد أن تم نعته بالجنون منذ نهاية السبعينيات، وما بعدها رغم إنه يكتنز في عقله أفكاراً يتعذر التحقيق فيها.

يجلس بطريقة مثلث حاد الزاوية، ولا يمتلك إلا القليل من الكلام، يستنبط من أوجاع الأرض رائحة التراب المعجون بماء الحكمة، والوجع، والحياة ربما بحثاً عن أسرار لا يفهمها الآخرون.

 

عقيل العبود

.........................

* حكاية رجل يصفف الأحجار بطريقة هندسية غامضة، ويتخذ من الصمت طريقاً لأفكاره الغريبة، والتي يجهلها من يقف حوله، ليبقى لقب الجنون دون غيره ملاحقاً له.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم