صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: التقلبات المناخية وحكمة القدماء

حاتم حميد محسنعُقد مؤخرا مؤتمر قمة المناخ العالمي لتوحيد العالم في مواجهة التقلبات المناخية. ومع ان النقاشات العلمية والسياسية في هذه الاجتماعات استهدفت معالجة صلاحية نماذج المناخ، تكاليف ومنافع مختلف الاقتراحات ومشاكل المبدأ الوقائي، لكن رؤية تاريخية  يمكنها تسليط المزيد من الضوء على مشاكل المناخ الحالية.

ونظرا لأن العوامل الطبيعية مثل التغيرات في الميل المحوري لدوران الارض حول الشمس، وكمية الإشعاع الكوني القادم، والنشاطات الجيولوجية مثل انفجارات بركانية واسعة النطاق، الصفائح التكتونية،تغيرات في دوران المحيط، وكيمياء الغلاف الجوي، وتأثيرات ردود الافعال الفيزيائية والكيميائية والحرارية الهائلة، فان مناخ الارض والطقس الموسمي كان دائما وسيبقى في حالة من التدفق المستمر مع او بدون نشاطات الانسان.

وكما لاحظ ارسطو قبل اكثر من الفي سنة: "احيانا هناك الكثير من الجفاف او المطر، يسود فوق امتداد كبير ومستمر ضمن البلد. في اوقات اخرى يكون محليا، البلد المجاور عادة يحصل على مطر موسمي وربما غزير  بينما يسود الجفاف في جزء معين، او عكس ذلك، كل البلد المجاور يحصل على القليل او بلا مطر بينما جزء معين يحصل على مطر وبغزارة".

في كتابه (ملاحظات عن فرجينيا) عام 1785 وفي الفصل السابع أعلن توماس جيفرسون (1) ان "التغير في مناخنا" كان يحدث بشكل معقول جدا" لأن كلا الحرارة والبرودة يصبحان اكثر اعتدالا " وان الثلج أقل تساقطا وأقل عمقا، لايسقط لأكثر من يوم او يومان او ثلاثة ايام. بينما في السابق كما ذكر متوسطي العمر كان مستمرا وعميقا ولفترات طويلة. اما كبار السن ابلغوه ان الارض من المألوف ان تكون مغطاة بالثلج لمدة ثلاثة اشهر كل سنة. هذا التغيير خلق تقلبات سيئة بين الحر والبرد. احدى المشاكل في ميل الحرارة في الربيع كانت انها عادة تؤدي الى موجات من الصقيع المتأخر الـ "قاتل للفواكه".

في الأوقات التي لم تتوفر فيها الوسائل للوصول الى الفائض الزراعي للمناطق التي استفادت من ظروف النمو الجيدة، ادّى الطقس السيء ليس فقط الى اسعار طعام محلية عالية، وانما الى نتائج اكثر قسوة. المؤرخ البريطاني جورج دود لاحظ في عام 1856 وعندما كانت السكك الحديدية والسفن البخارية تأخذ بنظر الاعتبار هذه المشكلة  كان نقص الغلات " مروعا في نتائجه، لم يكن لدى الناس شيئا يحتفظون به، هم كانوا معتمدين على المزارعين الذين يعيشون في منطقة قريبة ، واذا كان اولئك المزارعون لديهم القليل للبيع، فان المجاعة ستكون مؤلمة جدا" .

من غير المدهش في هذا السياق، ان البايوغرافي فيليب ستوت لاحظ بانه منذ جلجامش في الزمن البابلي، نظر كل عصر الى تغيرات المناخ الكارثية كعقاب لطمع الانسان وآثامه". تساقط الامطار وما ينتج عنها من فيضانات، والجفاف والأعاصير والدفأ والبرد في غير اوانهما الى جانب المظاهر المناخية الملحوظة مثل العصر الجليدي القصير (في القرن الرابع عشر و القرن التاسع عشر) كانت تُعزى الى نطاق واسع من التغيرات البيئية الناتجة عن أفعال بشرية . فمثلا، اليوناني ثيوفراستوس "أب علم النبات"، كتب قبل الفي سنة بأن الري والزراعة غيّرا المناخات المحلية. في العصور الوسطى، جرى تفسير كل من فترات الرطوبة الطويلة والجفاف الى جانب الانجماد الطويل والمتكرر للأنهار عادة كرد سماوي للتسامح مع الشعوذة. في أعقاب العاصفة الكبرى عام 1703 (2) التي ضربت انجلترا والتي هي أشد كارثة طبيعية حتى اليوم ، جرى الإعلان عن صوم وطني في شهر جنوري عام 1704 للطلب من الله العفو والرحمة للامة. حتى دانيال ديفو في وصفه للعاصفة شعر مجبرا للكتابة:

نحن لانسأل بعد الله ابدا عن افعال الطبيعة تلك والتي هي واضحة : الطبيعة من الواضح تحيلنا الى ما وراء ذاتها، الى يد القوة اللامتناهية، مؤلف الطبيعة، وأصل جميع الأسباب .. عندما تكون آثام الامة هي السائدة وكبيرة جدا، فهي طريقة الله غير العادية للإعلان عن تدمير الامة.

في مقاله الواسع حول تاريخ إزالة الغابات، يوثّق الجغرافي والمؤرخ ميشيل وليمس اعتقاد العديد من الكتّاب ان ازالة الغابات كان السبب الرئيسي للجفاف (او قلة الامطار) والاحتباس الحراري. احدهم كان الفيلسوف الاسكتلندي ديفد هيوم الذي افترض ان الاحتباس الحراري الأخير يمكن تعقّبه رجوعا الى ازالة الغابات من جانب الانسان وهو ما سمح لأشعة الشمس بالوصول الى سطح الارض. وطبقا للعقيدة بان  زراعة الاشجار تزيد من سقوط الامطار، منح قانون ثقافة الأخشاب الامريكي لعام 1873 المستوطنين في السهول الامريكية مساحة 160 فدان مجانا شريطة ان يزرعوا الأشجار. الجفاف الطويل الذي حدث في العقود اللاحقة أبطل بالنهاية هذه العقيدة. في عام 1890 كتب الجغرافي النمساوي ادوارد بروكنر انه لاحظ ان العديد من المسؤولين الاوربيين عزوا ازالة الغابات الى قلة الامطار، والجفاف الطويل ومستويات قليلة للمياه. وفي نفس الوقت، اتّهم بعض علماء النبات الفرنسيين الفلاحين الافريقيين اللامبالين بمفاقمة التدهور المناخي المحلي عبر الاستخدام الجائر للغابات. وفي العقود الاخيرة، نُظر الى ازالة الغابات الاستوائية وخاصة الأمزون كتهديد لإستقرار مناخ العالم.

ان التقدم التكنلوجي الأخير اعتُبر ايضا كسبب في التغير المناخي. الصيف الاوربي المطير جدا عام 1816 يعود سببه حسب العديد من الناس الى الموصلات المانعة للصواعق وحتى ان هذه الوسائل اعتُبرت سببا للجفاف. في عام 1881 حذر الخبراء الامريكيون بان خطوط التلغراف ربما تغيّر من حركة الارض حول محورها، مسببة الزلازل وذوبان القطبين وفيضانات جليدية قد تمحو الجنس البشري. الأخبار الاخيرة حول هذه الفرضية تنتهي باقتراح انه "سواء أثبتت هذه النظرية صحتها ام لا ، لا وجود للشك بان شيء ما في الأونة الاخيرة حدث في التكوينات الجوية وربما أسلاك التلغراف هي السبب في هذه المسألة". اطلاق النار المكثف اثناء الحرب العالمية الاولى وتطوير اتصالات الراديو ذو الموجة القصيرة عبر الاطلسي اعتُبر سببا للرطوبة الصيفية غير العادية في العقد الاول والثاني من القرن العشرين. تكنلوجيات اخرى ساهمت لاحقا في اضطرابات المناخ بما في ذلك الانفجارات النووية في الخمسينات والنقل الفائق لسرعة الصوت في الستينات والسبعينات.

حاليا، يُعزى تغير المناخ الى الانبعاثات الغازية الكبيرة للبيوت الزجاجية الذي يعود سببه الى الاتساع الهائل لـحجم "الطبقة الوسطى العالمية" مع حبها الشديد للّحوم والسيارات ومستويات المعيشة العالية. النشطاء، في حماسهم لإعادة البناء و تقليل أثر الكوارث البيئية، يتجاهلون التكاليف الاقتصادية الهائلة لكراهتهم للوقود الكاربوني. مع ذلك، فان السجلات التاريخية تبيّن ان تعاظم الثروات وتوفر الطاقة جعل من الممكن للناس العيش افضل في مواقع متنوعة المناخ مثل مونتريال وغلاسكو وكالوفيتش وبالي ونيودلهي وهي الأماكن التي يجتمع بها ممثلو تلك البلدان في الامم المتحدة وهم ربما سعداء.

 

حاتم حميد محسن

........................

الهوامش

(1) كتاب ملاحظات عن ولاية فرجينيا للكاتب رجل الدولة والفيلسوف الامريكي توماس جيفرسون، يصف في الكتاب الاقتصاد والمصادر الطبيعية للولاية ويعرض حججه حول طبيعة المجتمع الجيد. هو عبّر عن عقيدته في فصل الدولة عن الكنيسة وتوازن السلطات وحرية الفرد. كما كتب بكثافة عن العبودية،واعتقد ان البيض والسود الامريكيين لايمكنهم التعايش جنبا الى جنب في مجتمع يكون فيه العبيد احرارا.

(2) العاصفة الكبرى هي اعصار موجي مدمر ضرب وسط وجنوب انجلترا في 26 نوفمبر 1703. الرياح القوية والعالية تسببت بانهيار 2000 من الممرات الدخانية للمباني في لندن ودمرت الغابات التي فقدت ما يقرب من 4000 شجرة بلوط. السفن قُذف بها لمئات الاميال وتوفي اكثر من 1000 بحار في منطقة واحدة. كنيسة انجلترا أعلنت ان العاصفة كانت عقابا من الله لآثام الامة.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم