صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: دراسة في عوالم أحمد سعداوي الروائية (5)

حيدر عبدالرضارواية (إنه يحلم، أو يلعب، أو يموت)

الفصل الثالث ـ المبحث (2)

التماثلات الانعكاسية للمتخيل وصيغة التحول الحلمي المخاتل


 توطئة:

أعتقد من جهتي الشخصية أن أشكال وصيغ الوظائف الدلالية في رواية (إنه يحلم، أو يلعب، أو يموت) لأحمد سعداوي، تسعى إلى توصيف حالات منتهية من الأحداث، تمثلا لها بذلك الارتباط العكسي في العلاقة الزمنية في مرتسم المخيلة، فهو إي سعداوي، ينطلق في كل وحداته السردية من ذاكرة فرضية بالصيغة الزمنية المستدعاة عبر كيفية تحول (الأنا الفاعل) في عدة محاور متواشجة أو مخالفة من دلالات السياق الموضوعي في النص.إي بمعنى أدق نقول أن معنى موضوعة الرواية، ما هي إلا إيهامات من جهة الفاعل المحور تتخذ لذاتها ذلك المستوى الزمني والعاملي والذاتي من حيز كل هيئة تصويرية ناتجة من حياة المجاور الآخر من الذات الموظفة في مقابلات الشخصية الساردة، لذا فإننا وجدنا أغلب ما حدث وسوف يحدث في ملحق الأحداث الصاعدة في الصورة السردية، ما تحملنا نحو ذلك الدال من عين الفاعل الأول من الرؤية، ولأنه يحلم أو يلعب أو يموت، تظل فاعلية الوظيفة للمحور المنفذ بما يقارب النواة اللامحددة في محكومية روابطها الحلمية المخاتلة في هويات المستعاد من إعادة الحلم الغيري بهوية الهيئة الفاعلة من الفاعل ذاته في النص.

ـ البؤرة الإيهامية وإجرائية المقتضى الاستعادي

يعتبر البعد الإيهامي عنصرا تقانيا تركيبيا في الحدود التي يكون فيها جزءا من إطار تدريجي متصاعدا أو مستعادا في حدود يحتفظ فيها بوجود علاقة تجاور مع عناصر زمنية أو مكانية أو نفسية أو حلمية تكون قريبة من الفاعل المنفذ في خلاصة مسارية متحولة في سياق متعاضد من وصولات رؤية الفاعل الشخوصي.لذا وجدنا أحداث الرواية تتوزعها علاقات متعددة ولكنها منفردة من جهة النسق والاختلاف في تناوب المطروح السردي، فضلا عن الاختلافات في التناوب هناك حالة من التضمين جاءتنا على أساس من آهلية استنبات المؤول المتضارب في الرؤية حينا وتمثيل المعنى حينا. أما السؤال الذي يلازمنا طوال قراءتنا للرواية فنستخلصه بهذه الأوجه الآتية: هل ما يقصده الروائي في محامل شخوصه ومنها المحوري تحديدا ذلك التحول المعاش داخل كل نسق كينوني من جهة المحكي؟ وهل فعلا أن ما قام بتوظيفه سعداوي ممكن أن يقدم لنصه ذلك الوصول المتماهي في علاقته التشاكلية في جوهر علاقات الدليل المحايث في صورة الأنا أو الآخر من الصورة الكلية في الحكي؟ وإذا كان الأمر كذلك بما يخص مراد القصد الروائي، فما كل هذه المجليات اللاشعورية في مظاهر التحديد النصي وما وراء حقيقة هذه المخاتلة الحلمية الاسقاطية في عملية التجسيد السردي للذات الفاعلة؟ قد يكون حجم هذا التضييق بهوية الأحوال الشخوصية، افتتانا من الروائي نفسه بحبكة إيهامية ما، قد لا توفر دائما لضرورة السياق السردي ذلك التعاضد في صور المحسوس والمعلوم والمقروء، سوى علاقات تستنطق الخفاء من عين الوضوح وقد لا توفر لنا مرحلة مؤشرة على تقانة فنية إلا في حدود دائرة فهم الروائي نفسه والذي لم يحسن في بعض الأحيان تقديم ملامح فكرته بصورة منظورة ومختبرة. أنا قد لا أعني من وراء كلامي هذا بأن النص موضع مباحثنا محض حكاية أو يوميات من ذاكرة سردية لا أكثر؟ بل أود أن أشير إلى ذلك الارتباط بين حقيقة الفاعل الحلمي الذاتي مرة وعن مساحة اشتغاله في حالات غيرية تظهر لنا وكأنها صور من حالات الفاعل نفسه. لذا فإننا سوف نتعامل وإياها في حدود تماثلات انعكاسية من حيز المتخيل القابض على صيغة من التحول الحلمي المخاتل بوسائط سبر أغوار عاملية أحوال الحلم نفسه في ملامح الفاعل المنفذ وما يحيطه من ذاكرة ومظاهر زمكانية ومرحلة اعتبارية خاصة من التصور النفسي.

1ـ التماهي المناصي والتشكيل التصوري:

نلاحظ أن ما جاءت به العتبة المناصية في تراتيبية الفصل الثاني من الرواية ضمن جملة المفتتح الفصلي بهذا الموسوم العنواني الفرعي (تعطيل الحكاية) تلازمها في منحى واضح قاب قوسين ثمة وحدات سردية منفصلة من واقع المتن الروائي، حيث بدا الروائي من خلالها ملوحا إلى قيمة دلالية مخصوصة في أتون العلاقة السردية الكامنة في المتن الفصلي: (ربما كان يفكر بما كنت أفكر به سابقا..يفكر بالتلويحتين واليدين اللتين منعهما الزجاج المظلل من أن تكونا شيئا واحدا./نديم ص43 تصدير) نفهم من وراء هذه العتبة المناصية، بأن علاقة الفاعل المنفذ بالشخصيات الأخرى من الأحداث الروائية، لا تؤخذ بمنطق خطي ما ولا من جهة مصداقية واقعية من شأنها حفظ للصورة المشهدية، ذلك التشويق المواضع لبنية اللاحق من المرسل التلفظي، بل إنها لعبة شعرية في الناتج (المابين) الذي كرسته الموصفات النفسية في أثراء فرضية الحلم. وعلى هذا النحو من الاعتبار يمكننا ملاحظة تراكيب الحلم لدى مخيلة الشاعر بالروائي، ليقدمان لنا ذلك الإطار المخصوص ما بين كينونة مخيلة الشاعر وبين متن ولغة الروائي، وبقول آخر، يمكننا النظر نحو سياق آليات التحول ما بين المكونات الحلمية التي عاشها الفاعل المنفذ في روايته، وهذه هي ذاتها مكونات المخيلة الحلمية لدى الشاعر، بدليل أن بعض وحدات الحكي نجدها تركيبية بروح المفعول الاستعاري، وليس كما تتضح لنا العلاقات في المتن السردي في الصناعة الروائية. من هنا توافينا مقدمات الفاعل المنفذ في مستهل سرد الفصل الثاني، بما يوفر لنا وجود ذلك التعالق الحلمي نحو سياق خارج عن معنى تغطية اللحظة الآنية من الزمن المتخيل من الشخصية ذاتها: (وجدتني جالسا على تلة أثناء مغيب الشمس، بينما طيور السميجي البيضاء تتهادى بأجنحتها الطويلة في عمق السماء. كانت كفاي مطويتين في ردني قمصلتي العسكرية الكبيرة. أحدق في الأفق الترابي ولا أرى شيئا جديدا. لكني أستمر في التحديق. ليس هنالك شيء آخر في هذه البرية القاحلة، سوى هذه الطيور البيضاء فوقي / كنت وحيدا، كما كنت دائما، أو أنني هكذا لأنني أرغب بالقبض على ذاتي معزولة عن أي شيء. ووجدتني أستعيد شريط اللحظات الأخيرة قبل انهدام البيت على رأسي ورأس بنية. لم أكن قلقا اتجاه شيء، ولم أفكر ببنية أو بمصيرها، كانت سكينة الموتى ترقد على صدري. / ص45 الرواية) تتوالى الصورة المتنازعة في عمق تداعيات المحور الشخوصي، بما يوفر لنا تلك الهوية المكانية ضمن بلاغة استرجاع خطاطة الذاكرة، أو ذلك الآخر الحاصل من خلال فجائعية سقوط الحلم في حادثة زمنية، من شأنها التصرف بصورة الأفعال كحالة حسية قادمة من اللامكان أو هي شحنة الأحساس الذاكراتي المدمج في محاور من دائرة الاستلطاب لسلطة وهواية الذاكرة أو هو اللعب بمادة الحلم: (قال عبود ذلك ـ لا تقلق أنها مجرد غيبوبة ـ وهو يجلس بجواري، واضعا جاليكان الماء بجواره، سكب منه في قعر زمزمية وشرب ثم أكمل ناظرا إلى الأفق الترابي مثلي . / ص46 الرواية) يستعيد الفاعل الشخوصي عدة مشاهد ترتبط في صورة (المكان = الذات) بالرؤية المخيالية والنفسية، التي تتلون بلون طابع المشهدين، الأول يتم بثه من خلال رؤية الجندي في واقع الفتنة العسكرية، والثاني من خلال رؤية حلمية ارتبطت بجملة مفردات ذاكرة استرجاعية ما: (أنه شيء غير اعتيادي، أنا أعرف ذلك، ولكن حتى أنا ليس لي علاقة بالموضوع.. أنا مجرد شخص ميت، وشابع موت، المشكلة لديك أنت من يريد أن يجري الحكاية بهذه الطريقة . / ص46 الرواية) هكذا شاء الفاعل المنفذ بأن تنبني حكايته على إيقاع من الأفول و الاحساس بالتداخل الحلمي، وتلاشي ذاته بالذاكرة والأمكان المكونة حلميا في الإبدال السردي وتحويل دفة الراوي المشارك إلى وقفات تأملية سارحة في تفاصيل ذاكرة الصور المموهة من وظيفة البناء الروائي.

2ـ العلامات البؤرية ومجمل الشيفرات الحلمية:

تبدو مسألة تحول صيغة (الحلم التصوري) إلى حالة ممارسة معاشة بظاهرة تداخلية مؤشرة، هي ما تم العثور على مثلها في مواطن وحدات عديدة من تمفصلات هذا الفصل، بخاصة ما وجدناه تحديدا بين علاقة الفاعل المنفذ وسائر العناصر العاملية في مساحة مجملة من شيفرات النص، مثالا: (ـ أنما تراه يتعلق بحلمك أنت، أنت من أجرى هذه التعديلات المربكة. / ص48 الرواية) قد يتعلق مثل هذا النوع من الديالوج بالشخصية الساردة، فقد أظهر لنا سعداوي أن الخطاب هنا موجه ضمن لغة مشفرة وخاصة سيميلوجيا في انتظمتها الوظيفية بما راح يتعلق ومهمة (أسرار السارد) لذا فإن السارد المشارك أصبح في حدود متابعة وخلق حكايته الحلمية، أو تلك الأجزاء التي أخذت تنتج وجود الميتاروائي، حتى ليؤكد لنا بأنه هو صاحب الحكاية: (قلبت الأوراق، كانت مجرد مسودات لشيء أردت كتابته . / ص48 الرواية) قد تبلغ تشظيات الأنا الراوية حدودا في جلبة متناثرة من أحلام الفاعل المنفذ وتصوراته البوهيمية، وصولا إلى وقوعه في إلتباسات الشكل المفترض في موضوعة الرواية التي تذكرنا بحلقات سلسلة متعددة العقد، كما الحال يذكرنا بأحلامه التي جعلت من والد الشخصية مصطفى والدا مفترضا بالنسبة له: (تمنيت ذات ليلة وأنا أغالب إغفاءة ثقيلة أن يكون والدي أنا . / ص49 الرواية) في الحقيقة تساورنا في تمفصلات رواية سعداوي موضع بحثنا أطراف من الحكايا البالغة في طابعها المحلي المتعلق في الموضوعة والسلوك، لتغدوا لنا في بعض المواقف وكأنها محض تسجيلات سير ذاتية مكرسة في تدوين حياة طفولة وشباب الكاتب، إلا فيما ندر جدا ما نواجه وحدات سردية ذات فعالية ملفتة, وبخاصة بما يتعلق بذلك الزمن الذي أمضى فيه الفاعل داخل كوابيس أو فوبيا السير إلى مسافات طويلة، هي ذاتها المسافات التي قام بقطعها جنديا فارا من حرب الخليج إلى بغداد. كل ما أردت قوله في مبحث هذا الفصل من الرواية بأن الفاعل المنفذ في كفاءة السرد، كان يضاعف ويغالي ويسرف من احساسه الحلمي بالأشياء والحالات، بل أنه يحيا داخل شيفرات تعويضية من حيوات ذلك المشبع بإبدالات أوجه الحلم وإحالات مواطن الهوية.تكمن أهمية فصل (تعطيل الحكاية) بذلك الشرود الذهني عن واقع الذات دخولا بديلا في مفاصل المنظور الإيهامي في مكامن الشخوص في الرواية، ليبقى أخيرا هو ذلك الجندي الذي يتصفح شريط ذكرياته وتوهماته فوق التل الترابي ساهما في عوالم تداخل حكاياته الحلمية مع نفسه قسرا.

ـ تعلق القراءة:

أقول حاولنا في خلاصة دراسة مبحثنا هذا إلى فصل (تعطيل الحكاية) الإشارة إلى مدى تحميل هذا الفصل من تداعيات إيهامية كابوسية لا مبرر لها في البناء الروائي السليم والمقبول فنيا ودلاليا، بل أن الرواية من خلال هذا الفصل وصلت إلى حد الإشباع الهلوسي وفقدان بوصلة الدليل القرائي المتفق عليه في كل طبيعة قراءة روائية، لكننا أوضحنا سلفا بأن سعداوي في روايته هذه، كان يسعى إلى إيصال رؤية وفكرة وتقانة يجعل القارىء من خلالها يرى الأشياء بموجب معادلة محكومة بتداخل الحلم البديل بين العناصر الشخوصية، لذا فهو جعل من عامله المنفذ نديم بمثابة العلاقة الجامعة والمراقبة والشاهدة على جملة آفاق (الداخل ـ الخارج ـ الممكن ـ اللاممكن) وربما يصح أصدق تشخيصا لهذه الرواية وعوالمها الإيهامية، هو الحياة في الحلم أو القناع المتحول ما بين دليل الواقع المألوف دخولا نحو علاقة هذيانية تجمع الذاكرة و اللحظات المقصية للواقع العيني بأصوات حلمية مخاتلة تقع ما بين مسافة المتخيل وموضوعته المنفلتة عن حبائل زمن الشعور بذلك الصحو التمثيلي من واقع البناء الروائي السليم .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم