صحيفة المثقف

مقدمة علم الاستغراب.. قراءة فلسفية في فكر حسن حنفي (1)

3155 الاستغرابتقديم: مازال العالم مند الأزل قائم على جدل الثنائيات التي خلفتها الظروف الجغرافية والسياسية المدفوعة بحب السيطرة واكتشاف الآخر وقراءته، وكانت أوائل تلك الثنائيات هي البيزنطية والفارسية، ولكن بعد ظهور الإسلام اختلفت الوقائع والأحداث، وأسبح هناك مجرى ومسارات أخرى تكاد تحدث قطيعة تامة مع كل ما سبق، وبدأت معالم ثنائية جديدة تظهر هي الغرب الفرنجة والشرق المسلم حاملة معها كل أشكال الصراعات من إيديولوجية، حب السيطرة، معرفة الآخر، الأنا والآخر، ثم سرعان ما ظهرت بعد ذلك حلقات التواصل بين الغرب والشرق من خلال ما سمي بـ "الاستشراق"، بوصفه اتجاه فكري للتعامل مع الشرق وفق رؤية منهجية حملت معها أبعاداً وأهدافاً، تنوعت وتمثلت حسب الأحداث التاريخية، فالحروب الصليبية بقيت عالقة في النفوس الأوربية، مما دفعها إلى السعي وراء قراءة الشرق ومعرفة القوي الروحية في نفوسهم، ولا يمكن القول أنها هي السبب الوحيد، ولكنها سبب من جملة أسباب تجلت في أن حب السيطرة هو ما دفع الغرب كما يقول يعلن إدوار سعيد في كتابه عن الاستشراق للزحف نحو الشرق، وإنه لم يكن ليصنع العلاقة مع الآخر، إلا أن ينتج شرقاً مهجنا أقل منه، وبنطرة استعلائية (1).

هذا الأمر أثار واستفز أستاذنا الدكتور حسن حنفي الذي أثقله الواقع العربي، فسعي لأن تكون هناك ردة فعل لكل ما قبل وما سيقال، وحددها بالاستغراب، وهو الوجه الآخر والمقابل والنقيض من الاستشراق، فإذا كان الشرق هو رؤية الأنا الشرق من خلال الغرب، يهدف علم الاستغراب إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر من جدل الغرب واللاغرب إلي جدل اللاعرب والغرب (2)، فإننا نجده وراء كلامه هذا مكامن عدة سعي لها الدكتور حسن حنفي هي أن تحدث تغيير وأن تتجاوز فكرة إنه الغرب وليس بعده شئ، لأن أي تقدم هو عبارة عن انتقال من طور إلى آخر نحو التغيير، لذا فإن الكل لابد له من المرور بتلك المراحل من التأخر حتي يصل إلى التقدم (3).

والسؤال الذي يفرض نفسه علي قراءتنا لكتاب حسن حنفي هو ما المقصود بالاستغراب وهل يعد ظاهرة جديدة في الأرضية الثقافية العربية؟ ..وكيف استطاع حسن حنفي أن يحدد مفهوم الاستغراب وهل نجح في أن يحقق الأهداف التي نشأ من أجلها؟.. وهل أن الأوان لقلب القضايا، فيمسي الغرب، الموضوع والمرئي والمدروس وتصبح " الأنا" الذات والرائي والدارس؟.. وهل تصبح حضارة الـ " نحن في موقع العارف والقابض على ما يتوقع حسن حنفي لنا على ما يتوقع حسن حنفي لنا أن نكون في المستقبل نراه قريبا ويراه بعيداً؟

وهنا يجيبنا حسن حنفي قائلا :" الاستغراب ليس ظاهرة ولكنه حركة نشأت مع حركات التحرر في العالم الثالث كله عندما بدأوا في مواجهة الغرب، وبالتالي بدأوا يحاولون الدفاع عن شخصيتهم الوطنية وأصالتهم الفكرية تجاه الغزو، ليس فقط العسكري والاقتصادي بل والثقافي أيضا، فبدأ زعماء العالم الثالث يحاولون إيجاد صياغة إيديولوجية أو مفهوما جديدا سمينه نحن الاشتراكية العربية الإفريقية في مقابل أيديولوجيات الغرب الرأسمالية والاشتراكية، وبعد انحسار حركة التحول العربي وتحولها إلى ثورة مضادة من داخلها بدأ الغزو الفكري والثقافي والعملي يعود من جديد وازدادت ظاهرة التغريب في العالم العربي حتى أصبح الإنسان لا يكون عقلانيا إلا إذا قيل هذا ديكارتي لا يستطيع أن يكون اشتراكيا إلا إذا قيل ماركسي أو ليبراليا يدافع عن الحرية إلا إذا كان من أتباع جون ميل، ومن هنا أصبح الغرب هو الإطار المرجعي الوحيد لك الثقافات، وبالتالي فعلم الاستغراب إذن هو محاولة لإعادة صياغة كل محاولات البحث عن الأصالة وفي نفس الوقت أمام ظاهرة التغريب لإيقافها من أساسها، وأساس هذه الظاهرة هو تصورنا للغرب، فنحن نتصور الغرب باعتباره مصدر للعمل وربما كان هذا صحيحا في مرحلة انتقال  المعارف والترجمة، وقد مررنا بهذه المرحلة في القرن الماضي، لكن هل يمكن بعد ذلك أن يكون الغرب موضوعا للعلم؟ وبالتالي لا بد أن نتساءل : كيف نشأ هذا العلم لديه؟ وما هي الظروف التي أدت إليه حتى نقضي على أسطورة الثقافة العالمية لأن الحضارة التي يبدها أجهزة الإعلام والأقمار الصناعية والأساطير التي تنشر من خلال هذه الأجهزة هو ما تسميه بثقافاتها، وتعتبر أنها نموذج التحديث وأن كل الثقافات الأخرى هي ثقافات محلية في طريقها إلى الاندثار لأنها لا تقوم على العقل أو العلم . إذن علم الاستغراب يحاول قدر الإمكان أن يبين أن هذا الغرب له أصول وله نشأة وتكوين وله أيضا عقلية ومصير، وبالتالي أيضا تكون هناك مساهمة في عملية التحرر بمعني أن أقضي علي التبعية الممثلة في القول عند القدماء أو الغربيين وكليهما تبعية . وانطلاقا من ذلك فعلم الاستغراب يريد أن يحول الذات العربية الوطنية الإسلامية بدلا من أن تكون فقط موضوعا للدراسة إلى أن تصبح هي الذات الدارسة ويكون الوعي الأوربي الذي لعب دور الذات الدارس في الاستشراق يكون هو أيضا موضوع الدراسة في الاستغراب لكن هذه الذات قادرة على أن تقوم بدور الذات العارفة أم أنها ستكون باستمرار موضوع ملاحظة ولا تعتمد على نفسها في المعارف والتحليل (4) .

ويؤكد حنفي أنه " إذا كان الاستشراق قد وقع في التحيز المقصود إلى درجة سوء النية الإرادية والأهداف غير المعلنة، فإن الاستغراب يعبر عن قدرة الأنا الشرقية العالم ثالثية لجهة كونها شعورا محايدا، على رؤية الآخر، ودراسته وتحويله إلى موضوع . والفرق هذه المرة، هو أن الاستغراب يقوم على أنا محايد لا يبغي السيطرة، وإن استهدف التحرر . ولا يريد تشويه ثقافات الغرب، وإن أراد معرفة تكوينها وبنيتها ومصيرها، لذا يري حسن حنفي، أن أنا أستغرب أكثر نزاهة وموضوعية وحيادا من أنا الإستشراق ؛ كما أن علم الاستغراب في مقابل الاستشراق ضرورة ملحة في عصر الثورات المضادة، بعدما عاد الغرب إلى الشرق بهجمة استعمارية ثانية جديدة بعد هجمته الاستعمارية الأولى، إثر حركات التحرر الوطني في منتصف هذا القرن العشرين المنصرم . وعلى الرغم من الإستقلال السياسي الظاهري الذي أحرزته دول العالم الثالث اليوم، ما زالت علاقة هذه الدول بالغرب علاقة تبعية وليست علاقة استقلال، لأن عقدة النقص التاريخية أما الآخر ما زالت قابعة في الشعور أو اللاشعور، فالعلاقة بين الشرق والغرب ما زالت بين ندين غير متكافئين ؛ علاقة المركز بالأطراف، علاقة السيد بالعبد، علاقة طرف ينتج وآخر يستهلك، طرف يأمر والآخر يطيع . اول لديه احساس بالعظمة والثاني لديه احساس بالنقص، تلك هي العقيدة التاريخية في صراع الحضارات (5) .

لذا يهدف علم الاستغراب – برأي حنفي، إلى إقالة الثورات الحديثة من عثراتها، واستكمال عصر التحرر من الاستعمار، والانتقال من التحرر العسكري إلي التحرر الحضاري، الذي هو هدف علم الاستغراب عند حسن حنفي، فطالما أن الغرب قابع في قلب كل منا كمصدر للمعرفة وكإطار مرجعي يحال إليه كل شئ للفهم والتقويم، فسنظل قاصرين في حاجة إلى أوصياء . ومهمة علم الاستغراب هي القضاء علي ثنائية المركز والأطراف على مستوي الثقافة والحضارة . فمهما حاولت النخب القضاء على هذه الثنائية في ميدان السياسة والاقتصاد دون القضاء عليها مسبقا في الثقافة، فإن تبعية الأطراف للمركز في ستبقي قائمة . وهكذا فإن مهمة علم الاستغراب تكمن في إعادة التوازن إلى الثقافة الإنسانية بدل هذه الكلفة الراجحة للوعي الأوربي (6).

وهنا نجد حسن حنفي يقدم لنا حسن حنفي، من خلال كتابه الموسوعي الفلسفي الضخم مقدمة في علم الاستغراب إحاطة وتحليلاً وتخطيطاً وتصميما لمشروع فلسفي يهدف إلى دراسة الوعي الأوروبي الفلسفي في صيرورة مساره التاريخي (منذ 2500 سنة) إلى نهاية القرن العشرين، بغية رسم معالم عالم جديد، هو الاستغراب ـ رداً على علم الاستشراق البائد ـ من موقع الأنا الشرقية، العالم ثالثية، في دراستها للآخر الموضوع، الثقافة الغربية؛ فإذا كان" الاستشراق" هو رؤية الأنا (الشرق) من خال الآخر (الغرب(، فإن علم الاستغراب يهدف إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا (الشرق) ومركب العظمة عند الآخر (الغرب) (7).

ويشكل كتاب " مقدمة في علم الاستغراب" البيان النظري للجبهة الثانية " الموقف من التراث الغربي" (بعد الجبهة الأولي والمتمثلة من العقيدة إلى الثورة والتي كانت تمثل إعلانا لميلاد نهضة جديدة بالنسبة إلى " الأنا" )، حيث يهدف البيان عند صاحبه إلى تأسيس " علم الاستغراب" تماما كما هدفت أعماله سابقة إلى تأسيس علوم كثيرة : منها مقدمة ابن خلدون لتأسيس " علم العمران"، وكذا سيبويه لتأسيس " علم النحو" وألفية ابن مالك، والخليل بن أحمد لتأسيس علم العروض (8)، ومن ثم يكون كتاب " مقدمة في علم الاستغراب هو إعلان لنهضة قديمة نشأت وتطورت واكتملت في الأفول أي أفول " الآخر"، وعلى هذا الأساس يري حسن حنفي أن دراسة " الآخر"  منذ تكوينه إلى نهايته هو الموقف الذي يجب أن يُتخذ في هذه المرحلة، فتحديد الموقف منه – أي من الاخر – هو جزء من حركة التاريخ وتطور الحضارة واسمترار لما بدأناه في العصر القديم (9).

وقد صدر كتاب مقدمة "مقدمة في علم الاستغراب" أواخر 1990 وهو كتاب ضخم وعدد صفحاته 884 ورقة من القطع الكبير، ويعد مؤلفه أول من أبرز لفظ " الاستغراب" علي النحو اللافت، ويتألف الكتاب من بيان نظري وثلاثة أجزاء صدر منه فقط بيانه النظري، وقد أثار الكتاب بصدوره ضجة واهتماما واسعين واستقطبت قراءته العديد من الباحثين والمفكرين المهتمين بالعلاقة بين الشرق والغرب وتشكلت مواقف متباينة أولت النص الحنفي وترجمته العديد من المقالات، كما نُقش الكتاب في عدة ندوات، ورغم أن الكتاب يتألف من ثمانية فصول وخاتمة، إلا أن محوره الأساسي يمكن في الفصل، أما باقي الفصول فهي تطبيق للفكرة الرئيسية (دراسة الغرب) أو بالأحرى الوعي الغرب بداية تشكله وكل المدارس والاتجاهات والمذاهب الذي عرفها هذا الوعي في تطوره إلى الفكر المعاصر (10).

وبهذا تأتي هذه الدراسة التي قدمها المؤلف عن " الاستغراب"، حلقة شائكة غامر من خلالها المؤلف بالكتابة عن علم الاستغراب والذي من خلالها انقلبت الموازين، وتبدلت الأدوار، وأبح الأنا الأوربي الدارس بالأمس هو الموضوع المدروس اليوم، فأضحت محمة علم الاستغراب في نظر حنفي هو فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا  بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدي الآخر الغربي بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا العالم ثالثي بتحويله من موضوع مدروس إلى ذات دارس (11).. وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..............................

الهوامش:

1- خليل الخليل : المشروع النهضوي عند حسن حنفي، مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية - سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية، المجلد 41، العدد 5، 2019، ص 583-584.

2- المرجع نفسه، ص 585.

3- المرجع نفسه، ص 586.

4- أنظر ما قاله حسن حنفي في حواره مع الأستاذ محمد حسن :  د. حسن حنفى : علم الاستغراب ومصير الوعى، أدب ونقد،  حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، العدد 150، 1998، ص 112-114.

5- صفوان جيد : قراءة في علم الاستغراب، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد 98، 2000، ص 86.

6-المرجع نفسه، ص 87.

7- حسن حنفي : مقدمة في علم الاستغراب، حلقة موقفنا من التراث الغربي، دار الفنية للنشر والتوزيع، القاهرة، 1998، ص 14.

8- المصدر نفسه، ص 15.

9- د. جويدة جاري: قراءة تحليلية نقدية في مشروع مقدمة في علم الاستغراب ( للمفكر حسن حنفي)، منشور ضمن المنهل ..أنظر الرابط :

https://platform.almanhal.com/Files/2/13422

10- صفوان جيد : المرجع نفسه، ص 85.

11- حسن حنفي : المصدر نفسه، ص 16.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم