صحيفة المثقف

مصدق الحبيب: منظرو الاقتصاد (25): جون كينِث گالِبرِث

3157 كالبرثJohn Kenneth Galbraith

(1908 – 2006)


 هو الاقتصادي والدبلوماسي الكندي-الامريكي، والكاتب التقدمي اللامع الذي عرف ببراعته في الادب الاقتصادي- السياسي وكتاباته الجريئة الشيقة والفاعلة الحجة وقوية التعبير، خاصة في مناظراته مع مناوئيه وتمكنه من نحت الكلمات واستهداف المعاني بيسر وسلاسة. وهذا هو الامر الذي جعل كتاباته محببة للقارئ الاعتيادي أكثر مما هي مرغوبة من قبل الاقتصاديين الأكاديميين والسياسيين المتمرسين. ولذا فقد كان متميزا كأكثر الاقتصاديين شعبية بين قراء الادب الاقتصادي والتطبيقات السياسية بحيث استحوذت كتبه الأكثر من خمسين كتابا على قمة المبيعات في الكتب الاقتصادية طوال خمسة عقود، والتي رافقتها أكثر من ألف مقالة منشورة. عُرف گالِبرِث ايضا كواحد من أشهر أساتذة الاقتصاد في جامعة هارفرد خلال مدة تدريسه التي جاوزت النصف قرن، كما عرف ايضا بكونه المفكر الليبرالي والمستشار الرسمي لأربع ادارات امريكية ديمقراطية للرؤساء روزفلت وترومن وكندي وجونسن وعمله كسفير للهند في حكومة كندي،  اضافة الى خدمته الاستشارية السياسية غير الرسمية للمرشحين الديمقراطيين جون كندي ويوجين مكارثي وجورج مكگوفرن،  .

ولد جون گالِبرِث عام 1908 لعائلة متواضعة من أصل اسكتلندي.كان والده معلما ووالدته ربة بيت لكنهما كانا مولعان بفلاحة الحقل الصغير الذي امتلكاه في أونتاريو- كندا، الامر الذي أثر على جون وزرع فيه اولى اهتماماته بالانتاج الزراعي الذي قرر ان يتخصص بدراسته فيما بعد.  أمضى طفولته وصباه في بيت العائلة واكمل تعليمه الابتدائي والثانوي في اونتاريو ثم ذهب الى جامعة تورنتو وتخرج فيها عام 1931 باختصاص الاقتصاد الزراعي. وبعد حصوله على منحة دراسية، سافر الى الولايات المتحدة للدراسة في جامعة كاليفورنيا- بيركلي حيث حاز على الدكتوراه في الاقتصاد عام 1934. كتب بحثا عن مفهوم "الارض الحدية" وهو مايزال طالبا،  ونشره مع استاذه جورج بيترسن في مجلة الاقتصاد الزراعي عام 1932.

بعد حصوله على الدكتوراه، إلتحق بجامعة هارفرد كتدريسي، واصبح مواطنا امريكيا عام 1937، وهو العام الذي حصل فيه على زمالة من جامعة كمبرج البريطانية، حيث تعرف على كينز هناك واصبح من اتباع نظريته. وفي عام 1938 انتدب للعمل في الحكومة الفيدرالية في واشنطن ليرأس الجهاز المركزي للاسعار من أجل وضع الضوابط الاقتصادية للسيطرة على النشاطات التضخمية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. في هذا الموقع ألف فريقا كفوءً ونجح نجاحا باهرا في وضع سياسة اقتصادية لكبح التضخم وادامة اقتصاد متوازن، لكن كتلة المحافظين في الكونگرس المعارضة لأي كادر تقدمي اتهموا سياسته بميلها للشيوعية وتسببوا في اقالته من منصبه عام 1943. وقد صرح گالِبرِث فيما بعد بأنه اعتبر عمله في الجهاز المركزي للاسعار أهم ما انجزه اكاديميا وأكثر ما كان مفيدا من الناحية العملية. وقد وافقه في ذلك الكثيرون من المراقبين الذين وثقوا اجراءات السيطرة على كل التجاوزات والتلاعبات والتمكن من تحقيق نمو اقتصادي متوازن قفز ثلاث مرات خلال خمس سنوات، فيما استمر المحافظون المتطرفون في الحقل السياسي والاكاديمي بالتشكيك في عمل گالِبرِث والضغط من أجل ابعاده عن المواقع الحساسة، كما حدث في إقالته من منصب رئيس الدائرة الاقتصادية للشؤون الاوربية في وزارة الخارجية بعد ستة اشهر فقط من تسلمه المنصب عام 1946.

عندذاك تلقفه ناشر مجلة التايم وعرض عليه رئاسة تحرير مجلة فورچن، وهو الموقع الذي رآه گالِبرِث أن يكون وسيلة هامة لتثقيف الجماهير في مسائل الاقتصاد والمالية  ودور الحکومة وآلياتها وسلوك الشركات التجارية.

في نهاية الحرب، استدعي ليكون عضوا في لجنة تقييم النتائج الاقتصادية للقصف الامريكي الهادف لشل اقتصاد ألمانيا النازية. وقد استنتج گالِبرِث بأن القصف لم يحقق الاهداف المرسومة بدليل نمو الانتاج العسكري الالماني بوتائر متزايدة ابان فترة الحرب. لكن هذا الاستنتاج لم يرق لرئيس اللجنة الذي اراد ان يعضّد قصد الپنتاگون بالتأكيد على نجاح الستراتيجية العسكرية في عرقلة الانتاج العسكري الالماني. عندذاك كتب گالِبرِث بجرأة وأطلق مصطلح "المتلازمة الپنتاگونية"، الظاهرة التي تفشت آنذاك والقائمة على لي الحقائق من أجل ترضية وزارة الدفاع وتأييد سياساتها وتلميع افعالها.

من بين كتاباته الوفيرة، كانت شهرة گالِبرِث قد ذاعت بسبب ثلاثية الكتب التي تضمنت فلسفته العامة وموقفه المبدأي من الاقتصاد والواقع الاقتصادي. ضمت هذه الثلاثية:

- كتاب "الرأسمالية الأمريكية" المنشور عام 1952

- كتاب "مجتمع الوفرة" المنشور عام 1958

- كتاب "الطور الصناعي الجديد" المنشور عام 1967

في كتاب "الرأسمالية الأمريكية" وضع گالِبرِث مبدأ المنافسة النيوكلاسيكي في النقد والميزان. فقد أوضح ان الاقتصاد الامريكي لم يعد اقتصاد المنافسة بين الشركات، انما اصبح بيد الشركات الاحتكارية الكبرى بصفة رئيسية ويمكن الاشارة الى الثالوث االمسؤول على تدوير عجلة الاقتصاد الذي يضم الاحتكارات المتمثلة باصحاب رؤوس الاموال الكبيرة والحكومة وقطاع العمل، واليه تعود ضرورة وجود القوى الموازية المجابهة لبعضها والمتمثلة باتحادات العمال والاتحادات الاخرى مقابل لوبيات الاحتكارات وجماعات الضغط والتأثير على السياسة الحكومية. وبهذه الموازنة بين مراكز القوى يكون من المفترض تحقيق حماية المستهلك. ويعود في هذا الكتاب ويلمح الى عمله في جهاز الاسعار ابان الحرب فيقول ان سياسة الولايات المتحدة الاقتصادية في ما بعد الحرب لم تنتهج وضع الاسعار الصحيحة، انما الاسعار الخطأ التي ادت الى نمو الاحتكارات الكبرى.

أما الكتاب الثاني في هذه الثلاثية الموسوم ب "مجتمع الوفرة" فقد ناقش ماطرحه من قبله فبلن Veblen ومچل Mitchel  ونايت Knight ، خاصة في موضوع الاستهلاك التبذيري والتفاخري والاستهلاك الذي لايشبع الحاجات الحقيقية للمستهلك . ذلك ان الشركات تخترع حاجات استهلاكية وتوهم المستهلك بانها حاجات ملحة بواسطة اساليب تسويقها واعلاناتها. ولذا فليس من الحكمة ان يدعم المجتمع انتاج السلع والخدمات المخترعة او المستنبطة. وركز على موضوعة سيادة المستهلك التي يراها لم تتحقق كما درج على تأكيدها الادب الاقتصادي النيوكلاسيكي. كما أكد ان نمو الاقتصاد ونجاح السياسة الاقتصادية ينبغي ان يقوم على تبني الاستثمارات الكبرى في الحقول الحيوية كالبنى التحتية والصحة والتعليم والتدريب من اجل رفع المستوى التعليمي والمهني والثقافي في آن واحد، وضرورة تمويل هذا المشروع عن طريق الايرادات الضريبية. وقد اطلق على هذا المشروع مصطلح "الاستثمار في الانسان".  يرى كالبرث ان استنباط الحاجات من خلال الاعلانات والنشاطات التسويقية المختلفة التي تتفنن بها الشركات لترويج سلعها وخدماتها أدى الى تنامي انتاج السلع والخدمات الخاصة على حساب العامة وبالتالي تراجع الانفاق العام، وخير دليل على ذلك اننا نلاحظ بوضوح كميات ونوعيات السلع والخدمات الكمالية والباذخة التي تحض المستهلك الامريكي على اقتنائها في الوقت الذي يعيش فيه في مدن متهالكة واحياء رثة وبيئة ملوثة وموبوءة بالامراض والجريمة ويرسل ابناءه الى مدارس فقيرة ويقبل بخدمات صحية نادرة وباهضة الثمن لا يتوفر على تحمل اعبائها المالية المواطن الاعتيادي. وما تناقص معدلات الادخار الا عرضا من اعراض هذه الظاهرة غير السليمة وسببا في تفاقم آثارها. يقترح گالبرث معالجة هذه المشكلة بالرجوع الى ضريبة پيگو وضريبة قيمة الارض بدلا من الضرائب على العمل. ويؤكد على ضرورة تطوير المعالجات الاقتصادية بالانسجام مع روح العصر، ذلك ان اغلب وسائل الاقتصاد النيوكلاسيكي لم تكن مناسبة بعد اليوم لواقع اقتصاد الوفرة.

في كتابه الثالث "الطور الصناعي الجديد" المنشور عام 1967 يركز گالبرث على موضوع المنافسة والمصلحة العامة وخدمات المستهلك وهيمنة الاحتكارات وتصاعد تأثيرها السياسي اضافة الى تأثيرها الاقتصادي. وكان قد صرح بأن فكرة المنافسة الكاملة في الاقتصاد النيوكلاسيكي لم تتحقق في ارض الواقع اذ ان الشركات التجارية قد كبرت وتغولت وتحولت الى مؤسسات احتكارية تبتلع بعضها وتستحوذ اكثر فاكثر على حصتها من السوق مما ادى ليس فقط الى تعاظم ارباحها انما ايضا الى تعاظم نفوذها الاقتصادي والسياسي وزيادة قدرتها على انتزاع النفوذ التقليدي من الاطراف الاخرى في العملية الانتاجية كالعمال والمقاولين والمستهلكين والحكومة صاحبة التشريعات والنظم والقواعد المطلوبة للرقابة الانتاجية من اجل المصلحة العامة. فهذا الطور الصناعي الجديد ادى الى عكس اتجاه تيار النشاط الاقتصادي الذي كان يسري من المستهلك الى السوق والشركات، كما نعرفه نظريا! لكنه اصبح يسري اليوم من الشركات والسوق الى المستهلك. وبذلك انتشرت عدوى الهيمنة الاحتكارية على السوق الى قطاعات اخرى كقيم المجتمع وتقاليده وذائقة المستهلك وانعكست على قلة كفاءة وعدالة التوزيع وسلامة البيئة.

لقد شكلت هذه الثلاثية اهم ما تميزت به كتابات گالبرث وهو التركيز على اختلاف النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية عن الواقع الاقتصادي، خاصة في موضوعة المنافسة التجارية وقوى السوق وتغول الشركات وهيمنة الاحتكارات وتأثير ذلك على السياسة والمجتمع ككل. ان هذه الثيمة التي اثارها گالبرث في خمسينيات وستينيات القرن الماضي هي التي حفزت اقتصاديين آخرين كـ بيوكانن وسايمن وسايتوفسكي وساهمت في نشوء نظريات وحقول اقتصادية جديدة كنظرية الخيارالعام Public Choice ونظرية الالعاب Game Theory ونظرية المنظمة الصناعية Industrial Organization.

اشتهر گالبرث بكفاءته الادبية وجرأته في قول مايؤمن به، سواء اكان ذلك على الصعيد السياسي او الاكاديمي. فهو الذي انتقد فجوة الثراء والفقر والتمييز العنصري وغياب العدالة الاجتماعية والحروب ودعا الى ترشيد الاستهلاك واعادة التوزيع وزيادة الانفاق الحكومي على المشاريع العامة التي تخدم القطاع الاوسع من الجماهير، ودعا الى رفع مسؤولية القطاعات المتنورة لاعادة المبادئ التنافسية المثالية وتحجيم هيمنة الاحتكارات. وهو القائل " خلال هذه الحياة علينا ان نخفف من اعباء اولئك المحرومين، وبدون شك فذلك يعني ان نرفع شيئا من اعبائهم ونضعه على كاهل من تسببوا بذلك الحرمان، خاصة الذين يغالطون في هذا الامر". وهو الذي اشتهر بوصفه البليغ لسياسة التقطير Trickle-down  التي اتخذها رونالد ريگن بـ سياسة "الحصان والعصافير" حيث قال ان فلسفة هذه السياسة تتلخص بالقول " اذا اتخمت الحصان فان فضلاته التي يلقيها على الطريق ستحتوي من الحبوب غير المهضومة مايكفي لسد رمق سرب من العصافير"! وهذا هو الوصف الدقيق لفلسفة الحزب الجمهوري المعروفة التي لا ترى ضيرا من الغنى الفاحش للقلة القليلة لانها تؤمن بأنه كلما زاد غنى الاغنياء كلما انتفع الآخرون منه.

وهو الذي نصح الرئيس كندي بعدم التدخل في حرب لاوس الاهلية وعدم تكرار الخطأ الجسيم بالانصیاع لرغبة مجموعة الصقور المتشددة في الكونگرس الذين ورطوه في ما سمي بأزمة خليج الخنازير في كوبا. ورغم منصبه الرسمي كسفير في الهند في حكومة كندي الا ان گالبرث لم يتوقف عن انتقاد الحرب الامريكية في فيتنام وهو الذي حظى بتقدير استثنائي وصداقة رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو الذي كان يستشيره حول قضايا الاقتصاد الهندي. كما شكل گالبرث مع السيدة الاولى ألينور روزفلت وهيوبرت همفري المنظمة الامريكية للعمل الديمقراطي، وكتب عددا من خطب المرشح الديمقراطي أدلاي ستيفنسن، مما أثار حنق الجمهوري المتعصب جوزيف مكارثي الذي حاول جاهدا تقليل قيمته في الاوساط الرسمية باطلاق الاتهامات الشيوعية الملفقة عليه وعلى منظمة العمل الديمقراطي.

أما على الصعيد الاكاديمي فقد كان گالبرث معروفا بكونه الكينزي واحد اقطاب الاقتصاد المؤسسي. وهو الذي لم يخف انتقاده وعزوفه عن التحليل الرياضي والمعالجات التكنيكية وهندسة النماذج القياسية التي وصفها بانها منسلخة عن الواقع بسبب افتراضاتها النظرية التجريدية التي رآها عاجزة عن تصوير وتفسير الواقع الاقتصادي. ورأى ان المشاكل الاقتصادية تنشأ وتتطور وتعالج في بيئة اجتماعية سياسية وثقافية لا يصلح تقنينها بقوانين رياضية مجردة.

لقد اُعتبر گالبرث بانه اقتصادي امريكا الليبرالي الذي مثلت كتاباته طفرة نوعية في الادب الاقتصادي والذي بقي مؤثرا خلال سبعين عاما، من منتصف الثلاثينات لحين وفاته عام 2006. وكان طبيعي ان يتعرض الى انتقادات فكرية وتسقيطات سياسية، خاصة من قبل زملائه الاقتصاديين كهايك وفريدمن وسولو وسوويل وكرگمن.

حاز گالبرث على وسامين من الدرجة الاولى، أولهما وسام الحرية لعام 1946 وثانيهما وسام رئاسة الجمهورية لعام 2000. كما منحته الحكومة الفرنسية لقب الجدارة التشريفي الاعلى الذي سنه نابليون عام 1802. وحصل ايضا على جائزة ليونتيف من معهد البيئة والتنمية الدولية، اضافة الى اكثر من خمسين شهادة فخرية من جامعات دولية مختلفة. كما سميت المكتبة العامة لمدينة دتن في اونتاريو باسمه.

توفي في كمبرج – ماسچوستس عن عمر 98 عاما.

 

ا. د. مصدق الحبيب

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم