صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: منهج الدرس الفلسفي في الإسلام.. رؤية نقدية (5)

مجدي ابراهيم- مهمة المعلم: لندع هذه الخطوة الأوليّة من المنهج باعتبارها تتصل بالكشف عن الحقيقة، وبتشكيل الرؤية الخاصة بالباحث، ونأتي إلى خطوة أخرى من أشرط المنهج العلمي الذي لا يمكن فصله عن التدريس، وهى استخدام هذا المنهج في يقظة الوعي وتنبيه العقل لدى طالب الدّرس الفلسفي على وجه الخصوص .. فما الذي يمكن أن نقدّمه للآخرين، طلاباً ومتعلمين، بعد أن تكشفت أمامنا الحقيقة، نحن كباحثين، وعلِمْنَاها بعد أن كنا بها جاهلين، ثم برزت الرؤية الخاصة لدينا ظاهرة بغير خفاء؟

لقد تبيّن لنا ممّا سلف ذكره أنّ للكشف عن الحقيقة في العلوم النظرية والفلسفية منهجاً أخص خصائصه هو التحليل وتفتيت الفكرة الكلية الخاصة بمشكلة البحث إلى أجزائها البسيطة وعناصرها الأوليّة. وكلما أوْغلنا في الشروع إلى ذلك تتكون الرؤية الخاصة بناءً على منهج آخر هو "منهج الحفر" في أغوار النصوص وتحليل جزئياتها، تتضح به حقيقة الموضوع المبحوث للذات العارفة، فلا يبقى أمامنا بعد هذا إلا تعليم ما كنا كشفاه أمام أنفسنا من حقائق للآخرين، إذ تبينت لنا معالمه واتضحت رؤيتنا له، وهو الأمر المهم الذي يأتي تركيباً بعد تحليل وتأليفاً بعد تجزئ، فليس يعقل أن تظل المعرفة العقلية والعلمية حبيسة أفراد بعينهم والأصل فيها الشيوع والانتشار، وبخاصّة إذا اتصلت بتفعيل القيم وارتبطت بفكرة التقدّم التي تنعكس من العلماء والفلاسفة وقادة الرأي على المجموع العريض من طوائف الناس على اختلاف أصنافهم وطبقاتهم.

ومن هنا قلنا : إننا لا نستطيع أن نفصل بين مناهج البحث العلمي في تناول الموضوعات التي يُراد لنا الكشف عنها، وبين مناهج التدريس في صلب العملية التعلمية نفسها؛ فعندما يقوم الباحث بتعليم الحقيقة التي توصل إليها من خلال بحثه عنها، يكون مطلوباً منه أن يعلّم تلك الحقيقة للناس كما مرّ بها هو، أو كما أكتشفها هو تماماً كما كان يفعل “ديكارت” في مقال في المنهج : فيلسوف نتعلم منه منهجية التفكير خلال خطواته التي كان يخطوها نحو البحث عن الحقيقة. وفي كل خطوة معرفة، ومع تراكم المعارف تصبح الوسائل المنهجية أو الخطوات المتبعة هى نفسها معارف إضافية.

إنما المطلوب أن يعالج الباحث المنهجي هذا الكشف في طريقة التعليم بمنهج يراعي فيه التركيب والتأليف. فلئن كان وقف طويلاً عند الكشف أمام نوع من المنهج هو منهج الحفر في النصوص وتفتيت المادة وتحليل مضامينها؛ فما فعل ذلك إلا ليكوّن “رؤية خاصّة به”. هذه الرؤية هى التي ينقلها إلى الآخرين من طريق التعليم، ويعلمها إياهم بمنهج يركب فيه ما كان حلل، ويؤلف فيه ما كان جَزأ. وكل باحث لا يستطيع أن يقدم لنا رؤية خاصة تقوم على التركيب والتأليف بعد التحليل والتقسيم (تقسيم المشكلة إلى عناصرها الأولية وأجزائها البسيطة) ثم تعتمد على الذاتية باعتبار أن الرؤية الخاصة هى خاصة بالذات العارفة، بعد تجاوزها لمراحل الموضوعية.

أقول؛ إنّ كل باحث لا يستطيع أن يقدم هذا أو مثله هو باحث فاشل لا يصلح للبحث ولا يؤتمن عليه في كل حال.

وإذا كان المتعارف عليه بين جمهرة الباحثين أن المنهج هو وسيلة ليس إلا؛ فإننا في هذا السياق لا نعدّه وسيلة فقط، ولكننا نعدّه كما قلنا غاية تنويرية ترمي بظلالها المعرفية نحو مقاصد حياتية للروح التي عرفت وللفكر الذي أستنار.

ومن شأن هذه الغاية أن تنهض بالمعرفة الإنسانية على تنوعها وشموها، وعلة التخصص فيها كذلك.

ومادام المنهج مرتبطاً بالرؤية الخاصة وإلحاق المعارف بذات العارف؛ بمعنى أنه لا يمكننا أن نفصل بين الذات والموضوع في نهاية المطاف؛ في المراحل الأخيرة من خلاصة البحث العلمي. ولا يوجد علم من العلوم ولا فلسفة من فلسفات الأمم على كثرتها إلا وننسبها أو ننسبه في حالة العلم إلى أصحاب هذا العلم أو تلك الفلسفة؛ فنحن نقول فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وفلسفة ابن رشد وجاذبية نيوتن ونسبية أينشتاين… وهكذا؛ لتصبح المعرفة العقلية متصلة بذات العارف تماماً كما تكون المعرفة العلمية خاصّة ذاتية بالعلماء الذين اكتشفوها، ويتقرّر هذا في سائر المجالات والعلوم. ناهيك عن مجمل الآراء ـ أو تفصيلها ـ التي تنسب إلى هذا المفكر أو ذاك، ويتميز بها مفكر دون آخر تماماً كما تتميز القدرات الإنسانية بارزة في مجال عن غيره من المجالات.

ومادام المنهج مرتبطاً بالرؤية الخاصة والذاتية اللاحقة من ذات الباحث، والتي ينبغي أن تعلّم لشباب الباحثين وأن تفتح أمامهم آفاقاً من النظر والبحث جديدة، فإنه في هذه الحالة ـ وبرغم هذا الارتباط بالرؤية الذاتية الخاصة يفرزها ويظهرها على التفاوت في الظهور والإفراز أو على التفاوت في الخفاء والضمور ـ لا يكون المنهج وسيلة عرضية وكفى بقدر ما يكون غاية في ذاته.

وربما تعددت المناهج بتعدد العلوم واختلافها من: (استدلالي إلى استنباطي إلى تجريبي إلى استقرائي إلى وصفي إلى استردادي .. إلى آخره) لكن الذي يبقى منها جميعاً من طريق دلالة التوكيد هو وحدة العقل البشري بإزاء المعرفة، فنحن إذا قلنا فلسفة قلنا عقلاً، وإذا قلنا عقلاً قلنا فلسفة، وإذا قلنا فلسفة قلنا معرفة : معرفة بالوجود وبالقيم وبالخير وبالحق وبالجمال، ومعرفة بطرق المعرفة الموصلة إلى ذلك كله في غير انتهاء من طاقات العقل وطاقات الروح والضمير.

ــ توجهات العقل ووَحْدَة المعرفة:

وفي إطار وحدة توجهات العقل البشري، لا فصل يُرجى بين تلك المناهج في طرائق التفكير، ولكنها تتكامل في نهاية المطاف بسبيل وحدة المعرفة البشرية، حتى إذا ما عولنا التعويل كله على المعرفة الإنسانية، والمعرفة في أي اتجاه من الاتجاهات، وفي أي ميدان من الميادين، يكون من الواجب على الذهن البشري إدراك الوصول إلى كنه محاولات الإنسان المستمرة لفهم الكون وأسرار الطبيعة وأغوار النفس البشرية وكوامن خفاء الضمير الإنساني في توجهاته وتقلباته.

وبما أن الرغبة في المعرفة دافعاً فطرياً أصيلاً في الإنسان حداه أن يبحث عن وسائل تمكنه من إشباع هذا الدافع بغرض تمكينه في الأرض وإعماره للكون، فقد صار لزاماً عليه أن يغيّر من هذه الوسائل، وأن يطور من طريقة تفكيره إذا لم يكن في تلك الوسائل أو في طريقة التفكير غاية ما يريد تحقيقه من أهداف، وكان طبيعياً أن يبحث له عن طرائق أخرى إذا لم تكن طرائقه القديمة تشبع دوافعه المعرفية التي لا تنتهى، ولا ينبغي لها أن تنتهي. ولكنه إذا وجد فيها الغاية وصلحت لإشباع دوافعه الأصلية كانت بمثابة النموذج الحق يحتذى، وينبغي أن يحتذى، كمطمح للعقل في تحصيله ـ وفق مقررات القيم العلمية ـ لألوان المعارف وأصناف العلوم.

إننا لا نشك قيد أنملة أن الوسيلة الكامنة في المنهج لدراسة الفلسفة الإسلامية إنما هى وسيلة تنويرية في أول مقام : تنويرية بالنسبة للعقل. وتنويرية بالنسبة للقلب. وكل ما يتصل بالإسلام بنسبٍ مفروضٌ فيه أن ينمي في الإنسان جهتين : جهة العقل أي إعمال البحث العقلي والاجتهاد فيه على الدوام بغير انقطاع تأسيساً على فريضة طلب العلم والتفكير. ثم جهة القلب، أي العمل القلبي باعتبار أن القلب رادع عن الشر، قيوم على الأعمال، هو وحده لا سواه من يملك الحكم، وهو وحده لا سواه من يخرج الحالات النفسية الباطنة؛ لتكون عزماً تجاه أفعال.

فإنّ الفعل الإنساني يمر بحالات باطنة في طوايا النفس البشرية كالخاطر ثم الميل ثم الاعتقاد وتنتهي تلك الحالات بحكم القلب على العمل: هل هو يخرج إلى حيز التنفيذ الفعلي أم لا؟ فإذا حكم القلب حكمه بالعزم خرج الفعل إلى التنفيذ في الواقع. وإذا حكم القلب بالامتناع لم يخرج الفعل بالعزم إلى التنفيذ. وأعمال القلب وأحكامه يعوّل عليها كل شيء في مجال الأخلاق ولا يعوّل على سواها.

حقيقة إذا نحن وصفنا الوسيلة من المنهج في دراسة الفلسفة الإسلامية بالتنوير، لم تصبح وسيلة بمقدار ما تكون غاية. تتفرع المنهجية حسب ما نفهم من المنهج إلى فرعين متلاحقين ومتضامنين. أولهما : كشف الباحث عن الحقيقة بمنهج التحليل النقدي. وثانيهما : تعليم هذه الحقيقة للشبيبة برؤية خاصة فيها من الذاتية والتفرد أكثر مما فيها من الموضوعية إذا ما كانت الموضوعية مجرد تراكم المعلومات وحشدها في الأذهان بغير ضابط منهجي، ناهيك عن الاعتماد على جهود الآخرين وآرائهم وأفكارهم في غير رؤية خاصة يضيفونها أو فكر جديد قوامه التأليف والتركيب بعد التحليل والتجزئة.

ليس المعلم هو الذي يقول : قال فلان كذا وكيت، ولكن المعلم هو الذي يقدّم تصوراً جديداً من فكره هو، ومن ذاته هو، ومن قوةٍ خلاقةٍ مبدعة هى روحه هو. فإذا لم يكن قادراً على أن يبدع من قوى الروح وفيض الذات في عطائها الخلاق؛ فليبحث له عن مجال آخر غير مجال التعليم، وغير مجال البحث في الفكر الإسلامي؛ لأن الفكر الإسلامي بصفة خاصة متصل عطاؤه لمن سمت روحه عالية بالطفرة فوق العوارض القادحة في الوجود الإنساني، يستلهم من روحه الهامات تخص إعمال العقل ونقاء القلب : العلم والإيمان والبصيرة.

ملهمات الروح بحث عقلي وتوجه قلبي بعد النظر والتحقيق وهى بالأفق الجديدة بمقدار طاقات المرء العقلية والروحيّة. وإني لأستعير مقولة “كلود برنار” حيث ذكر في هذا الصدد أن :” مهمة الأستاذ هى أن يقصر نفسه على أن يبيّن للتلميذ بوضوح: الغاية التي يستهدفها المعلم، وأن يبيّن له كل الوسائل التي في وسعه من أجل بلوغه وتحصيله … إلا أن العلوم لا تتقدّم إلا بالأفكار الجديدة وبالقوة المبدعة للروح”.

وليس لهذا التبيين الذي يجيء به “الأستاذ” المعلم، موفور له بوضوح أو في غير وضوح، ما لم تكن هناك “رؤية” هى بمثابة الغاية يشرع في توضيحها بكافة الوسائل الممكنة والمناهج المتباينة واللازمة لا لشيء إلا ليكون في عالم الفكر والبحث العلمي معطاءً ومضيفاً جديداً لم يكن موجوداً من ذي قبل.

وهبنا أردنا تطبيق ما ذكرناه فيما سلف من منهج مدعماً بأشراطٍ، على دوائر الفلسفة الإسلامية بفروعها المختلفة بين فلاسفة ومتكلمين وصوفية .. فماذا نحن واجدون؟

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم