صحيفة المثقف

عصمت نصار: الفلسفة والمرآة.. قراءة لتأملات أمين الخولي

عصمت نصاريعتقد الفيلسوف الفرنسي "فرانسيس بيكون" (1561-1626م) وبعض الفينومينولوجيين والتحليليين المعاصرين ومؤرخي الفلسفة وعلى رأسهم الفيلسوف الإنجليزي "برتراند راسل" (1872-1970م) والفيلسوف الأمريكي "لويس ممفورد" (1895-1990م) أن المرآة الحقيقة لثقافة الشعوب تبدو بوضوح في فلسفاتهم التي تجمع بين أصولهم وأعراقهم وأخلاقياتهم ومعتقداتهم وآدابهم وفنونهم. ومن ثمّ يجب علينا التسليم بأمرين يتوقف عليهما صحة وسلامة مشاهدات الرائي والصور التي تظهر له في المرآة، وذلك بعد استبعادنا عنصري الإيهام والخداع اللذين تعكسهما المرايا المُقعرة أو المحدبة أو المتسخة. أولهما عطب أو ضعف عين المشاهد، الأمر الذي لا يمكّن بصره من إمعان النظر ليدرك ما يراه من صور على سطح المرآة.

أمّا الأمر الثاني الذي يحول بين الناظر والمرآة وإدراك ما فيها هو عيب في المرايا يوهم الناظر بوجوده في الحقيقة؛ الأمر الذي يستوجب التأكد من سلامة البصر والمرآه معاً؛ وبناءً على ذلك كله بات لزاماً على المعنيين بدراسة تاريخ الفلسفة تحليل شتى الثقافات بمنهج علمي دقيق؛ للتعرّف على هويّة كل منها ومواطن التشابه والاختلاف بينها، ثم قراءة ما أنتجته تلك الثقافات قبل إصدار الحكم على مدى اتساقها أو تقدّمها أو تخلفها أو التنبؤ بانهيارها.

والغريب أننا نجد تلك الأفكار قد ولج المفكر الأزهري "أمين الخولي’’ (1895-1966م) بواباتها وساح في دروبها ولم تمنعه عمامته الأزهرية أو عبائته التليدة عن اقتحام دورها ومحارمها ومعابدها قبل المتفلسفين المحدثين في حديثهم عن الفلسفة والتفلسف وتاريخ الأفكار. وها هو يعترف لقارئه بأنه من أشدّ المناصرين لهويته الثقافية وانتماءاته للفلسفة التي أنتجها منتجو تلك الثقافة الشرقية العربية الإسلامية، وذلك في مقالته المعنونة "الشرق مهد الحكمة" التي كتبها مُلبياً دعوة القائمين على العدد التذكاري للمجلة السياسة الأسبوعية احتفالا بيوم الفلسفة.

والمعروف عن مفكرنا أنه من أوائل الأزهريين المجددين الذين تتلمذوا على أفكار "محمد عبده" وقد جمع في ثقافته بين العلوم الشرعية للأزهر والأدب والفلسفة الغربية، وانتهى من سياحاته في أوروبا إلى رئاسة قسم اللغة العربية في جامعة فؤاد الأول في هذه الحقبة. وقد أسرع في تلبية الدعوة للمشاركة في تبصير الرأي العام بأهمية الفلسفة ودورها في الحفاظ على الهوية المصرية والمشخصات الشرقية والانتماءات العقدية الإسلامية. مؤكداً انضوائه تحت لواء المحافظين المجدّدين الراغبين في توعية العقل الجمعي وتحريره من قيد الجمود وسجن التعصب، ومرغب شبيبة المصريين في الحوار والتساجل والتواصل مع الأغيار والإخلاص في حبهم وانتماءهم وولائهم لمصر.

وها هو يؤكد وجهته النقدية في قراءة تاريخ الفلسفة ودحضه لرأي عشرات المتعصبين من المؤرخين الذين بالغوا في حكمهم على نصيب فلاسفة اليونان من الفلسفة وبخسوا حظ حكماء الشرق وإسهامهم في بنيتها. ويقول في ذلك (لقد أفضيتُ إلى قارئي بدخيلة نفسي على كتابة هذا المقال ونشره؛ ليكون على بينة في تقدير ما يقرأ، ولعلى باعترافي هذا أكون أبر بالحقيقة وأكثر ولاء لقارئي ممّن يخفي هواه ويعلن حكمه).

فنألفه ـ إذ ذاك - يؤكد أن من التعصب رد الفلسفة إلى شعب بعينه وجنس دون آخر؛ بل الأصوب القول بأن لكل شعب ثقافته وأفكاره وميوله وطموحاته أي خصوصية التعبير عن هويته المنتجة للفلسفة، وعليه فكل فلسفة لا تكون مرآة لصاحبها تعد تقليداً وسخفاً أو خيانة تضر ولا تنفع.

وإذا كان للتعصب وجهٌ من وجوه الخير فهو الإخلاص للهوية والصدق مع الأنا وكليهما يظهر في مرآة الحكمة التي نطلق عليها الفلسفة. ويرى مفكرنا أن لكل جيل أعين ونظرة وبصيرة تستمد قوتها ويُرد ضعفها إلى الثقافة السائدة والتربية المتغلغلة في بنية المتأمل والرائي معاً؛ بل والمبدع أيضاً، وينعكس سلوكه العملي بالتالي على مشاهداته واعتقاداته ورُآه.

ويخطأ من يعتقد في رأي "أمين الخولي" أن السؤال الفلسفي عن الوجود وما فيه، والإنسان ومعارفه، قد انفردت أمة واحدة بالإجابة عنه؛ بل هو ميراث الأجيال المتتابعة تأثرت به فلسفة اللاحق على السابق ويقول (فما يتركه السلف في ذلك الميدان - مهما هان أمره - أساساً يبنى عليه من يخلفه من قومه أو من جيرانه الذين ينتهي إليهم ما عرفه، وبذلك يكون خطوة راح السابق للاحق من أن يخطوها، وأدناه بها من صورة للحقيقة أوضح وأبين مما قبلها، وإذا كان الأمر كذلك، ليس فيه مشاحة، فإن مؤرخ الحكمة يجب أن يعرف لكل شعب فلسفته، ويقر لها بتنسيبها في التدرج الإنساني؛ ودفع ما بعدها إلى التقدم المؤسس على ما قبله حتماً، وليس التغافل عن ذلك إلا مجاوزة للأسلوب العلمي الصحيح ومخالفة له ... إذا كانت الفلسفة - بالمعنى الخاص- تقوم على أساس من التفكير المنظم، وأساليب ربط المعلومات، وهو "المنطق" فإن أمم الشرق القديم ذوات الحضارة المعروفة، قد أوت من ذلك إلى أساس تهذيب أبناءها وتنظيم تفكيرهم، سواء أكانت لها في ذلك قواعد لم تدون، أم كانت لها قواعد دونت وضاعت فيما ضاع من آثار حضارتها العلميّة، وهو أكثرها، فإن الزمن قد حفظ أثره من المنطق الهندي منطق "جوتاما").

 ويضيف مفكرنا أن فلاسفة الشرق كان لهم السبق في تصوّر العالم الإلهي، وإذا كان أرسطو قد وضع تصوراً لرب الأرباب، فإن ابن سينا قد ربط بين مفهوم الإلهيّة والخلق وجعل العالم الإلهي والعناية الربانية علة وجود الوجود المحسوس وما فيه من موجودات. أي أن الفلسفة العربية الإسلامية قد استفادت من التراث الفلسفي السابق، وأضافت ما يعين الجيل اللاحق من الفلاسفة على استنباط إجابات أعمق عن الإلهية وأصل العالم. ناهيك عن أبحاث المصريين والسومريين والهنود عن الروح والغيبيات التي تأثر بها فلاسفة الغرب في مختلف العصور، ولا يُقالُ إن ما جاء به المصريون والهنود والفرس والبابليون مجرد نقوّل دينية ترد إلى موروثات عقدية لا نصيب للعقل أو التخيل أو الإبداع الإنساني فيها، فلو كان هذا الادعاء صحيحاً ما ظهرت الفلسفات المادية والثانوية وهي بطبيعة الحال تختلف عن الديانات السماوية أو الوحي الإلهي الذي جاء به الأنبياء؛ الأمر الذي يبطل الزعم القائل: "إن الشرق أمتاز بالأنبياء؛ حين أمتاز الغرب اليوناني بالحكماء". أضف إلى ذلك؛ أن الصور الأسطورية والأخلاق والعادات المستنبطة من تلك الأديان التي ذاعت في بلاد الشرق، لم تكن سوى إضافات قام بها الكهنة الذين كانوا يمثلون الفلسفة وقت ذاك.

وينتقل مفكرنا إلى الجانب العلمي من الفلسفة الشرقية؛ فيشيد مع الفارابي بعبقرية حكماء الشرق الذين جمعوا المعارف الإنسانية السابقة على أيامهم فدرسوها واستوعبوها وهضموها، ثم نقدوها وأعادوا بنائها، وأضافوا عليها بالقدر الذي لا يستطيع فلاسفة الغرب على مر الدهور اللاحقة أنكاره.

وإذا قيل إن بعض تلك العلوم الشرقية قد أختلط بالسحر والخرافة؛ فإن مفكرنا يرى أن هذا النقد في محله، ورغم ذلك لا يمكننا إنكار أثر علم النجوم البابلي على ما خلفه اليونان في ذلك، كما أن جهود العرب لا تُجحد أيضاً في تطوير وتحديث المعارف الفلكية. ويمضي "أمين الخولي" في سرد مناهج حكماء الشرق في العلوم التجريبية والأخلاق العمليّة والأصول التربوية التي نجحت في تهذيب الأنفس وتقويم الشهوات وتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية بالآداب والأعراف ثم الدساتير؛ مستشهداً بشرائع حمورابي ونصائح كونفوشيوس ومن قبلهما تعاليم حكماء مصر القديمة وأحاديثهم عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها الحاكم لتحقيق العدالة والإنصاف. ويضيف على ذلك، أنه من الظلم الاعتقاد بأن الشرقيين قد استملحوا الخنوع والاستبداد واستسلموا لما نطلق عليه الحكم الإلهي؛ فإن حديث الفراعين وحكماء الصين عن الحرية والضمير وحقوق المستضعفين واحتيال الكهنة وكذبهم على الآلهة لتدبير استبدادهم خير دليل على رفض بعض حكماء الشرق لذلك الفكر السياسي السائد القائم على العصبية والعنف والقمع والاستغلال والاضطهاد. ويقول مفكرنا في ذلك (وما نريد أن نوازن بين مذاهب الحكمة القديمة في الغرب، وسابقتها في الشرق ونقابل مذهباً بمذهب، وإنما مدار ما ندّعيه - بأنصاف - هو أن للشرق، الأقدم حضارة والأسبق تمديناً، حكمة غذت ما تلاها، وقرّبت ما بعدها أو سببته، ومن الطبيعي أن تكون للجديدة صورة أخرى).

ويكرر مفكرنا أسفه على مؤرخي الفلسفة الذين أعياهم التعصب فاستباحوا تضليل قراءهم بزعمهم أن فلسفة اليونان من ابتداع أهلها وأنها لم تستفد من الحضارات السابقة عليها؛ مبيناً أن مثل هذا الادعاء مجافياً لقوانين التطور والحقائق التاريخية التي أثبتت تأثر اللاحق بالسابق، كما أنها تتناقض مع الدراسات الجادة التي تقطع بتتلمذ اليونانيين في شتى المعارف على حكماء الشرق وتنقض نظرية الطفرة التي تحول الحديد إلى ذهب والهمج إلى علماء ومخترعين.

وعليه فإن النظرة الفاحصة إلى المرآة سوف تأكد وجود مئات المؤثرات العلميّة الشرقية التي صوّرت لأعين الرائي أن الحضارة اليونانية في المركز الذي بنيت عليه المدنية الأوروبية الحديثة.

 ويختم ‘‘أمين الخولي’’ حديثه بقوله (وأخيراً؛ اذا كانت الحكمة في الغرب عند يونان. قد خطت خطى واسعة في سبيل التجدد والدقة، أو العمق في التأمل فنعم، وإذا كانت الحكمة عند يونان قد أتيح لها التخلص من التأثير الديني والتحرُّر من قيوده على نحو لم يتح لها كثيراً في الشرق فنعم، واذا كانت حكمة يونان ذات مذاهب ومدارس واضحة وهو ما لا يظهر كثيراً في حكمة الشرق القديم فنعم، واذا كان وكان بين الحكمتين فروق متعددة أو عظيمة فربما قلنا نعم. أمّا أن الحكمة الغربية لا تعرف الحكمة الشرقية؛ وأنها لم تكن صورة من صور التدرج الفكري الإنساني؛ بل شذوذاً فذاً، لم تستفد من خطوات الإنسانية السابقة عليها، فنقول .. لا... فالشرق مهد الحكمة).

ولا ريب في أن قراءتنا لمقال "أمين الخولي" يقودنا إلى التنبيه على أنه لم يكن على شاكلت معظم رفقائه من المفكرين المحافظين الأزهريين بل كان مجدداً من طراز خاص، فقد نجح في تطبيق نظرية المرآة في دفاعه عن أصالة الفكر الشرقي وإثباته بالمنهج العلمي مغالطات العديد من المستشرقين التي أنكرت أو جهلت أو جحدت جهود حكماء الشرق ودور فلسفتهم في مرآة الحضارة العاكسة لمدنية الغرب وثقافته وحضارته. وجديرٌ بنا أن نتسأل هل العلة في أعيننا وأبصارنا أم في بصائرنا لعدم تمكننا من إدراك الحقيقة؟ وهل مرايانا مسحورة، أو مكسورة، أو انتهت صلاحيتها؟

ونتسأل أيضاً هل فلسفتنا غائبة لحبها في التخفي أم طمسها جهلنا بها (أنا لا أعرفني) أم تراها مرآه كاذبة قد استملحت الخداع أم تحسبنا كلنا عميان نتأمل لوحاً أسود من الرخام؟ هل نصدق أن العيب في نظارتنا السوداء أم في مرايانا الشاغلة بالفيروسات؟ وهل في مقدورنا شراء مرآة "سقراط"، أم صناعة مرآة ‘‘ممفورد’’، أم المرآة الغائبة التي نطمع في عودتها؟

وللحديث بقيّة مع حديث آخر في عيد الفلسفة الذي نشرته مجلة السياسة الأسبوعية.

 

بقلم: د. عصمت نَصَّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم