صحيفة المثقف

مقدمة علم الاستغراب.. قراءة فلسفية في فكر حسن حنفي (3)

محمود محمد عليبعد هذا التأسيس لمعنى علم الاستغراب يتحدث حنفي عن النتائج المترتبة على قيام هذا العلم، ويشدد على ضرورة دراسة الوعي الأوروبي على أنه تاريخ معين وليس خارج التاريخ. إن الشعوب التاريخية، كشعوب الشرق على سبيل المثال، قد تكون أكثر قدرة على تمثل الوعي التاريخي، نظراً إلى عمقها في التاريخ، من الشعوب الحديثة، مقابلة شعوب الغرب، لحداثتها في التاريخ، ولما كان علم الاستغراب  في نظر حنفي الفيلسوف  هو تاريخ الوعي الأوروبي مصادراً وتكويناً وبنية ومصيراً. فإنه جمع قدر الإمكان بين التحليلي الماهوي والوصف التاريخي (33).

وهذا ما يتجلى في الفصل الثاني تحت عنوان تكوين الوعي الأوروبي: المصادر حيث يعدد حنفي المصطلحات الفلسفية ومصادرها المعلنة وغير المعلنة المعلنة (34)، ثم ينتقل إلى دراسة عقائد الآباء الفلسفيين  (من القرن الأول الميلادي حتى القرن السابع الميلادي) (35)، ثم يعالج ثالثاً، الفلسفة المدرسية في القرون الوسطى (من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر الميلادي).  ثم يعالج ثالثاً، الفلسفة المدرسية في القرون الوسطى (من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر الميلادي)، ثم يتحدث حنفي عن الإصلاح الديني وعصر النهضة الأوروبية (في القرنين الخامس عشر والسادس عشر)(36). وهذا الفصل يغلب عليه طابع العرض التاريخي للمصادر الفلسفية الأوروبية مع إلتماعات وإشارات ذكية يقدمها بجهد مشكور.

وفي الفصل الثالث يتناول حنفي تكوين الوعي الأوروبي الحديث، فتظهر فيه قدرة حنفي على العرض والتحليل والمقارنة، إذ يعالج عقلانية القرن السابع عشر عند اليمين واليسار الديكارتي وعند أفلاطونيي جامعة كمبردج. ثم ينتقل إلى معالجة التجريبية في القرن السابع عشر ثم العقلانية في القرن الثامن عشر عند كانط ومثاليته الترانسندنتالية  (37) وبركلي ومثاليته الذاتية (38) وعند الرومنسيين والمتصوفين الغربيين (39)،  ثم ينتقل إلى معالجة التجريبية في القرن الثامن عشر عند الإنجليز والفرنسيين معالجاً التجريبية في الأخلاق والاقتصاد (40)،  ثم ينتقل إلى عصر التنوير في نهاية القرن الثامن عشر معالجاً التنوير الفرنسي، والإيطالي والألماني )فلسفة الفن والتاريخ( والتنوير الإنجليزي والأميركي )الإستقلال( والتنوير الروسي )الثورة الاشتراكية( (41)

وجاء الفصل الرابع بعنوان  فقد جاء بعنوان تكوين الوعي الأدبي (الذروة)، فيعالج حنفي ذروة تكوين الوعي الأوروبي إذ يتحدث عن ما بعد الكانطية(42) من ص 331-335، وعن الرومنسية الشعرية والفلسفة الرومنسية(43) من 347-350،، وعن اليسار الهيغلي والهيغلية الجديدة، وعن تطور المثالية(44) من ص 354-368،، وعن الوضعية، بماديتها التطورية، وبحسيتها وتجريبيتها، ؤلينتقل إلى النفعية والوضعية. (45) من 386-399، ثم ينتقل ليعالج الليبرالية والإشتراكية، مميزاً بين الليبرالية أو الفوضوية والبرجوازية الوطنية، متحدثاً عن الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية المادية(46).

وفي الفصل الخامس كان بعنوان  فقد جاء بعنوان تكوين الوعي الأدبي (نهاية البداية)، حيث يعالج حنفي نهاية البداية لتكوين الوعي الأوربي فيتناول نقد المثالية (القرن العشرون) (47) ونقد التجريبية (48) والجمع بين المثالية والواقعية (49)، والظاهريات (50).

أما الفصل السادس فقد جاء بعنوان  فقد جاء بعنوان تكوين الوعي الأدبي (بداية النهاية)، حيث يعالج حنفي بداية النهاية لتكوين الوعي الأوربي فيتناول الفلسفة الوجودية (51)،والشخصانية والتوماوية الجديدة والأوغسطينية (52)، ومدرسة فرانكفورت والفكر الاجتماعي (53) 552-564، وفلسفة العلوم والفلسفة التحليلية والفلسفة التفكيكية (54).

وجاء الفصل السابع  ليعالج حنفي بنية الوعي الأوربي فيتكلم عن العقلية الأوربية بين القطيعة المعرفية والواقع العاري (55)، والتنظير العقلي (56)،والواقع والقيمة (57)، والمذاهب الفلسفية (58)، والوعي التاريخي (59)، والبنية والتاريخ.

أما في الفصل الأخير من الكتاب، والذي بعنوان مصير الوعي الأوروبي فتتجلى عبقرية حنفي في الاستقراء والتخليص والاستنتاج عارضاً لتداخل مساري الأنا) الفلسفة الشرقية (بالآخر) الفلسفة الغربية (عبر التاريخ راسماً خطوطاً بيانية توضيحية، معالجاً الصور المتبادلة بين الأنا والآخر ومعالجاً مظاهر العدم في الوعي الأوروبي معدداً  فلسفات العدم الحديثة عند هيدغر وسارتر وكامو ودريدا متناولاً موت الروح في الفن والأدب الأوروبي الحديث ، لينتقل إلى تناول أزمة الغرب التي هي أزمة الوعي الأوروبي بالإنسانية  بحسب تعبير هوسرل (60) فلقد تجلت هذه الأزمة في المذاهب السياسية وفي الإيديولوجيات (61)  وفي القيم والاقتصاد وفي الطاقة وفي الإنتاج والتسويق، وفي التضخم، وفي سباق التسلح والخطر النووي (62) .

الخاتمة:

وختاما يمكن القول بأن فإن هدف علم الاستغراب لا يكمن في أن يكون مجرد نقيض للاستشراق الظالم والمتعسف بحقنا أو أن يكون استشراقا مضاداً أو استشراقا معكوساً، بل هدف علم الاستغراب كما يرى حنفي  أن يكون رد فعل على التغريب ومحاولة انتشال الأنا الحضاري العربي من الاغتراب في الآخر. فإذا كان الغرب قد وضع علم الاستشراق، فلماذا لا يستطيع الشرق وضع علم الاستغراب.

وهنا يرى حنفي أن علم الاستغراب ضرورة ملحة في عصر الثورة المضادة، بعد أن عاد الغرب بهجمته الاستعمارية الثانية، بعد هجمته الأولى إثر حركات التحرر الوطني، وهنا طرح المفكر الراحل سؤالاً: لماذا نجحت حركات التحرر الوطني في التخلص من الاستعمار العسكري، ثم تم إجهاض نتائجها في الاستقلال الوطني اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وحضارياً؟

وأكد حنفي في كتابه أن مهمة علم الاستغراب رد ثقافة الغرب إلى حدوده الطبيعية بعد أن انتشر خارج حدوده إبان عنفوانه الاستعماري، من خلال سيطرته على أجهزة الإعلام ووكالات الأنباء والاستخبارات.

وأوضح نقطة بالغة الأهمية، وهي مصطلح التبادل الثقافي بين الدول، وهي في الحقيقة معناه القضاء على الثقافات المحلية من أجل انتشار الثقافة الغربية خارج حدودها، وهيمنتها على غيرها، واعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري ولا نمط سواه، وعلى كل الشعوب تقليده والسير على خطاه.

ولم يكتف حنفي بذلك بل وجدناه يعالج الحالة الراهنة للثقافة الغربية في ثقافتنا المعاصرة فيرى أن العلوم الإنسانية العربية المعاصرة أصبحت نقلاً، والعالم أصبح مترجماً، والمفكر عارضاً لبضاعة الغير.  وتنشأ المجلات الثقافية -الإنسانية المتخصصة لنشر الثقافة الغربية  .. فتنتشر العلوم والأسماء الجديدة أمام الشبان الباحثين، فيشعرون بالضآلة أمامها: الهرمنيطيقا، السيميوطيقا، الإستطيقا، الأسلوبية، البنيوية، الفينومينولوجيا، الأنثروبولوجيا، الترانسندنتالية، وتكثر عبارات: التمفصلات، التمظهرات، الأبستمية، الأبوخية، الدياكرونية، السنكرونية.. بحيث أصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم أسماء الأعلام المعاصرين في علوم اللسانيات والاجتماع، ويطبق هذا المنهج أو ذاك، متأثراً بهذه الدراسة أو تلك! ما أدى إلى ظهور جيل استغراب مقلوب، فبدلاً من أن يرى المفكر والباحث صورة الآخر في ذهنه، رأى صورته في ذهن الآخر. ولما كان الآخر متعدد المرايا، ظهر الأنا متعدد الوجوه، مثل الشخصانية الإسلامية والماركسية العربية أو النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية أو الإنسانية والوجودية في الفكر العربي أو الجوانية، وبدأ يدرس التراث بمنهج ماركسي أو بنيوي أو ظاهراتي أو تحليلي أو تفكيكي، بحيث يضحي بالموضوع في سبيل المنهج، وكأن الموضوع لا يفرض منهجه من داخله، وكأن الحضارة التي ينتمي إليها الموضوع لا منهج لها. بل أنه يصعب في الفلسفة الأوروبية نفسها التفرقة بين المذهب والمنهج.

وفي نهاية الورقة أبارك للأستاذ الدكتور حسن حنفي تأسيسه لموضوع جديد يهم الكاتب والمؤلف (وهو علم الاستغراب)؛ خاصة وأنه يعد بحق قامة فلسفية وإبداعية في ساحة الفكر والثقافة المصرية والعربية، فقد استطاع بفكره أن يخصص له مساحة واسعة لنشر أفكاره والمتتبع لكتاباته الأخيرة يقف على أن حسن حنفي مفكرا، مُنَظِّرًا وناقدًا في نفس الوقت فقد ارتكزت أبحاثه على قراءة  الفكر الغربي قراءة نقدية في ثنايا فكرنا العربي المعاصر ؛ وذلك من أجل تحرير العقل البشري من دوجماطيقية التقليد، علاوة علي تسليطه الضوء على كثير من القضايا الفلسفية التي نالت حظاً من النقاش لدى النخبة المثقفة في عالمنا العربي متخذاً في ذلك مساراً جديداً في عالم الفكر والاستبصار .

فتحية طيبة للدكتور حسن حنفي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للفيلسوف المصري الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام والذي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...................

الهوامش:

33- صفوان جيد: قراءة في علم الاستغراب، ص 88.

34- حسن حنفي: المصدر نفسه، من ص 109-143.

35- المصدر نفسه، من ص  109-143،

36- المصدر نفسه، من ص 178-216.

37- المصدر نفسه، من ص 249-270،

38- المصدر نفسه، من ص 272-277.

39- المصدر نفسه، من ص 272-277.

40- المصدر نفسه، من ص 272-277.

41- المصدر نفسه، من ص 306- 320.

42- المصدر نفسه، من ص 331-335.

43- المصدر نفسه، من ص 347-350.

44- المصدر نفسه، من ص 354-368،

45- المصدر نفسه، من ص 386-399.

46- المصدر نفسه، من ص 405-422.

47- المصدر نفسه، من ص437-447.

48- المصدر نفسه، من ص 451-455.

49- المصدر نفسه، من ص 466-480.

50- المصدر نفسه، من ص 487-498.

51- المصدر نفسه، من ص 511-534.

52- المصدر نفسه، من ص 535-544.

53- المصدر نفسه، من ص 552-564.

54- المصدر نفسه، من ص 587-601.

55- المصدر نفسه، من ص 609-617.

56- المصدر نفسه، من ص 623-629.

57- المصدر نفسه، من ص 633-635.

58- المصدر نفسه، من ص642-655.

59- المصدر نفسه، من ص 679-689.

60- المصدر نفسه، من ص 733-747.

61- المصدر نفسه، من ص 763-773.

62- المصدر نفسه، من ص 777-785.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم