صحيفة المثقف

محمود محمد علي: صلاح نصر.. راسبوتين المصري في زمن جمال عبد الناصر

محمود محمد علييعد صلاح نصر (8 أكتوبر 1920 - 5 مارس 1982) من أهم أشهر رئيس للمخابرات المصرية، وله دور بارز في رفع شأن المخابرات العامة المصرية، فقد تم في عهده العديد من العمليات الناجحة، تمنّت أسرته المتوسطة الحال أن يصبح طبيباً لكنه فضّل أن يدخل المدرسة الحربية ليتخرج ضابطاً.

صلاح نصر، ماركة معتمدة ومعروفة منذ أن كان رئيس المخابرات المصرية بين أعوام 1957-1967، وهو حاد الذكاء بطريقة مرعبة، فقد كان لديه حس أمني مخابراتي بالفطرة، علاوة علي مدي تأثره بالروايات المخابراتية ومشغول جدا بعلم النفس تحديدا، حيث استخدام ذكاءه في العسكرية بطريقة مرعبة ، إذ كان يري أن المعلومة والكلمة تأثريهم أكبر بكثير من الرصاص والمعارك العسكرية، وكان دائما ما يتحدث مع زملائه من الضباط الأحرار في هذه المواضيع، كما كان قارئ نهم للعلوم المخابراتية في العالم .

وله مؤلفات كثيرة نذكر منها: الحرب النفسية - الجزء الأول: معركة الكلمة، الحرب النفسية - الجزء الثاني: معركة المعتقد،  وتاريخ المخابرات - الجزء الأول: حرب العقل والمعرفة، وتاريخ المخابرات - الجزء الثاني: الحرب الخفية/ والحرب الشيوعية الثورية، ومذكرات صلاح نصر - الجزء الأول: الصعود، ومذكرات صلاح نصر - الجزء الثاني: الانطلاق، ومذكرات صلاح نصر - الجزء الثالث: العام الحزين، ومذكرات صلاح نصر - الجزء الرابع، وعملاء الخيانة وحديث الإفك ، والحرب الاقتصادية في المجتمع الإنساني، وعبد الناصر وتجربة الوحدة، وثورة 23 يوليو بين المسير والمصير... الخ.

وعندما تولي قلم رئيس المخابرات المصرية في زمنه قالوا عنه الكثير من القصص، وكتبت عنه عشرات الكتب، حتي أصبح أسطورة النظام الناصري والصندوق الأسود له حيث له حكايات بشعة منها : إنه أخرس حوار المقاهي.. وقهقهات التلاميذ وهم يعبرون الشوارع.. واشترى بالوعد والوعيد البنات والسيدات ورجال القلم... وجعل المبدعين في بلادنا يطفون على بحر من النميمة.. وجعل البشر العاديين يرددون ما قاله نزار قباني: يا ربي... إن الأفق رمادي. وأنا أشتاق لقطرة نور... إن كنت تريد مساعدتي يا ربي... فاجعلني عصفور.

صلاح نصر، ممتلئ بالحكايات، نُعِتَ بـ"الأسطورة" على محمليها السيء فيها تفوق على الحسن، سُلطت عليه الألسنة، وحاول رفقاء حقبته، ممن حملوا نفس سُمعته الدفاع عنه، فلم تُجد محاولاتهم نفعًا، وظل "صلاح نصر" في أذهان العوام "نقطة سوداء" في تاريح الحقبة الناصرية والمخابرات العامة، وذلك لكونه قد بلغت سطوته محارم الفنانين، متخطيًا حدود الدفاع عن أمن البلاد، بتجنيد مَن لا ناقة له ولا جمل فيما يحدث، واستغل نفوذ موقعه لإشباع رغباته الجنسية في نظر معارضيه.

وصلاح نصر أول فكرة إنشاء شركات كـ"النصر للاستيراد والتصدير"، لتكون ستاراً لأعمال الجهاز والاستفادة منها في تمويل عملياته.. كان محسوباً على جناح المشير عبد الحكيم عامر، قائد الجيش المصري الذي انهزم وانتكس في حرب يونيو 1967، وهو صاحب البناء الحقيقي لواحد من أقوى أجهزة مخابرات المنطقة، ورغم جهود زكريا محيي الدين، أحد الضباط الأحرار والذي عهد إليه عبد الناصر بمهمة تأسيس الجهاز عام 1954، فإن مرحلة رئاسة صلاح نصر للمخابرات من 1957 حتى 1967، يؤرَّخ لها باعتبارها الانطلاقة القوية للجهاز.

العامة لا يشكرون، والخاصة ممن رافقوه يروه "رجل محترم" وعلى رأسهم شمس بدران، وزير الحربية الأسبق، الذي غادر مصر منذ 1975، وسُردت عنه حكايات بتعذيبه للمواطنين ممن يشك في ميولهم السياسية في فترة الستينات أيضًا، وقال عن نصر إنه "رجل كويس أوي"، ورأى أن التاريخ ظلمه، وأنه كان "راجل شجاع وأمين"، ونفس الرأي قاله عمرو عبدالحكيم عامر، بقوله: "صلاح نصر أسطورة المخابرات، عمل إنجاز تاريخي وهو تأسيس مخابرات مصر، وكل العمليات اللي بنتفشخر بيها أيامه، والأسس والقواعد هوا اللي عملها، وبعتبره إنجاز يساوي إنجاز السد العالي، واتظلم جدًا وتم الافتراء عليه إعلاميًا، وللعلم مات بيبيع سجاد بيته وكان تحت إيده ملايين".

ولد صلاح نصر في 8 أكتوبر 1920 في قرية سنتماي، مركز ميت غمر، محافظة الدقهلية وكان والده أول من حصل من قريتهم على تعليم عال، وكان صلاح أكبر أخوته لذا كان مميزا كابن بكر بالنسبة لأبيه وأمه. وتلقى صلاح تعليمه الابتدائي في مدرسة طنطا الابتدائية وتلقى تعليمه الثانوي في عدة مدارس نظرا لتنقل أبيه من بلدة لأخرى فقد درس في مدارس طنطا الثانوية، وقنا الثانوية، وبمبة قادن الثانوية بالقاهرة، ونشأ في طبقته الوسطى وأمضى طفولته وصباه في مدينة طنطا، وكانت أول هدية حصل عليها من أبيه كاميرا تصوير ماركة "نورتون" ثمنها اثنا عشر قرشا عام 1927.

وفيما بين عامي 1935 و 1936 كان صلاح نصر يدرس في محافظة قنا جنوب مصر وتعرف كثيرا على الصعيد وبهرته أسوان و الأقصر ودندرة وأدفو وكوم أمبو، وبعد عام في قنا عاد مع والده إلى القاهرة لينهي دراسته الثانوية ويلتحق بالكلية الحربية في دفعة أكتوبر عام 1936 ولم يكن والده مرحبا بدخوله الكلية الحربية.

التحق "نصر" بالكلية الحربية عام 1936 وكان صديقاً مقربا لــ"عبد الحكيم عامر"، وكان "عبد الناصر" مدرسًا لهما بالكلية، عاصر "نصر" أحداثاً هامة للغاية مثل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وحادث "4 فبراير – محاصرة قصر عابدين”، وانقسامات حزب الوفد والوزارات الائتلافية التي أضعفت السياسة المصرية، وكذلك ”حرب فلسطين 48”، والتي انضم بعدها لتنظيم "الضباط الأحرار"، ويكون قائداً لـ "الكتيبة 13" في ليلة قيام "حركة 23 يوليو 1952". في أكتوبر 1965، رشحه "عبد الناصر" ليكون "نائبًا" لـ"علي صبري – مدير المخابرات"، وتولى رئاسة الجهاز في مايو 1957، وقتها كان جهاز المخابرات حديث الإنشاء ويحتاج إمكانيات مادية وبشرية مدربة تستطيع تحمل المسئولية، وهنا برز دور "نصر" في تنشئة الجهاز وإرسال بعثات للتدريب داخل أكبر أجهزة المخابرات في العالم باتصال وتنسيق شخصي منه، ثم العودة وتدريب باقي العاملين في الجهاز، كما أنشأ أيضاً شركة نقل برأسمال (300 ألف جنيه مصري)، وكان مبلغاً كبيراً حينها؛ خصص دخلها لجلب معدات المخابرات.

وحول دور صلاح نصر فى بناء المخابرات المصرية، فقد كان بناء الجهاز يحتاج تكاليف باهظة من المال والخبرة والأخطر من ذلك هو توفير كفاءات بشرية مدربة تدريبا عاليا وكانت التدريبات هي أولى المشكلات التي واجهها الجهاز الوليد واستطاع صلاح نصر باتصالاته المباشرة مع رؤساء أجهزة المخابرات في بعض دول العالم أن يقدموا عونا كبيرا، تحفظ صلاح نصر الوحيد كان الخوف من إرسال البعثات إلى الخارج بإعداد ضخمة حتى لا تستطيع أي من أجهزة المخابرات في العالم اختراق الجهاز مع نشأته أو زرع بعض عملائها به. فاكتفى صلاح نصر بإرسال عناصر من كبار الشخصيات داخل الجهاز بإعداد قليلة لتلقى الخبرات والعودة لنقلها بدورهم إلى العاملين في الجهاز.

واستطاع الجهاز بمجهوده الخاص أن يبحث عن المعدات الفنية التي مكنته من تحقيق أهدافه وقام صلاح نصر بالتغلب على مشكلة التمويل حين قام بإنشاء شركة للنقل برأسمال 300 ألف جنيه مصري تحول أرباحها لجهاز المخابرات، وحين اخبر صلاح نصر جمال عبد الناصر بأمر هذه الشركة طلب منه زيادة رأسمالها واتفق معه على أن يدفع من حساب الرئاسة 100 ألف جنيه مساهمة في رأس المال على أن يدفع عبد الحكيم عامر مبلغا آخر من الجيش وتقسم أرباح الشركة على الجهات الثلاث.

كما اهتم صلاح نصر بعد ذلك بتحديد أنشطته ومهامه الرئيسية خاصة وان المخابرات الحربية تتبع القائد الأعلى للقوات المسلحة والمباحث العامة لها دورها الآخر في الأمن الداخلي. إذن كانت مهمة المخابرات الوحيدة جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها لصانع القرار. إسرائيل كانت هما شاغلا لهذا الجهاز منذ تأسيسه فصلاح نصر منذ اللحظة الأولى له في المخابرات جمع كل ما كتب عن إسرائيل والموساد وقرأته حيث قامت المخابرات في هذه الفترة بأهم عملياتها ضد إسرائيل تلك العمليات التي أصبحت فيما بعد تدرس في معهد المخابرات الدولية من أشهر تلك العمليات وأهمها عملية لوتز الذي قبض عليه .

وقد شهدت فترة توليه رئاسة جهاز المخابرات المصري، محاولات استقطاب وتجنيد لعدد من الفنانات لكي يصبحن بمثابة العيون على بعضهم البعض خصوصًا في السهرات الفنية الخاصة ؛ ففي عام1963 تقرر تشغيل الفتيات في المخابرات... اتخذ صلاح نصر هذا القرار بعد أن وجد كل أجهزة المخابرات في العالم تستخدمهن في عملها.... فالمعروف نفسيا أن الرجل يفقد توازنه وهو مع المرأة بل وقد ينسى نفسه ويتفوه بأحاديث سرية.. كان هذا مبرر استعمال سلاح الأنوثة في مصر، وقد اعترف صلاح نصر بأنهم استعملوا 100 فتاة وأنهم كانوا يلجأون لتصويرهن من باب السيطرة وخوفا من تقلب عواطفهن... كذلك اعترف بأن بعض الفنانات كان لهن دور.

وهذا ما قاله صلاح نصر... في حوار مع الكاتب الراحل عبدالله إمام... ثم استطرد:

"كان هذا من بين أسباب إحجامنا عن استخدام النساء في بادئ الأمر ولكن ظروف الأمن أجبرتنا على ذلك.. وأضاف: "إن بعض الزوار الذين كانوا يحضرون... لمباحثات سياسية سرية على مستوى القمة يتصلون بنساء.. وفي اليوم التالي كانت أجهزتنا تأتي بكل أسرار المحادثات من أفواه هؤلاء النسوة اللواتي يرددنها في كل مكان.. ففكرنا أن يكون لدينا طاقم مدرب يمكن السيطرة عليه لا يفشي الأسرار.. هؤلاء اللواتي عملن معنا حصلن على تدريب أمني وفرق توعية، نجحنا بواسطتهن في عدم نشر الأسرار السياسية... كان هذا أساساً هو المنطق الذي جعلنا نستخدم أسلوب النساء لكنه تطور بعد ذلك.. فكرنا في استخدامه في بعض قضايا التجسس... ونجحت بعض النساء العميلات لنا في الكشف عن قضايا تخابر لم يكن في استطاعة الرجال أن يصلوا إليها.

وجاء في البند الثالث... من قرار اتهام صلاح نصر - في قضية انحراف المخابرات بعد الهزيمة - أنه ارتكب جنايات هتك عرض باستغلال وسائل التصوير الفوتوغرافي والسينمائي السرية في استدراج بعض النساء والتقاط صور لهن بطريق الخديعة في مكان أعد لهذا الغرض للتوصل بذلك إلى تهديدهن والسيطرة عليهن ليتمكن من إخضاعهن لشهواته الخاصة.

وقد تم الحكم عليه بعد انتحار عبدالحكيم عامر بالمؤبد، وكان عبدالناصر قد استدعاه في ٢٣ أكتوبر ١٩٥٦، وطلب منه أن يذهب إلى المخابرات العامة ليصبح نائباً للمدير، كان المدير وقتها هو على صبري، وبعد عدة شهور أصبح على صبري وزير دولة وتولى صلاح نصر رئاسة الجهاز في ١٣ مايو عام ١٩٥٧، وحقق إضافة نوعية للجهاز.

وقد برزت شهرة الفنانة" المصرية اعتماد خورشيد حين ألفت كتابا حول انحرافات جهاز المخابرات المصرية، في فترة الستينيات من القرن الماضي، تحت قيادة زوجها الراحل صلاح نصر؛ وحسب ما جاء في الكتاب، الذي حمل عنوان "اعتماد خورشيد... شاهدة على انحرافات صلاح نصر"، فإن الأخير أجبر زوجها السابق أحمد خورشيد على تطليقها لكي يتزوجها هو، كما أجبره على أن يكون شاهدا على عقد الزواج.

وكتاب " اعتماد خورشيد " أعُيد طباعته ست مرات خلال ثلاث شهور من طباعته الأولى، إذ احتوى على العديد من الاعترافات التي من الصعب تصديقها؛ فالكتاب في مجمله يتضمن قصصا مثيرة من لقائها بالرئيس جمال عبد الناصر لتروي له انحرافات رئيس مخابراته صلاح نصر... وهو اللقاء الذي كذبه العديد من الكتاب والصحافيين، واعتبروه من نسج خيال الكاتبة مثل قصص أخرى روتها في كتبها الأخرى عن عبد الناصر وعلاقته باليهود، وانحرافات فنانات كبيرات.

وفي الكتاب أيضا تعبت اعتماد خورشيد كثيرا لكي تثبت أنها كانت "ملاكا" يتحرك في عالم الشياطين و"نعجة" وقعت بين أنياب ذئب كاسر، لكنها لم تنجح... ليس لأن الآخرين لم يكونوا شياطين أو ذئابا، بل لأن براءة الذمة التي قدمتها كانت شاهد إثبات ضدها لا معها، لأن الكتاب الذي صورت فيه انحرافات صلاح نصر... وهي انحرافات تأذى منها كثيرون وليس "مدام" اعتماد وحدها، رسم أيضا صورة أكيدة عن انحرافات صاحبته وكثير من "الذئاب" الذين بنت معهم شبكة من العلاقات "الحميمة"، غير أنها صورة من نوع آخر لم تتوسع فيها كثيرا اعتماد خورشيد.

وفي 26 يونيو 1967 اعتُقل  صلاح نصر وتمت محاكمته، وحُكم عليه بالسجن 15 عامًا في قضية انحراف المخابرات، و25 عامًا في قضية مؤامرة المشير عبدالحكيم عامر، وأفرج عنه السادات عام 1974 بعفو صحي، ونُقل إلى مستشفى "قصر العيني" عنبر المعتقليين السياسيين من السجن بعد إصابته بأزمة قلبية، وتوفي في 5 مارس 1982 عن عمر ناهز 62 عامًا.

بعد كل هذا التاريخ كان مصير الرجل وراء القضبان، لاتهامه في قضية انحراف المخابرات الشهيرة والمُلغزة في آن، فلكل لعبة ضحايا، ولكل نظام رجال يجب أن تُكتب لهم النجاة وأيضاً رجال يجب أن يُحاسبوا على فاتورة الإخفاق العام، بسبب وبدون سبب، وكان نصر فيما يبدو الوجه الملائم ليمسح به النظام الناصري جرائمه وآثامه، بعد انهيار الحلم الرومانتيكي للعرب على وقع نكسة يونيو1967م.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز  دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..................................

1- ماهر حسن : «زي النهارده».. وفاة صلاح نصر في 5 مارس 1982.. المصري اليوم .. الجمعة 05-03-2021 05:01

2- صلاح نصر من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.

3- عبد الله إمام، "صلاح نصر يتذكر: الثورة - المخابرات - النكسة"، طبعة 1999، 264 صفحة، دار الخيال.

4- مصطفى علي: هل تعمّد عبد الناصر إدانة صلاح نصر في "انحراف المخابرات"؟.. مصطفى علي.. الخميس 5 مارس 202005:07 م.

5- د . سمير محمود قديح: فنانة في فراش رئيس جهاز المخابرات نقلت أغلى معلومة في تاريخ الموساد، دنيا الوطن،

6- حسنين كروم: صلاح نصرالأسطورة والمأساة، مكتبة كمال الدين, القاهرة، 1976.

7- سلوى الزغبي: بروفايل| صلاح نصر.. "النقطة السوداء"، الوطن المصرية، 11:20 ص | السبت 05 مارس 2016.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم