صحيفة المثقف

منى زيتون: مراحل نقل رأس سيدنا الحسين إلى القاهرة

منى زيتونفي رمضان سنة 358 هـ، دخل جوهر الصقلي ‏قائد المعز لدين الله العبيدي الفاطمي مصر وملكها، وخُطب للمعز الفاطمي على المنابر، كما استقرت يد الفاطميين على دمشق في سنة 360هـ، وتمكنوا من أغلب مدن الشام، وانتقل الخليفة المعز الفاطمي للقاهرة سنة 362هـ، وكذا خُطب للفاطميين بمكة والمدينة بدءًا من موسم حج سنة 363هـ، ‏واستمرت الخطبة لهم في الحرمين قرنين من الزمان بدلًا من خلفاء بني العباس.‏

وقبل انتهاء دولة الفاطميين الإسماعيلية بعقدين من الزمان يحكي لنا المؤرخون الثقات أن رأس الإمام الحسين بن علي شهيد كربلاء قد نُقلت من عسقلان إلى القاهرة، لما استولى الفرنج على عسقلان سنة 548هـ

ولما كنا نعرف أن رأس الحسين كانت أولًا بكربلاء حيث قُتل، ثم جزها اللعين ابن زياد وحملها معه إلى اللعين يزيد في دمشق، وبعد أن اكتشف سنة 1260هـ في عهد السلطان العثماني عبد المجيد خان موضع الطاق الذي دفنه فيه الأميون في باب الفراديس بدمشق وعليه نقش على الحجر يوضح أنه مشهد رأس الإمام الحسين، فتأكد أنهم دفنوه بدمشق، فلم يعيدوه إلى كربلاء أو يرسلوه ليُدفن في المدينة كما ادعى بعضهم، ثم إن هذا المشهد بباب الفراديس بدمشق كان فارغًا! فيبقى السؤال الحائر: كيف جاءتنا الرأس من عسقلان وليس من دمشق؟ وكيف ولماذا انتقلت أولًا من دمشق إلى عسقلان؟

وهذا هو السؤال الذي أحاول الإجابة عنه في هذا المقال، وأزعم أنه لم يلق عناية من أحد، فالجهود التي انتصفت لوجود رأس الحسين بالقاهرة تركزت في تعداد شهادات الأئمة والرحالة في كتبهم والأئمة والأثريين المحدثين بأن رأس الحسين في مشهده بالقاهرة، وفندت الدعاوى بوجود الرأس في مدافن أو مشاهد أخرى، من خلال ما وُثق في الكتب ومن خلال مناقشات منطقية، ولا أحسب أن لدي ما أضيفه على قولهم، ومن ثم فهدف المقال هو توضيح الظروف التي نُقلت فيها الرأس الشريف من دمشق إلى عسقلان، ومن الذي تشير إليه الأدلة أنه تولى نقلها؟

الشدة العظمى

يذكر المقريزي في "الخطط" (ج1، ص335) حدوث ارتفاع السعر في مصر سنة 446هـ، ‏‏وذكر تحديدًا أن هذه السنة هي بداية سنوات الشدة العظمى، ولم تكن هذه الشدة مخصوصة بديار مصر، بل كانت بلاءً ووباءً عظيمًا بدأ سنة ‏‏446هـ، واستمرت زهاء ثمانية أعوام حتى سنة 454هـ، ونكبت بلاد الإسلام من ‏سمرقند إلى ‏مصر. والحوادث المختارة التي دونها المؤرخون عن تلك السنوات تؤكد عمومها، فغلت الأسعار، وأكل الناس الميتة، وعجزوا عن دفن الموتى فكانوا يجعلون الجماعة في الحفرة الواحدة، وربما عجزوا عن تغسيلهم في بعض الأوقات! واستمر تواتر الأخبار عن الغلاء في تلك السنوات الثمانية إلى أن حلت سنة 454هـ والتي ذكر فيها ابن الأثير في "الكامل في التاريخ" (ج8، ص 359) أن الرخص قد عم فيها كل الأصقاع، فبيع بالبصرة ألف رطل من التمر بثمانية قراريط.

ولنعد إلى بداية سنين الشدة، فنجد ابن الأثير يذكر في حوادث سنة 447هـ (ج8، ص 325) أن الغلاء زاد بمكة حتى بلغ الخبز عشرة أرطال بدينار مغربي ثم تعذر وجوده، فأشرف الناس والحجاج على الهلاك، وأن سبب هذا الغلاء عدم زيادة النيل بمصر، فلم يُحمل منها الطعام إلى مكة، كما كانت عادة الفاطميين.

وبسبب ذلك القحط –ووفقًا لما أورد المقريزي في "خططه"- ‏طلب المستنصر بالله الفاطمي إلى إمبراطور الروم –قسطنطين- ‏إمداده بالغلال، فوافق، وجهّز 400 ألف أردب لحملها إلى مصر، لكنه مات، فكتبت الإمبراطورة ثيودورا إلى المستنصر تسأله أن يكون عونًا لها، ويمدها بعساكر ‏مصر إذا ثار عليها أحد، فرفض، فمنعت حمل الغلال إلى مصر، ودخلوا حربًا، ثم إنه بعد ‏هزيمة الفاطميين من الروم سنة 447هـ، ذكر المقريزي ‏(ج1، ص335) ‏"بعث المستنصر بالله الفاطمي أبا عبد الله القضاعي ‏‏–القاضي الشافعي- برسالة إلى القسطنطينية، فوافى إليها رسول طغرلبك السلجوقي من العراق، بكتابة ‏يأمر متملك الروم بأن يُمكِّن الرسول من الصلاة في جامع القسطنطينية، فأذن له في ذلك، ‏فدخل إليه وصلّى فيه صلاة الجمعة، وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسي، فبعث القاضي ‏القضاعي إلى المستنصر يخبره بذلك، فأرسل إلى كنيسة قيامة بيت المقدس، وقبض على ‏جميع ما فيها، وكان شيئًا كثيرًا من أموال النصارى"أهـ. ومعلوم معنى إقامة الخطبة في تلك ‏العصور، وكانت الخطبة قد أُقيمت للظاهر بالله والمستنصر بالله الفاطميين في جامع ‏القسطنطينية قبل القائم العباسي بعقود.‏

ولا يعنينا هنا موقف الإمبراطورة فقد اختارت الجانب الذي رأت معه مصلحتها، ولكن هذه الشدة ثم هذا الحدث كانا بداية النزاعات المعلنة بين العباسيين وأعوانهم السلاجقة وبين الفاطميين، والتي مهدت لنقل رأس الحسين من دمشق إلى عسقلان.

وكان نفوذ الفاطميين يتزايد بالعراق قبلها بعقود لكن دون نزاعات حقيقية، وكل ما فعله الخليفة العباسي القائم بالله وقبله أبوه الخليفة القادر بالله هو الطعن في نسب الفاطميين، وإشهاد العلماء والأشراف على ذلك.

فتنة البساسيري في بغداد

كان القرن الرابع الهجري قرن الشيعة. بالرغم من ذلك فقد تصارع أمراء الدول الشيعية (البويهيين- الحمدانيين- القرامطة- ‏الفاطميين) فيما بينهم، ولم يرحب الملوك البويهيون بفكرة تسليم الخلافة للفاطميين عندما ‏ملكوا أمر بغداد، وتحكموا في الخلفاء العباسيين، حتى خلعوهم، لكن عوام الشيعة بالعراق لم يكن ‏حالهم حال كبار أمرائهم، فكانوا دائمًا على استعداد للترحيب بالحكم الفاطمي.

ثم تغيرت قواعد اللعبة عندما دخل السلاجقة السُنة بغداد سنة 447هـ فغير بعض الأمراء الشيعة بالعراق ولاءهم وخلعوا طاعة الخليفة العباسي. وكانت أهم فتنة ساهم فيها ‏الشيعة بالعراق هي فتنة البساسيري، سنة 450هـ، بعد ثلاث سنوات من دخول السلاجقة ‏بغداد، وانتهاء عهد البويهيين، وتوفي الملك الرحيم آخر ملوك بني بويه بقلعة الري التي كان قد سجنه فيها السلطان السلجوقي في تلك السنة التي نشبت فيها الفتنة.

والبساسيري هو قائد تركي، كان من مماليك بهاء الدولة ‏البويهي، ثم كان مقدمًا عند الخليفة العباسي القائم بأمر الله لا يقطع أمرًا دونه، ثم خرج على ‏الخليفة ودعا إلى خلافة الفاطميين.‏

وكان ابتداء الوحشة بين البساسيري والخليفة العباسي مع بدء سنوات الشدة العظمى سنة 446هـ، ثم تأكدت الوحشة بين البساسيري وبين الوزير رئيس الرؤساء ببغداد سنة 447هـ، وفقًا لما ذكر ابن الأثير في "الكامل في التاريخ" (ج8، ص 317، ص 321). وفي سنة 447هـ، ومع وصول السلطان السلجوقي طغرلبك إلى بغداد والخطبة له بها مع الخليفة العباسي، تأكد خلع البساسيري لطاعة الخليفة العباسي ومكاتبته للخليفة الفاطمي (ج8، ص 322).

ثم ذكر ابن الأثير في حوادث سنة 448هـ أن علاء الدين أبو الغنائم بن المحلبات خطب للخليفة المستنصر الفاطمي في واسط (ص 331)، وذكر (ص 332) أن جماعة كبيرة من أرباب الدولة العباسية خطبوا للخليفة الفاطمي المستنصر بالله في الموصل، وكانوا قد كاتبوه بطاعتهم فأرسل إليهم الخُلع من مصر للبساسيري ولنور الدولة دبيس بن مزيد ولجابر بن ناشب ولمقبل بن بدران أخي قريش بن بدران ولأبي الفتح بن ورام ونصير بن عمر وأبي الحسن بن عبد الرحيم ومحمد بن حماد، وانضاف إليهم قريش بن بدران. ولكن في وقت لاحق من العام نفسه –كما ورد في (ص 334)- عاد نور الدولة دبيس بن مزيد وقريش بن بدران إلى طاعة السلطان طغرلبك السلجوقي حليف الخليفة العباسي، وأعلنا تخليهما عن البساسيري.

وكانت الخيانات متبادلة، فعلى الجانب الآخر روى ابن الأثير (ص 338) أنه في ذي الحجة من السنة التالية -449هـ- قبض بمصر على الوزير اليازوري وزير المستنصر بالله الفاطمي، وصودرت منه أموال عظيمة؛ بسبب ما وجدت له من مكاتبات إلى بغداد.

ولكن الفتنة احتدمت بالعراق وبلغت أوجها في ذي القعدة من سنة 450هـ عندما عاد البساسيري إلى بغداد وخطب بجامع المنصور للمستنصر بالله الفاطمي، وأنقل الرواية عن ابن كثير. حكى ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج15، ص ص756-757) أنه "في ذي القعدة من ‏هذه السنة، دخل البساسيري إلى بغداد، ومعه الرايات البيض المصرية، وعلى رأسه أعلام ‏مكتوب عليها: الإمام المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين، فتلقّاه أهل الكرخ –الشيعة- فتضرعوا ‏إليه، وسألوه أن يجتاز عندهم، فدخل الكرخ، وخرج إلى مَشْرَعة الرَّوايا، فخيّم بها، والناس إذ ‏ذاك في ضُرٍ ومجاعة شديدة، ونزل قريش بن بدران –ولقبه أمير العرب، وهو قائد موالي ‏للفاطميين- في نحو من مائتي فارس على مَشْرَعة باب البصرة –محل للحنابلة-، وكان ‏البساسيري قد جمع العيارين –طائفة من السُراق الحراميّة- وأطمعهم في نهب دار الخلافة، ‏ونهب أهل الكرخ دُور أهل السنة بباب البصرة، ونُهبت دار قاضي القضاة الدامغاني، وهلك ‏أكثر السجلات والكتب الحكمية وأُبيعت للعطارين، ونُهبت دُور المتعلقين بالخليفة، وأعادت ‏الروافض الأذان بحي على خير العمل، وأُذن به في سائر جوامع بغداد في الجُمُعات ‏والجماعات، وخُطِب ببغداد للمستنصر العُبيدي الذي يُقال له الفاطمي على منابر بغداد، ‏وضُربت له السكة على الذهب والفضة، وحُوصرت دار الخلافة"أهـ.

وحدثت حوادث كثيرة ‏وجلبة أهمها نهب العامة دار الخلافة، ثم نفي الخليفة القائم بأمر الله خارج بغداد، وبقي ‏خارجها حولًا كاملًا حتى انحسرت الفتنة، كما قتل البساسيري الوزير ابن المُسلِمة. وفي سنة ‏‏451هـ ذكر ابن كثير (ص765) أنه "أحضر البساسيري قاضي القضاة وجماعة من الوجوه ‏والأعيان من العلويين والعباسيين، وأخذ عليهم البيعة للمستنصر الفاطمي، ثم دخل دار ‏الخلافة، وهؤلاء المذكورون معه"أهـ.‏

ويذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج16، ص32) " أنه عند دخول البساسيري ‏‏"نُهب ‏أكثر باب البصرة –منطقة الحنابلة- بأيدي أهل الكرخ –الشيعة- تشفيًا لأجل ‏المذهب، ‏وانصرف الباقون عراة، فجاؤوا إلى سوق المارستان، وقعدوا على الطريق ومعهم النساء ‏والأطفال، وكان البرد حينئذ شديدًا، وعاود أهل الكرخ الأذان (بحي على خير العمل) ‏وظهر ‏فيهم السرور الكثير، وعملوا راية بيضاء ونصبوها وسط الكرخ، وكتبوا عليها اسم ‏المستنصر بالله"أهـ.‏

ولكن الفتنة وئدت في النهاية فلم تنجح ثورته، ولعل السبب الرئيسي لإخفاق البساسيري وانتهاء فتنته بانفضاض كل من كانوا معه عنه ومصالحتهم العباسيين والسلاجقة، ثم قتله، أن المستنصر بالله الفاطمي لم يمده بالجيوش، ‏وإلا فربما كانت الخلافة العباسية قد انتهت، وتغير وجه التاريخ؛ وكان ذلك بسبب وقوع وزير المستنصر في البساسيري وتخويفه منه، ثم لأن تلك الفتنة حدثت وقت ‏الشدة العظمى، التي سبقت الشدة المستنصرية، حيث حلّت المجاعة وفني البشر في بلاد الإسلام من سمرقند إلى ‏مصر. ولم تكن أحوال المستنصر بالله ‏الفاطمي بأقل سوءًا من أحوال القائم بأمر الله العباسي، وانقشعت تلك السنين في النهاية، وبقيت الخلافتان.‏ ولكن سنين الشدة لم تنقضِ وملك الفاطميين على حاله كما سنرى.

ولتلك الفتنة خلفيات كما أوضحنا، حيث كان نفوذ الفاطميين يتزايد بالعراق طوال السنوات السابقة ‏للفتنة، حتى بعث رئيس الرؤساء في بغداد ابن المسلمة لطغرلبك السلطان السلجوقي يطلب منه دخول ‏بغداد نصرة للخليفة العباسي، فدخلها، واتخذ طغرلبك إجراءات تخويفية ضد الشيعة كي لا يفكروا في ‏نصرة الفاطميين والدعاء لهم، ولكن خروج ‏طغرلبك من بغداد لاسترجاع الموصل جعلها فريسة للبساسيري وابن بدران دعاة الفاطميين، ‏والإجراءات التي اُتخذت لإخافة الشيعة اعتبرها الشيعة إذلالًا وانتقموا عند دخول البساسيري، بل إنه وفقًا لابن الأثير (ج8، ص 342) فإن عامة بغداد من السُنة أيضًا مالوا إلى البساسيري وكرهوا الأتراك لما كانوا لاقوه منهم.

الشدة المستنصرية في مصر واستوزار بدر الجمالي

ذكر المقريزي في "الخطط" (ج1، ص ص335: ‏‏337) الكثير من التفاصيل، التي توضح سوء الحال الذي بلغ بمصر عندما امتدت سنوات المجاعة والخراب والموت من بدء الشدة العظمى العامة (446- 454هـ) ثم الشدة المستنصرية التي تلتها بأرض مصر خاصة ‏(457هـ - 464هـ)، وإن كان ابن الأثير يذكر في "الكامل" (ج8، ص 381) أن غلاءً شديدًا كان بأرض مصر سنة 460هـ، وأنه انقضى سنة 461هـ، ولكنه عاد فذكر (ص 385) أنه وقع غلاء شديد ومجاعة بديار مصر سنة 462هـ، حتى فارقها أهلها، وحمل التجار الفارون منهم ثياب المستنصر وبعض المنتهبات. ثم ذكر (ص 401) "وانقضت سنة أربع وستين وما قبلها بالفتن، وانحط السعر سنة خمس وستين ورخصت الأسعار"أهـ.

فبعد ارتفاع الشدة العظمى والمجاعة التي عمت بلاد المسلمين وعصفت بالخلافة العباسية، وتحديدًا سنة 457هـ بدأ تناقص النيل وحدثت الشدة المستنصرية التي استمرت سبع سنوات عجاف أخرى من المجاعة والخراب الذى حل بمصر، وحكى عنها المؤرخون العجائب مما لا يكاد يُصدق؛ فكثر الموت في مصر، وجاع الناس حتى أكلوا القطط والكلاب، ثم أكلوا بعضهم ‏بعضًا.

ووفقًا لما ذكره ابن الجوزي في "المنتظم" (ج16، ص ص 116-117) في حوادث سنة 462هـ، والتي يبدو أنها كانت أسوأ وأصعب سنين الشدة، قال: "فسدت أحوال ملك مصر وقوتل، فاحتاج، فبعث فأخذ ما في مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وضاقت يد ابن أبي هاشم أمير مكة لانقطاع ما كان يصله من مصر وغيرها، فعمد إلى ثياب الكعبة فقطع الذهب الذي فيها وسبكه، وإلى قبلتها وميزابها وحلق بابها، فكسره وضربه دنانير ودراهم، ثم عدل إلى مصادرات أهل مكة حتى رحلوا عنها، وكذلك صنع أمير المدينة، فأخذ قناديل وآلات فضة كانت هناك فسبكها"أهـ. وأخبر ابن الجوزي وغيره من المؤرخين عن ورود بغداد في هذه السنة أناس فارين من مصر بسبب الخوف والغلاء.

ولم يكن نقص النيل السبب الوحيد في الشدة، بل لعبت أم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله دورًا رئيسيًا في الخراب الذي لحق بالبلد لتدخلها في شئون الحكم بما يثير الفتن بين الأتراك والعبيد، فعدم الأمن وخاف الناس التجارة، ونهب الجنود الريف وقلت الزراعة، وساءت الأمور في مصر وضعف المستنصر إلى حد أن تجرأ عليه ناصر الدين (الدولة) الحسين بن حمدان، وهو أحد الأمراء بمصر من أحفاد الحمدانيين أصحاب الدولة الشهيرة التي قامت في حلب والموصل في القرن الرابع الهجري، والذي عاث فسادًا في ديار مصر، إلى حد أن بعث في سنة 464هـ رسولًا إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله ليُقيم له ‏الخطبة بمصر عوضًا عن الخليفة المستنصر الفاطمي، وأقامها له بالفعل في بعض المناطق كالإسكندرية ودمياط، وذلك بعد أن كانت الخطبة للعباسيين قد عادت في مكة والمدينة وأغلب مدن الشام. وقُتل ابن حمدان سنة 465هـ، وقُتل بعده أخواه، فانقطع ذكر الحمدانيين بمصر، وانقضت فتنهم.

ثم بدأ انصلاح الأحوال في عام 466هـ عندما تولى الوزارة أمير الجيوش بدر الجمالي. ذكر ابن الأثير في ترجمته في "الكامل" (ج8، ص 496) أن المستنصر "كان قد استعمله على الشام سنة خمس وخمسين وأربعمائة، وجرى بينه وبين الرعية والجند بدمشق ما خاف على نفسه فخرج عنها هاربًا، وجمع وحشد وقدم إلى الشام، فاستولى عليه بأسره سنة ست وخمسين، ثم خالفه أهل دمشق مرة أخرى، فهرب منه سنة ستين، وخرب العامة والجند قصر الإمارة، ثم مضى أمير الجيوش إلى مصر"أهـ.

وذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج19، ص ص 81-82) في ترجمته أنه "ولي نيابة دمشق للمستنصر في سنة خمس وخمسين وأربع مئة، فبقي ثلاث سنين، ثم هاج أحداث دمشق وشُطارها، وكانت لهم صورة كبيرة، وإليهم أسوار البلد، فتسحَّب منها في سنة ستين، وأُخرِب قصره الذي كان يسكنه خارج باب الجابية، ثم مضى إلى مصر، وقيل: بل ركب البحر من صور إلى دمياط لمّا علم باضطراب أمور مصر، وشدة قحطها، فهجمها بغتة، وسُر بمقدمه المستنصر الإسماعيلي، وزال القُطوع عنه، والذل الذي قاساه من ابن حمدان وغيره. فلوقته قتل عدة أمراء كبار في الليل، وجلس على تخت الولاية، وقرأ القارئ: ‏﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ﴾ [آل عمران: 123]"أهـ.

ولكن المستوثق منه أن الذي قتل ناصر الدولة ابن حمدان هو قائد كبير من الأتراك اسمه الدكز، وقتل أمير تركي آخر أخويه فخر العرب وتاج المعالي ابني حمدان، كما أن أغلب المؤرخين على أن المستنصر بالله الفاطمي هو من استدعى بدر الجمالي من الشام، وكان المستنصر قد ولاه عكا بعدما ترك دمشق سنة 460هـ، وأن بدر الجمالي تولى الوزارة بدءًا من عام 466هـ بعد مقتل ابن حمدان رأس الثورة وانخفاض الأسعار.

ولكن لا ينكر أحد من المؤرخين دور الجمالي في استعادة زمام الأمور وبسط نفوذ الخليفة الفاطمي بقتل بقية أهل الثورة من الأمراء، فاستتب الأمن وانتعشت التجارة إلى مصر، وأصلح أحوال الزراعة، فزادت الأرزاق وتحسنت الأحوال، فأنعم عليه المستنصر بلقب السيد الأجل أمير الجيوش.

وإن كان جهد الجمالي في ضبط الحال كان مركزًا على مصر، وكان الفاطميون قد فقدوا نفوذهم على باقي البلاد التي كانت تدين لهم زمن الشدة، وكانت قد انقضت فتنة البساسيري بقتله سنة 451هـ، وعاد الخليفة العباسي القائم بالله إلى بغداد، ثم خُطب له في مكة والمدينة بدلًا من المستنصر سنة 462هـ، واستمرت مدة الخطبة لبني العباس بمكة أربع سنين وخمسة أشهر، حتى أعيدت للمستنصر في ذي الحجة سنة 467هـ؛ كما فقد الفاطميون نفوذهم في البحر المتوسط بخروج صقلية عن حكمهم سنة 463هـ.

واستغل السلاجقة أحلاف العباسيين هذا الضعف الذي كانت عليه الخلافة الفاطمية وحاولوا إنهاء نفوذهم في الشام، كما استقل بعض الأمراء والقضاة عن الفاطميين بما تحت أيديهم من مدن، وكاتبوا العباسيين وأعادوا الخطبة للخليفة العباسي القائم بأمر الله، ومن نتيجة ذلك أن خرجت أغلب مدن الشام كصور وطرابلس وحلب وبيت المقدس والرملة ودمشق عن الحكم الفاطمي زمن الشدة، وإن كان بدر الجمالي قد استطاع إخضاع أغلبها بعد ذلك، وكان أكبر نجاح له في سنة 482هـ.

واستمر بدر الجمالي في الوزارة حتى مات بمصر سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، وولي بعده ابنه الأفضل شاهنشاه الملقب أيضًا بأمير الجيوش.

ثم زادت وطأة الأمر على الفاطميين ببدء الحملة الصليبية الأولى بهجمات كثيرة من الفرنج في أواخر القرن الخامس الهجري. وروى ابن الأثير في "الكامل" (ج8، ص247) أنه عندما سقطت بيت المقدس في أيدي ‏الصليبيين أواخر القرن الخامس، سيَّر الأفضل ابن بدر الجمالي ثلاث حملات ‏عسكرية في الفترة من 495-499هـ في محاولة لاستعادة المدينة المقدسة.

وفي سنة 515هـ، وفي الثالث والعشرين من رمضان منها، قُتل أمير الجيوش ‏الوزير الأفضل ابن بدر الجمالي، صاحب الأمر والحكم بمصر.‏

مشهد الرأس بعسقلان

ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص 252) في ترجمة الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش أن أباه بدر الجمالي هو باني مشهد الرأس بعسقلان. وإن كان المقريزي يرجح أن ابنه الأفضل هو من أكمله.

وذكر عثمان مدوخ في كتاب "العدل الشاهد في تحقيق المشاهد" (ص ‏37) أن مشهد الرأس بعسقلان "عمره أمير الجيوش بدر الجمالي بعد سنة ثمانين وأربعمائةـ، وعمّره ابنه الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش بعد أن كشف البناء وأخرج الرأس الكريم ووضعها في أجل دار، وبعد بناء المشهد أعاده إليه، وذلك في سنة نيف وتسعين وأربعمائة".

ويلاحظ أن الروايات التي تتحدث عن مشهد الرأس بعسقلان ووجود رأس الحسين بها، وإهداء الخليفة الفاطمي ورجال الدولة لهذا المشهد لم تظهر إلا في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس، وليس لها أثر في كتب التاريخ قبلها، رغم ما سبق وذكرناه من أن الشام دخلت في حكم الفاطميين منذ سنة 360هـ.

وبدر الجمالي هو مجدد القاهرة الفاطمية، وبانيها الثاني بعد جوهر الصقلي وزير المعز لدين الله، واللافت أنه لم يبن مشهد الرأس بعسقلان فقط، وإنما بنى أيضًا مشهدًا في أعلى نقطة من جبل المقطم بالقاهرة، وقد جاء في النص التأسيسي لهذا المبنى: "مما أمر بعمارة هذا المشهد المبارك فتى مولانا وسيدنا الإمام المستنصر بالله السيد الأجل أمير الجيوش". ويُعرف هذا المشهد بين العامة بمسجد الجيوشي نسبة إليه، ولأنه يشبه الجامع وله مئذنة، وبهذا المشهد قبة للدفن، ولكن لم يذكر المؤرخون أن أحدًا دُفن فيها، ولا حتى بدر الجمالي نفسه! ولا زال هذا المشهد قائمًا إلى يومنا هذا، مع بقاء الهدف من بنائه غامضًا.

والأرجح أن بدر الجمالي قد استشعر الخطر من فقد الفاطميين دمشق منذ تلك الفترة التي ولي فيها أمرها للمستنصر الفاطمي، وأجبره انشقاق الجند وعامة أهلها عليه أن يرحل عنها مرتين، وربما لم يرحل منها خالي الوفاض، بل حمل معه رأس الحسين، ولكن نتيجة للاضطرابات التي كانت تعم مصر وقتها بسبب قتال الأتراك والعبيد، وبداية تجرؤ ابن حمدان على الخليفة المستنصر بالله، وعدم أمان الطرق بها، فإنه قد حمل الرأس الشريف إلى عسقلان أقوى معاقل الفاطميين بالشام، واستودعها مكانًا آمنًا إلى بنى المشهد بعسقلان، حيث يجمع المؤرخون على أن الفاطميين كانت لهم حامية كبيرة بعسقلان، تنفيذًا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إنَّ أفضلَ جهادِكم الرِّباطُ، وإنَّ أفضلَ رباطِكم عَسْقلانُ".

وربما كان أمير الجيوش ينوي بعد ذلك أن ينقل الرأس الشريف من مشهد عسقلان إلى المشهد الذي بناه أعلى المقطم بالقاهرة، ولكن وفاته أو الخطر من جهة السلاجقة الذين كان قد زاد نفوذهم بالشام، حالا دون استكمال مخططه.

كما أن بدء الحروب الصليبية يعتبر سببًا قويًا يمكن إضافته لتعليل عدم استكمال مراحل نقل الرأس من عسقلان إلى القاهرة؛ لافتقاد الطريق من عسقلان للأمان بسبب حصار الفرنج المتكرر للمدينة؛ فلأن عسقلان مدينة حصينة وأحصن مدن الشام، كانت محاولات الفرنج الاستيلاء على المدينة كثيرة، ويذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص 392) أنهم كانوا يحاصرونها كل سنة، ولكن لم يتمكنوا من ملكها لما كان بها من كثرة الذخائر والأسلحة والأموال والرجال القائمين بحفظها، ولكن في سنة 548هـ تمكنوا من المدينة وملكوها بسبب اشتغال وزراء وأمراء الفاطميين عنها بنزاعاتهم في مصر، وإن كان أهل المدينة قد حفظوها أولًا ولم يمكنوا الفرنج منها حتى دب الشقاق بينهم، فاستغل الفرنج تلك الفُرقة وقاتلوهم فهزموهم. وكان ذلك في خلافة الظافر بالله الفاطمي.

ويحكي ابن إياس في "بدائع الزهور" (ج1، ص 227) أنه "في سنة تسع وأربعين وخمسمائة، نُقلت رأس الحسين ابن الإمام علي، رضي الله عنهما، إلى مصر، وبنى لها الظافر المشهد الموجود الآن؛ وكانت رأس الحسين أولًا بكربلاء، مكان قتله فيه، ثم نُقلت من كربلاء إلى دمشق، ثم نُقلت من دمشق إلى عسقلان، فلما استولوا الفرنج على عسقلان، خاف المسلمون على رأس الحسين من الفرنج، فرسم الظافر بنقلها إلى مصر، فنُقلت في تلك السنة. قيل إن رأس السيد الحسين لما نُقلت من عسقلان إلى القاهرة، أحضرت في علبة مغلفة بجلد، فأنزلوها أولًا في مسجد موسى، الذي يُعرف بالركن المخلق، فأقامت به مدة حتى بنى لها المشهد الموجود الآن، ثم نُقلت إليه بعد ذلك"أهـ.

وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص 385) أنه في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة "كسر جيش مصر الفرنج بأرض عسقلان كسرة فظيعة صحبة الملك الصالح أبي الغارات، فارس الدين طلائع بن رُزيك، وامتدحه الشعراء". وكان ذلك في خلافة الفائز بنصر الله الفاطمي، ولكن كان الرأس قد استقر بمصر.

كما أن محاولات الفرنج الاستيلاء على عسقلان وتخريبها بقيت مستمرة، وهو ما يبرر بقاء الرأس الشريف بمصر. ويحكي ابن بطوطة في كتابه الماتع "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" الذي روى فيه عن أسفاره الكثيرة في مطلع القرن السابع الهجري، في زيارته دمشق (ص 42) أن بها مشهدًا عظيمًا كان فيه رأس الحسين رضي الله عنه.‏ وعن عسقلان (ص 25) قال: "سافرت من القدس الشريف برسم زيارة ثغر عسقلان، وهو خراب. قد عاد رسومًا طامسة، وأطلالًا ‏دارسة. وقل بلد جمع من المحاسن ما جمعته عسقلان إتقانًا وحسن وضع، وأصالة مكان، وجمعًا بين ‏مرافق البر والبحر، وبها المشهد الشهير حيث كان رأس الحسين بن علي عليه السلام، قبل أن ينتقل إلى ‏القاهرة، وهو مسجد عظيم سامي العلو"أهـ. وذكر في زيارته لقرافة مصر (ص 16) "ومن المزارات الشريفة المشهد المقدس العظيم الشأن حيث رأس الحسين بن علي عليهما السلام‏"أهـ.

ثم هل يُعقل أن الفاطميين قد ملكوا الشام بلا منازع لقرن من الزمان، إضافة إلى نصف قرن آخر نوزعوا فيه على مدنه، وأنهم قد خرجوا من الشام -من دمشق ومن عسقلان- وتركوا بها رأس الحسين؟!

لقد كان نفي السلفية لوجود الرأس الشريف في مصر وحتى قريب قائم على إدعاء عدم وجود أدلة تثبت نقل الرأس إلى عسقلان ثم إلى القاهرة، ثم تبين لهم أن شهادات العلماء والرحالة تطفح بها الكتب، ومنهم ابن الأروق الذي ذكر في كتابه "تاريخ ‏آمد" أنه شارك ضمن من شارك من الناس في استقبال الرأس عند قدومه مصر عام 549هـ، وقرأت لأحدهم قريبًا تشكيكًا في أن ما رآه وشهد عليه هؤلاء الشهود بانتقال الرأس إلى القاهرة إنما وقع نتيجة إيهام الفاطميين لهم بأن الرأس الشريف قد دخل مصر لكنه –وحسب ظنه- لم ينتقل حقيقة!

 

د. منى زيتون

مُستل من كتابي "تأملات في كتاب الله"

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم