صحيفة المثقف

محمود محمد علي: ريا وسكينة.. مجرمتان أم مناضلتان؟ (1)

محمود محمد عليالشر ينشب أظافره الحادة في كل موجود، لمجرد أنه كائن متناه محدود، والإنسان وحده الذي يستشعر الشر بوصفه حدا من الحدود، تكون طبيعته مجبولة على هذا الشر، وهو ينتهز الفرص المواتية لبثه في محيط من حوله ويحاول قدر الإمكان إحاطة نفسه بسياج من السرية والحيطة والحذر لئلا يعرف أحد عنه أي شيء، إن الشجرة الوحيدة المنعزلة لا تشعر بالشقاء، والمنزل المتهدم المتداعي لا يعرف معنى التعاسة، أما الإنسان فهو – كما قال بسكال- موجود شقي يعرف أنه شقي! ولا ينحصر شقاؤنا في شعورنا بالنقص والحرمان والألم والملل والمرض والشيخوخة، وشتى مظاهر الفناء، بل إن هذا الشقاء ليرتبط ارتباطا وثيقا بشعورنا الأخلاقي نفسه، والواقع أنه مهما كان نقاء إرادتنا، فإنه لا بد من أن تجول بخاطرنا في بعض الأحيان نزعات شريرة نجزع لما فيها من خبث أسود مخيف؛ وذلك حسب ما قاله أستاذنا الدكتور زكريا إبراهيم.

هكذا كان الشر متأصلا في نفوس (عصابة ريا وسكينة) التي تسببت بحالة من الرعب والجدل على مدى العقود الماضية، فهم أبشع تنظيم عصابي على مدى القرن الماضي متخصص في قتل السيدات وإخفائهن.. هؤلاء الطغمة الشريرة التي جاءت من صعيد مصر الجواني، إلى هذا المكان وهم يحملون شحنة كبيرة من الشر بدأوا في نشر آثاره على سكان المدينة من النساء طمعا في الذهب والمال والثروة غير عابئين بأي قيم أو دين أو رحمة أو أي شيء من هذا القبيل. وجراء انتشار هذه الحوادث المتكررة في المدينة انتشر الخوف والرعب والهلع في عائلات وأسر الإسكندرية من العصابة التي تختطف النساء والفتيات. وقد بدأت البلاغات تنهال على مسئولي الشرطة وحكمداريتها في الإسكندرية، حتى سقطت هذه العصابة النسائية التي روعّت النساء والأسر في الإسكندرية في ذلك الوقت.

وفى علم 1921 وصف الكاتب الكبير " عباس محمود العقاد " الشقيقتين " ريا " و " سكينة " بأنهما من أصحاب النفوس الميتة .. ومنذ ذلك الحين دخلت الاثنتان التاريخ باعتبارهما رمزا للشر المجرد ولم يعنِ أحد من المؤرخين بتقصى حقيقة ما نسب إليهما من جرائم أو بالبحث عن الدوافع التى قادتهما لارتكابها . وهذا الكتاب هو محاولة لرواية السيرة الحقيقية لـ " ريا " و " سكينة" ولكل من أحاط بهما من رجال ونساء وظروف سياسية واقتصادية عامة وهو يستند الى وثائق التاريخ وليس إلى مرويات الخيال الشعبى الذى أسقط عليهما كل كراهيتة وازدرائه لمن يخون علاقة العيش والملح التى يقدسها المصريون.

ولدت ريّا في قرية الكلح التابعة لمركز إدفو بمحافظة أسوان في أقصى صعيد مصر في عام 1875 على وجه التقريب، بينما ولدت سكينة في كفر الزيات في عام 1885 تقريبًا. توفي والدهما في سن صغيرة، ثم انتقلت الأسرة إلى بني سويف ثم إلى كفر الزيات حيث كانت تعملان الشقيقتان في جمع القطن، تزوجت “ريا” من حسب الله سعيد مرعي وأنجبت منه طفلة تُدعى “بديعة” وطفل آخر توفي بعد ولادته بفترة وجيزة، ثم انتقلت سكينة مع زوجها الجديد إلى الإسكندرية لتقيم في حي اللبان نحو عام 1913 ؛ حيث دارت أحداث قصتهم، فهناك من اعتبرهما سفاحتين كانتا تستدرجان النساء لقتلهن وسرقة ذهبهن، وهناك من عدّهما بطلتين قتلتا عدداً كبيراً من الجنود الإنكليز، غير أن هذه الرواية حديثة بعض الشيء، ولم ترد أدلّة كثيرة بشأنها. لكن أفضل الأدلّة يمكن أخذها من سكان المنطقة التي عاشتا فيها ريا وسكينة ومن الأقاويل التي نقلها الناس لفترة طويلة.

بدأت القصة عام 1920 في حيّ اللبان وهو أحد أفقر الأحياء في الإسكندرية، وبينما كانت الإسكندرية مشغولة بالانتفاضات الشعبية الكبيرة التي قامت ضد القوات البريطانية المحتلة، ما أتاح لعصابة ريا وسكينة العمل من دون عقاب حيث قامتا بمساعدة زوجيهما ومساعدين آخرين، باختطاف وقتل 17 إمرأة ودفنهن في منزلهما.

تزوّجت ريا من شخص يُدعى حسب الله سعيد مرعي، بينما عملت شقيقتها سكينة في بيت دعارة حتى وقعت في حب أحدهم. عندها بدأ الأربعة بمساعدة إثنين آخرين يدعيان عرابي حسان وعبد الرازق يوسف باستدراج النساء من الأماكن التي تشهد إقبالاً كثيراً مثل سوق" زنقة الستات" الواقع بالقرب من ميدان المنشية، والذي يعدّ مسرحاً شهد عدداً من جرائم هذه العصابة.

كانت الصدفة وحدها هي التي أوقعت الشقيقتين في يد العدالة، فسكينة كانت تستأجر غرفة من الباطن، أي أنها كانت مستأجرة لدى أحد الأشخاص الذي كان هو أيضًا بدوره مستأجرًا من صاحب العقار الأصلي، ويبدو أن العلاقة بين المستأجر والمؤجر لم تكن على ما يرام، فوصلت خلافاتهما إلى أقسام الشرطة والمحاكم، وحين أمرت المحكمة بإخلاء المنزل لصالح مالك العقار الأصلي، اضطرت سكينة أيضًا إلى إخلاء غرفتها، وقد حاولت بكل وسيلة وحيلة إقناع صاحب الدار بأن يؤجر لها الغرفة مرة أخرى، لكنه رفض ذلك بشكل قاطع، بسبب سيرتها المشينة وتصرفاتها التي طالما أزعجت الجيران، حيث كانت سكينة تستأجر عددا من البيوت والغرف لإقامة حفلات السكر والعربدة، مستعينة بعدد من بائعات الهوى والنساء سيئات الصيت، وهو ما ورد في حيثيات الحكم الصادر بحق الشقيقتين من محكمة جنايات الإسكندرية ما يؤكد طبيعة عملهن.

"هذه المحال جميعها أعدت للدعارة سرًا، وكانت البغايا من النساء تترددن إليها تارة من تلقاء أنفسهن، أو بطلب من ريا وسكينة، لتعاطى المسكرات وارتكاب الفحشاء فيها، وكانت إدارة المحال المذكورة مشتركة بين ريا وسكينة وأرباحها تقسم بينهما".

ومع الظروف الاقتصادية الطاحنة التي واجهت المنطقة أثناء الحرب العالمية الأولى وانتشار البطالة والفقر اتجهت الأسرة للأعمال غير المشروعة والدعارة السرية،ثم بدأوا التفكير في سرقة المصوغات الذهبية السيدات ثم دفنهن بشكل خفي ولا يترك أي أثر.

وكان نشاط العصابة قد بدأ عندما كانت الشقيقتان تقومان في البداية بإغراء وخدع الضحية بالكلام المعسول حتى تنالا ثقتها ثم تسقيانها خمر قوية المفعول تؤدي بها إلى السُكر والثمالة فتفقد القدرة على التركيز والقوة على المقاومة، ومن ثم يتخذ كل فرد من أفراد العصابة دورًا في عملية قتل الضحية عن طريق كتم أنفاسها، وكان المتهم محمد عبد العال أول من أضاف إلى التحقيق أول تفاصيل عن كيفية قتل ودفن الضحايا، لينفي بذلك كل ما أشيع عن أن العصابة كانت تخنق النساء، حيث تطابقت أقواله مع تقارير الأطباء الشرعيين الذين جزموا بأن القتل كان يتم بواسطة كتم النفس وليس بأي طريقة أخرى، وعن توزيع الأدوار فيما بينهم أثناء عملية القتل، قال محمد عبد العال أن دوره في معظم العمليات كان شل قدمي الضحية، بينما يتولى آخر شل ذراعيها، ويقوم الثالث بتثبيت رأسها ليتمكن الأخير من كتم أنفاسها بمنديل مبلل بالماء حتى تلفظ أخر أنفاسها، وما أن تفارق الضحية الحياة حتى يجردونها من حليها ومصوغاتها الذهبية وملابسها ثم يقومون بدفنها في نفس المكان الذي قتلت فيه، وكانت الشقيقتان تبيعان الذهب المسروق إلى أحد الصاغة في السوق ثم تقتسمان ثمنه مع بقية أفراد العصابة.

بدأت الشرطة في القيام بالتحريات نظراً لوجود بلاغات عن اختفاء سيدات في الإسكندرية، البداية كانت في منتصف يناير 1920 حين تقدمت السيدة “زينب حسن” البالغة من العمر 40 عاما ببلاغ إلى حكمدار بوليس الإسكندرية عن اختفاء ابنتها “نظلة أبو الليل” البالغة من العمر 25 عاماً منذ عشرة أيام. وقد قالت أنها تتزين بحلى ذهبية في يدها؛ وانتهى بلاغ الأم بأنها تخشى أن تكون ابنتها قد قتلت بفعل فاعل لسرقة الذهب الذي تتحلى به.

لم يتم التوصل لهن بسبب الكثير من الصعوبات والمعوقات، كانت أبرز الأسباب التي طرحها بعض المؤرخين والكتاب إلى: انتشار ظاهرة هروب السيدات من عائلاتهن في ذلك الوقت بسبب الفقر أو العشق وهو ما يبرر أن احتمال اختفاء الشخص لتلك الأسباب واستبعاد فكرة القتل أو الخطف، وأن أن زي السيدات المنتشر وقتها هو الجلباب الأسود وغطاء الوجه وبالتالي لا يستطيع أحد التعرف على هوية أي سيدة أو التمييز بينهن، وعدم وجود أي أوراق هوية وقتها، وهو ما يصعب من مسألة العثور على الأشخاص المختفين، وأن الشقيقتين كن يستدرجن السيدات التي لها صلة مسبقة بهن أو يستطعن كسب ثقتهن، ولذلك كانت الضحية تدخل المنزل بإرادتها بدون إبداء أي ضجيج أو شكوك، وأن الشرطة لم تشك مطلقاً في كون المجرمين من السيدات، ولذلك تركزت التحريات عن المشتبه فيهم من الرجال ولم يفكر أحد أو يشك مطلقاً في كونها عصابة نسائية، كذلك كان أعضاء العصابة من الرجال لم يشاركوا في عمليات الاستدراج والتي كانت بالأحرى من تخصص ريا وسكينة فقط.      كانت هناك مشكلة تمثلت في : هل سيرضى القضاء بإعدام سيدتين لأول مرة نظراً لكونه غريباً عن المجتمع المصري وقتها، إلا أن النيابة استطاعت في مرافعتها إقناع المحكمة، حيث كانت القضايا السابقة الخاصة بجرائم ترتكبها نساء دائماً ما يكون فيها مبرر أو دافعًا لإرتكاب الجريمة مثل الأخذ بالثأر أو الغيرة أو غسل العار أو الانتقام أو حتى السرقة ولذلك كان يتم الرأفة بهن، إلا أن قضية ريا وسكينة تكاد تخلو من أي مبرر للرأفة، فهذه المرة كانت الجريمة أشد قسوة واتسمت بغلظة القلب حيث يرتكبون جرائمهم في نفس مكان مبيتهم ويأكلون ويشربون وينامون فوق مكان دفن الضحايا دون إهتمام، كذلك اعتمدوا على قتل النساء وسرقتهن كمصدر للمال بلا رحمة ولا شفقة، وأيد طلب النيابة أحد المحامين عن المدعين بالحق المدني بشأن إعدام ريا وسكينة، وقال بإن عدم صدور أحكام بالإعدام ضد النساء فيما عدا حكما واحدا صدر في بداية إنشاء المحاكم الأهلية عام 1883 أدى إلى تشجيع النساء على ارتكاب جرائم القتل.

لم تكد شمس يوم الأربعاء الموافق 21 ديسمبر 1921 تشرق حتى بدأ أعضاء هيئة تنفيذ حكم الإعدام يتوافدون على سجن الحضرة بمدينة الإسكندرية، وكان تشكيل الهيئة استثنائيًا، فلم يقتصر على سلطات السجن المحلية، بل ضم محمد حداية باشا محافظ الإسكندرية في ذلك الوقت، ومدير أمن الإسكندرية. وفي الساعة السابعة والنصف صباحًا اصطفت هيئة التنفيذ أمام غرفة الإعدام، وجاء حراس السجن بـ ريّا، وكتب مندوب صحيفة الأهرام فيما بعد إنها كانت ترتدي ملابس الإعدام الحمراء وعلى رأسها طاقية بيضاء، تسير بأقدام ثابتة، إلا أنها كانت ممتقعة اللون، خائرة القوى، وقد استمعت بصمت إلى حكم الإعدام الذي تلاه عليها مأمور السجن، ثم أُدخلت إلى غرفة الإعدام. وطبقًا للبيانات التي وردت في أورنيك السجون رقم 169، الذي يتضمن تقرير الطبيب عن المسجونين المنفذ عليهم حكم الإعدام شنقًا، كان وزنها عند دخول السجن 42 كيلو جرامًا، ارتفع عند تنفيذ الحكم إلى إلى خمسين كيلو جرامًا ونصف. استمر نبضها لمدة دقيقتين بعد الإعدام وظلت مُعلقة لمدة نصف ساعة.

وبعد الساعة الثامنة بقليل، اقتيدت سكينة إلى غرفة تنفيذ الإعدام وكتب مندوب صحيفة الأهرام أنها أكثرت من الحركة والكلام بينما كان مأمور السجن يقرأ عليها نص الحكم، وكانت تتمتم بعبارات تعلق بها على ما تسمعه، وأضاف أنها كانت عند التنفيذ جريئة ورابطة الجأش. وأفاد تقرير الدكتور عبد الله عزت طبيب السجن في الأورنيك رقم 169 أن سكينة علي همام دخلت السجن ووزنها 47 كيلو جرامًا وارتفع إلى 53 كيلو جرامًا قبل تنفيذ حكم الإعدام. استمر نبضها 4 دقائق وظلت مُعلقة لمدة نصف ساعة.

وفي حوالي الساعة التاسعة، جاءوا بـ حسب الله سعيد، وكان رابط الجأش هو الآخر وعلق على منطوق حكم الإعدام بألفاظ بذيئة. وذكر في الأورنيك رقم 169 أنه كان وزنه 70 كيلو جرامًا عندما دخل السجن، ارتفع إلى 72 كيلو جرامًا قبل تنفيذ حكم الإعدام عليه. استمر نبضه لمدة ثلاثة دقائق وظل مُعلقًا لمدة نصف ساعة.

وفي اليوم التالي، الخميس الموافق 22 ديسمبر 1921، نُفذ حكم الإعدام فيمن تبقى من “رجال ريا وسكينة”. وكان أول الذين أعدموا في ذلك اليوم هو عبد الرازق يوسف، الذي قاوم الحراس أثناء اقتيادهم له إلى ساحة التنفيذ ثم إلى غرفة الإعدام، مما اضطرهم إلى سحبه بالقوة على الأرض، ثم تكبيل يديه بالحديد خلف ظهره، وظل أثناء تلاوة الحكم يتأوه ويصرخ مُدعيًا أنه بريء. وقال التقرير الطبي أنه كان يزن 78 كيلو جرامًا عند دخوله السجن، وارتفع وزنه إلى 81 كيلو جرامًا قبل تنفيذ حكم الإعدام عليه، وكان باهت اللون وخائر القوى عند التنفيذ. استمر نبضه لمدة ثلاثة دقائق وظل مُعلقًا لمدة نصف ساعة.

وفي الساعة الثامنة صباحًا، جاءوا بـ محمد عبد العال وكان، طبقًا لما ذكره مندوب صحيفة الأهرام، جريئًا جدًا، رابط الجأش وبحالته الطبيعية. وقال التقرير الطبي أنه كان يزن 67 كيلو جرامًا عند دخوله السجن، وارتفع وزنه إلى 74 كيلو جرامًا قبل تنفيذ حكم الإعدام. استمر نبضه لمدة خمس دقائق وظل مُعلقًا لمدة نصف ساعة، وفي الساعة التاسعة جاءوا بالأخير، عرابي حسان، الذي ظل يصرخ هو الآخر ويقول بأنه مظلوم، وكان خائر القوى وباهت اللون وقت تنفيذ حكم الإعدام. استمر نبضه لمدة دقيقتين وظل مُعلقًا لمدة نصف ساعة.. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...............................

الهوامش

1-صلاح عيسي: حكايات من دفتر الوطن ، رجال ريا وسكينة سيرة اجتماعية وسياسية ، القاعرة ، 2019.

2- زكريا إبراهيم : مشكلة الإنسان ، مكتبة مصر بالفجالة، القاهرة، د . ت ص 94.

3-عمر طاهر : برما يقابل ريا وسكينة ، القاهرة ، 2012.

4-محمد عبد الوهاب : سرداب المومسات ، القاهرة ، 2019.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم