صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: منهج الدرس الفلسفي في الإسلام.. رؤية نقدية (6)

مجدي ابراهيمــ المنهج وتحديد المصطلحات:

إننا لا نجد هذا المنهج (الذي سبق الحديث عنه فيما سلف مدّعماً بأشراط) لا نجده  محققاً بصورة تدعو إلى التقدم المرجوُّ والمنشود فى دوائر الفلسفة الإسلامية بفروعها المختلفة بين فلاسفة ومتكلمين وصوفية؛ فإذا تجاوزنا جيل الأساتذة الكبار فلا نكاد نجد تطبيقاً لهذا المنهج بحال؛ فلا الرؤية واضحة، ولا التصور موجود، ولا القدرة منذ البداية على هضم التراث الإسلامي والوعي بعلاقاته المتشابكة وفروعه الفكرية المنوعة متاحة متوافرة لدى أجيال حاضرة تتدعي الانتماء للتفكير الإسلامي فضلاً عن البحث فيه .. ومن ها هنا ففاقدُ الشيء لا يعطيه.

ويتصل بالمنهج عموماً تحديد المصطلحات والألفاظ المستخدمة؛ ففي فروع الفلسفة الإسلامية ودوائرها قد تقابلنا بعض الألفاظ التي يشترك في تداولها الفلاسفة مع الصوفية مثلاً كلفظة "العلم" و"اليقين" و "الاتصال" و"العقل" و"الحدس" و"التنوير"، وما شاكل ذلك من ألفاظ ومصطلحات تتداول بين الفلاسفة والصوفية غير أنها تختلف في دلالتها على حسب اختلاف المنهج واختلاف المضمون الذي تحمله هذه الألفاظ والعبارات اختلافاً يجعلنا نعوّل في المقام الأول في دلالة كل لفظ وكل مصطلح على المنهج وعلى المضمون، مثلماً تختلف الأفكار الكبرى في الفكر الفلسفي على وجه العموم. لقد كان أفلاطون يقول بالتوحيد؛ وكذلك الصوفية يقولون فهل التوحيد عند الصوفية هو عينه التوحيد عند أفلاطون؟ بالطبع لا .. وإذن؛ فالمنهج الذي يحلل ويفتت الموضوع هو عينه يحدد لنا المصطلح الفلسفي ويبين دلالة كل لفظة فيما يكمن تحتها مما يحمّلها من معاني تختلف تماماً بين حقل وحقل، ودلالات الألفاظ في هذا الحقل المعرفي غير دلالات الألفاظ في حقل معرفي آخر. فاللفظ أو المصطلح الذي يقول به فيلسوف من الفلاسفة يختلف معناه ودلالته عن الفظ أو المصطلح الذي يأتي عند متصوف من المتصوفة.

اليقين البرهاني مثلاً عند الفلاسفة غير اليقين القلبي الإيماني عند المتصوفة. والتنوير عند ابن عطاء الله السكندري غير التنوير في الفلسفة العقلية وعند ابن رشد، والعلم عند الغزالي غير العلم عند ابن رشد، وقل مثل هذا في الحدس العقلي كما هو عند ديكارت، والحدس القلبي كما هو عند الغزالي.

وليس التشابه بين الألفاظ يدل من قريب على التشابه بين الأفكار ولا هو بالدليل المباشر على المنزع الواحد أو التأثير المشترك.

الأصل في تلك الفوارق مضمون قائم على منهج في البحث، أو منهج بحث معمول في مضمونه بلا انفصال، وهو الذي يعرفنا جذور كل فكرة ولفظة وعبارة لها مضامينها وأصولها.

من ذلك ترى؛ أنه يجب دراسة قضية التأثير والتأثر بين الثقافات لاتصالها المباشر بالمنهج أولاً. ولأنها ثانياً هى القضية التي لا يخلو بحث علمي جديُّ من الاهتمام بها وإبرازها على النحو الذي يبيّن لنا التشابه بين الأفكار وفقاً لما نراه صالحاً لنظرية المضمون.

ــ غيبة الإيمان بالمثل الأعلى:

وثمة نقطة أخرى يفتقر إليها البحث الفلسفي في حياتنا المعاصرة؛ فضلاً عن افتقارها في عموم الثقافة الإنسانية من حيث العطاء والفاعلية، ليأتي هذا الافتقار تجسيداً لحديث خارجي عن الأخلاق لا تفعيل له في بواطن الإنسان، مع أن "الخُلق" هو أساس القيم الفاعلية في حياة الإنسان بإطلاق؛ فإذا خلى البحث العلمي منه خلى من مفعول القيم : وهو "قلة الإيمان بالمثل الأعلى" في عالم الفكر وعالم التطبيق، إنْ لم يكن هو ضعف هذا الإيمان سواء لدى الباحثين أو لدى الشباب المتعلم. أو إنْ شئت قلت : عدم هذا الإيمان بالمثل الأعلى إيماناً يؤتي أكله كل حين؛ فلسنا نستطيع الفصل بين مناهج درسنا الفلسفي في الإسلام مثلاً بما تتضمنه من فلسفة وقيم وأخلاق وشرائع وعقائد وآداب، وبين المثل العليا التي يجب أن يتمسك بها الدراسون والباحثون سواء كانوا معلمين أو طلاباً للعلم. وبدون تفعيل القيم الخلقية يصبح العلم نفسه ضاراً بالإنسان.  

وإني لأرى أن البحث العلمي قوامه أخلاق؛ يوم أن نغرسها في نفوسنا وضمائرنا أولاً، نغرسها تباعاً في ضمائر الشبيبة ونفوسهم من طريق القدوة ويقين الإيمان بالمثل الأعلى.

ومن أخلاق البحث العلمي أن ندرك أن البحث لذة، وأن نفهم أن لذة البحث أصفى من كل صفاء وأرقى من كل لذة إذا أخلص لها الباحث وعرف كيف ينقب عن المخبؤ من نفائس العرفان. هنالك يعرف على الحقيقة أن في البحث لذة. ولذة البحث كشف الجديد على التحقيق سواء كان هذا الجديد في مجال العلوم الطبيعة أو في مجال العلوم النظرية والإنسانية .. هنالك نشوة في الكشف العلمي هى أعلى من كل لذة يجنيها الباحث الجاد في حياته الفكرية والعقلية والثقافية؛ لأنها اللذة التي تتوج عمله كله بأخصب القيم الروحية وأخلد منازع الحق والخير والجمال مجتمعة.

ومع وجود القيم الفاعلة لا يُرى في البحث مشقة؛ لأن لذته في تعبه، ومشقته روح تترقى إلى مجهول. ولذة التعب والمشقة هى أفضل اللذات جميعاً وأحلاها في حالات الصفاء وفي أوقات العناء. لا يُرى في البحث ما يتعب مادامت وراؤه قوة روحية مصدرها "الخلق". وفي البحث لذة، وبخاصة إذا ارتبطت هذه اللذة بما تحب وتشهد، وبما تعاني وتعرف، وبما تسطر من ذاتك وبدمائك على الأوراق من لطائف المعاني وخفايا الإشارات.

لا تجد لمثل هذه اللذة ما يناظرها، ولا تعرف لهذا اللون من العناء ما يماثله، ولا تشهد متعة البحث ولا نشوة الدرس ولا تذق حلاوة الصبر عليه إلا إذا مُتَّ في حقيقة خالدة سرمدية بذلت من أجلها كل غالٍ ورخيص. وفي البحث لذة .. ولذة البحث لا تضاهيها كنوز الدنيا ولو اجتمعت ولا تقارنها الأموال ولا الحطام البالية ولا اهتمامات الناس الباطلة؛ لأنها اللذة الباقية من بُقية خالدة. فإذا أردت أن تعرف قيمة هذه اللذة وأثرها على العقول والأرواح؛ فانظر إلى العلم وأهله والى الكتب ومؤلفيها، ترى كم أبتلى العلماء في محاربة الجهل وفي مقاومة البلاء الذي يسببه كل تخلف وحمق، وترى كم انقادوا وراء هاته النشوة العلوية، نشوة الروح الخالدة الباقية، انقياداً واعياً بقيمها العليا ومراقيها العارفة؛ لأنهم وعوا أسبابها من قبل كما وعوا نتائجها، وكأنهم أدركوا أنها هبة من طلاقة الروح وأصل من معدن الخلود. حقيقة في البحث لذة .. ولذة البحث أصفى من كل صفاء؛ لأنها اللذة التي تربي النفس والعقل والقلب والضمير على أصل ثابت من أصول البقاء.

قِوام البحث العلمي "أخلاق" تمثلها الأمانة العلميّة. والأمانة العلمية بمفهومها الاصطلاحي الدقيق تطبيق المنهجية العلمية على النصوص والمشكلات الفلسفية، ثم تشكيل الرؤية الخاصة بالباحث إزاء هذه المشكلة أو تلك. وفقدانها يعني السطو على أعمال الآخرين وسرقة أفكارهم وآرائهم ونسبتها إلى نفس السارق أو عين الناقل، وكأنه هو الذي قالها، بغير وعي ولا استبصار ولا منهج ولا رؤية، وإنما مجرد هجوم كاسح مدمر للقيم وللأخلاق. وما أكثر السرقات العلمية في حياتنا الثقافة وبحوثنا الجامعية والأكاديمية. ثم إن الأمانة العلمية تعني بمفهومها الواسع ذلك "الخلق"، يجسده الباحث في القول أو الفعل : خُلق يترقى من المحدود والمحسوس إلى الأفق الأعلى : أفق الأرواح والعقول.

كان الفيلسوف الأمريكي "جوسيا رويس Josiah Royse " (1855- 1916م) لا يتجاوز في مذهبه البحث في ما وراء الطبيعة، ويكاد يستوى وحده في أمريكا الشمالية على مدرسة الفلسفة التي تبحث فيما وراء الطبيعة؛ وهو مؤلف كتاب "الجانب الديني للفلسفة" في عام 1885م، بل كاد في هذه المباحث أن ينحي مذهب "وليم جيمس" (1842- 1910) توفى قبله ببضع سنوات؛ لأن "وليم جيمس" قد اكتفى بفلسفة النتائج أو الذرائع (أو البرجماتية) ولم يوغل في مباحث ما وراء الطبيعة.

فالفضيلة العليا في مذهب "رويس" هى توسيع الحياة الإنسانية حتى تخرج من أفقها المحدود إلى أفق "اللانهائية" الإلهية.

وعلاقة الالتقاء بين الأفق الإنساني المحدود والأفق الإلهي السرمدي هو "الخلق" الذي يجاوز المنافع الفانية. فما الإنسان في حياته الخاصّة إلا شذرة من الحياة الأبدية المطلقة؛ تظل مُغلقة إذا غلقت عن مصدرها، وتثوب إلى ذلك المصدر كلما تنبّهت إلى مبادئها وغايتها. وليست الحياة الإنسانية الخاصة مفهومة على حدة ما لم تنزل في منزلتها من الحياة الأبدية المطلقة؛ فهى كالنغمة الموسيقية التي لا معنى لها مع انفرادها، والتي تترجم عن الأبد كله عند تنسيقها مع سائر النغمات" (يراجع : عباس العقاد : عقائد المفكرين في القرن العشرين : ص 128).

والذي نود التأكيد عليه في هذه النقطة هو بالفعل : أن علامة الالتقاء بين الأفق الإنساني المحدود والأفق الإلهي السرمدي هو "الخلق"، فلولا الخلق ما كانت العظمة الإنسانية، وما صح لها من طريق الأخلاق وجود. ولنا أن نشير في القادم إلى حقيقة المثل الأعلى في الإسلام؛ لنتوقف عند النبراس المضيء فيها وقفات هامة ذات صلة جوهرية محققة بموضوعنا لا تخلو من تقدير وتفعيل.

 

(وللحديث بقيّة)

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم