الرئيسية

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (246): الاصطفاء بين المثيولوجيا والثيوقراطية والأخلاق

majed algharbawi1خاص بالمثقف: الحلقة السادسة والأربعون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:

 المثيولوجيا والأخلاق

ماجد الغرباوي: يستدعي الاصطفاء في بعده المثيولوجي، مقاربته أخلاقيا لتفادي تداعيات رهاناته، وهو يؤسس لرؤية مغايرة لمجموعة مفاهيم تكرّس الاستبداد، ويكون فيها شرطا لشرعيتها، كـالولاية والسلطة والحكم، بلا دليل يؤكد صدقيته سوى قدسيته وصدى دلالته، وهي فخاخ أيديولوجية ترهن عقيدة المتلقي لأوهام الحقيقة وبراعة المثيولوجيا، في استبعاد العقل وسؤال الأخلاق، والانتقال بالوعي من فضاء العقلانية والتفكير الواقعي، إلى عوالم مثيولوجية تُعيد تشكيل المقدّس وفق رؤى أسطورية وحكايات خرافية، فيصّدق مخلوقاته بفعل رثاثة الوعي وتحديات الخطاب الطائفي. متناسياً دور اليقين السلبي في تشييدها، وتقويم مساقاتها العقدية والماورائية. والكارثة عندما ترتهن تلك الأوهام إرادته وتجعل منه أنسانا مسكونا بالغيب وماورائيات لا صدقية لها خارج أفق الخيال واستعداده الذاتي لتصديقها. فالتصدي لتحري صدقيته وأدلة شرعيته وشروط قدسيته، عمل أخلاقي، ينتشل الوعي الديني من ضلالته، ويعيد فهم الواقع وفق معطيات علمية وموضوعية، تمهّد لبناء مستقبل يحقق كرامته وعزته بعيدا عن رهانات الخطاب الطائفي، ولغة الكراهية والتنابذ والعنف، ويكف عن التضحية بنفسه والمغامرة بولائه وفق قيم تبدو دينية وأخلاقية وهي ليست كذلك. لسنا بصدد فرض نموذج عقدي على أحد، والإيمان الشخصي حق مشروع. وكلامنا عن تداعياته الاجتماعية والسياسية وحقوق الإنسان والموقف من الآخر، والأكثر أهمية الاصطفاء كسلطة متعالية تلغي مشروعية كل سلطة سياسية خارج محدداته العقدية والأيديولوجية ودولته الثيوقراطية.

مضى الكلام، أن الاصطفاء منصب إلهي لا يثبت إلا بآية قرآنية صريحة كما في اصطفاء الأنبياء، واصطفاء مريم: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، وقد بينت في حينها مبررات قرآنية الدليل شرطاً لرفع اليد عن الأصل العقلي النافي لثبوته. فهو بهذا المعنى اصطفاء خاص، وفق معايير وقيم سماوية، وظيفته روحية وأخلاقية وإيمانية ترتبط برسالات السماء، وقد بيّنت الآيات وظيفته، فهو شرط النبوة والرسالة من الناس والملائكة: (ٱللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ ٱلْمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌۢ بَصِيرٌ). ويمكن الاستشهاد بتنصيب هارون بعد طلب موسى من الله توزيره، فقد تمت الاستجابة بعد اصطفائه نبيا ومن ثم رسولا!!. فهو بهذا المعنى والدلالة مفهوم نخبوي، تحكمه ضوابط أخلاقية، ومؤهلات ذاتية، يتوقف تشخيصهما على إحاطة كاملة يختص بها الله دون خلقه، بعيداً عن النسب والحسب والفوارق الاجتماعية. فهناك ضوابط قرآنية تعجيزية للاصطفاء ومشروعيته، تجعل منه حكرا على الإرادة الإلهية، وتحول دون توظيفه سياسيا: (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)، (وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ)، (عالِمُ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ الكَبيرُ المُتَعالِ)، (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)، (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فمصاديق الاصطفاء الإلهي القرآني محدودة، وأهدافها واضحة، تقتصر فيها سلطة المصطفى على حدود مهمته، وما تقتضيه من صلاحيات لا تصل حد التفويض والولاية: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)، (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ). وعليه سنستثني من البحث:

- الاصطفاء الإلهي: ما برحت سلطته محدودة ومقيّدة بالنبوة والتزكية الإلهية، ولم يعد لها أثر إلا على المبنى العقدي للنظرية الشيعية التي تربط بين اصطفاء النبي واصطفاء أهل بيته. وهذا يتعارض مع الاصطفاء الإلهي الذي يشترط ثبوته وجود نص قرآني صريح بخصوصه، وهو منتف بالضرورة. الاصطفاء بالمعنى القرآني خارج موضوع البحث. لتقتصر مهمته على تحري شرعية (دعوى الاصطفاء مع فقدان الدليل القرآني)، الذي هو شرط لثبوته، باعتباره منصبا إلهيا، يتوقف ثبوته على فعلية شرطه، أو يبقى الأصل عدم الاصطفاء، وهو أصل عقلي لا يخصص. الاصطفاء سلطة مطلقة على الصعيد السياسي، وعلينا التصدي لصدقيته، والوقوف على حدوده، وأدلة ثبوته، وتحديد مصاديقه، أو يتحمل المجتمع أعباء ثقافة أفرزتها قرون الصراع السياسي والتنافس الشديد على السلطة.

- الاصطفاء الوضعي: في مقابل الاصطفاء الإلهي. أي الاصطفاء بالمعنى العرفي المتداول الذي يرتهن صدقيته لمبدئه الأخلاقي أو يمارس دوره السلطوي بعيدا عنها، كما في المجتمعات القَبلية، ومطلق الحكومات الاستبدادية. وهو اصطفاء يستمد شرعيته من قيم المجتمع أو خصوص المجتمع القبلي في سياق عاداته وتقاليده ومبادئه في السلطة والحكم.

الاصطفاء والآخر

تجدر الإشارة، أن الآخر شرط تحقق الاصطفاء الاصطلاحي خارجا، ولا معنى للمفهوم خارج بيئته ووسطه الاجتماعي والثقافي، فيصدق أن الآخر شرط تحققه. بمعنى وجود حاضنة اجتماعية ضمن سياقات ثقافية تتولى فرزه ضمن قيمها ومبادئها وأعرافها، فيتوقف وعي المفهوم، على وعي الأنساق الثقافية المضمرة التي ترتهن التفاضل لمعاييرها وقيمها. فهو بهذا المعنى اختيار واعٍ مقصود، ينطوي على تعهد شخصي بالانقياد والطاعة، شريطة حريته وعدم خضوعه لإملاءات القوى المتصارعة. وأحيانا يُفرز المصطفى بفعل ثقافته وممارساته السلوكيه، وموقعه ورجاحة عقله. أو لضرورات تفرضها منظومة قيم اجتماعية ودينية، وهذا يختلف عن التسلط بالقوة والعنف.

المصطفى بالمعنى الاصطلاحي صفوة القوم وخلاصتهم، فيكون الآخر بمنزلة الذاتي للنوع المنطقي. سواء كان فردا، أو كان جزءا من جماعة تنتمي لمجتمع له قيم وتقاليد وأعراف يتجلى من خلالها تفوقه، بغض النظر عن مبدئه الأخلاقي. فربما تكون القوة والتسلط والاستبداد مبدأ الاصطفاء في مجتمع يدمن العنف. فالاصطفاء بهذا المعنى يكون دالاً على مضمرات الثقافة السائدة. يحدد مقوماتها، وفرص تقويمها. وأكثر من ذلك الكشف عن مبدأ الاصطفاء، فبعضه مجرد تشريف في نشأته، وربما تفضيل فرضته قيم المجتمع أو ضرورات التنافس الاجتماعي، وهذا النوع من الاصطفاء قد يكتسب بمرور الأيام قدسية، ويفرض نفسه قيمة دينية واجتماعية، وهو تعبير آخر عن ممارسة تزوير الوعي، عندما يتستر المفهوم على مبدئه الأخلاقي ويراهن على هالته السحرية، وقوة إيقاعه في النفس البشرية. وهنا بالضبط تكمن مهمة الناقد، الكشف عن تاريخية المفهوم، وصدقية مبدئه الأخلاقي، لتفادي سلطته الاجتماعية والدينية والسياسية وهو يحتكر السلطة والقرار. وهي مهمة صعبة، ترفضها القراءات الرسمية للدين ولو على حساب الحقيقة. أو يكون الاصطفاء وفق مبدأ أخلاقي يرتبط بمهمته ومقصد اصطفائه، كما بالنسبة للأنبياء. فالاصطفاء بهذا المعنى عنوان لمنظومة مفاهيم وقيم والتزامات متوارية وراء مفهومه، ينبغي تحري صدقيته، لتفادي التباس الحق بالباطل وتزوير الوعي واستغلال طيبة الناس وبساطة إيمانها وانقيادها السريع للمقدس. فالاصطفاء مرآة تعكس ثقافة المجتمع وطريقة تفكيره وطبيعة قيمه ومدى التزامه. ثمة ملاحظة، أن المصطفى بمرور الأيام قد لا يعود مجرد شخص يتصف بمواصفات معينة بل يغدو رمزا مقدسا ومعطى يغري بتأويله وديمومته وخلوده. يتجدد مع كل قراءة تأويلية، ومحاولة لتفيكك شفرته، وما يرمز له من دلالات في أفق ثقافة المجتمع، فتتفاقم سلطته وصلاحياته. تؤكده نشأة المقدس، التي هي لحظة تاريخية، كان يمكن أن تبقى كذلك لولا تراكمات القداسة التي تفرضها تحديات صراع السلطة، فكم من اصطفاء بدأ بشريا وانتهى مقدسا إلهيا، يمارس سلطته ويفرض محدداته، عبر نموذج ثيوقراطي، يناظر نموذج الدولة الثيوقراطية، التي تارة تجعل من الملوك آلهة، أو حلوهم فيهم، أو اصطفائهم من قبلهم. والأخير أكثر ملائمة.

بهذا يتضح أن موضوع البحث، بعد استبعاد الاصطفاء الإلهي هو خصوص دعوى (الاصطفاء الديني مع فقدان الدليل القرآني). أو يمكن تسميته بالاصطفاء التراثي، لتقوّمه بالتراث أساسا، وتوقف شرعيته على روايات وأخبار تجد صداها في أفق العقل التراثي. فهو اصطفاء في دلالاته غير أنه تلبس بالدين والشرعية الدينية لأغراض سياسية. ما هي مبرراته؟ وما علاقته بالصراع السياسي الذي ساد القرون الأربعة الأولى بمظهريه المسلح والسلمي؟. ولماذا توظيفه سياسيا؟ هل لقوة حضوره وقدسيته؟ أما هناك أهداف يستوجب الكشف عنها ضمن منهج تاريخي وآخر هرمينيوطيقي؟ وأسئلة غيرها.

توظيف المفهوم

لا ريب أن التميّز طموح بشري لتأكيد الذات، لا يكف عن طلبه حتى في أبسط مظاهره، كالملبس والمسكن وطريقة الكلام والجلوس ولغة الجسد والإشارة. ويُعد أعلى درجات التميّز، سواء في استعلائيته العنصرية والطائفية أو في فضيلته الأخلاقية. وهذا لا ينفي توازن الاصطفاء خارج فضائه الديني، فليس كل اصفطاء رذيلة، بل يتنافى مفهومه مع مفهومها. فالأصل فضيلة الاصطفاء ما لم يثبت عكسها. كما لا ريب أنه ورقة رابحة على صعيد السياسة والحكم، سيما شروط شرعيته/ بمعنى المُلك والغنيمة، لا بالمعنى الأخلاقي للسلطة. غير أننا معنيين به في أفق السياسة والحكم، فكيف تم توظيفه لاحتكار السلطة وفرضه شرطا في الخلافة دائما؟. وقد مرت الإجابة، لنخلص أن الاصطفاء بدواعٍ دينية كان رهانا قريشيا لتمرير شرط القريشية، وقد نجحت حينما رهنت النظرية السياسية للمسلمين به. ودفعت المعارضة لمراكمة شواهد تفضيلية تنافسية، وهو عنصر المفاجأة الذي أربك الخلفاء الأمويين والعباسيين عندما نظّرت له المعارضة الشيعية بطريقة مغايرة، لكنه متوقع في العمل السياسي البراغماتي الذي يبيح كل شيء، والغاية لديه تبرر الواسطة، لكن لا على حساب الحقيقة، عندما يُجرد الاصطفاء من بعده البشري ليغدو معطى سماويا، يرتهن إرادة الناس، ويسوقهم لتحقيق أهداف سياسية بدعوى أنها أهداف سماوية!!. فما لم نكشف عن الدوافع السياسية تضحى جميع الـأحداث قدرا مقدرا من السماء. وثمة حق يجب استعادته مهما كلّف الثمن. وهناك باطل يجب مكافحته مهما امتد الزمن. وهذا أوضح مصاديق توظيف الدين لأهداف سياسية يصدّقه العقل الجمعي المجروح في وعيه ناهيك ما يترتب عليه من تداعيات خطيرة أقلها تسميم العلاقات الاجتماعية بين أبناء الملة الواحدة. إذاً، الدافع السياسي وصراع السلطة ليس مجرد فرضية بل حقيقة تاريخية مجمع عليها بين المصادر التاريخية، وما تفسير الأحداث وفق ثنائية (حق / باطل) سوى تكتيك لتزوير الوعي وكسب الموقف الشعبي، وقد مضى الحديث عن تداعياته ومدى خطورتها دينيا وسياسيا، فالنقد محاولة جادة بهذا الاتجاه.

المعارضة والاصطفاء

كان أول موقف سياسي عبرت فيه المعارضة عن موقفها تجاه السلطة، تمثّل بقول علي بن أبي طالب محتجا على احتكار قريش للسلطة دون آل النبي، عندما قال ما مفاده: (لا تخرجوا مُلك محمد عن عقر داره... نحن أهل بيته وأقرب الناس إليه)، مذكرا بذات القيم القَبلية التي ارتكزت لها قريش مبدأ لحسم السلطة وفق سياقاتها آنذاك. دون التصريح بأي اصطفاء ديني أو وجود توصية ووصية نبوية على خلافته بالخصوص. يؤكده انخراطه بالحكم مستشارا لجميع الخلفاء الثلاث، بعد بيعته للخليفة الأول. غير أن تمرّد معاوية على الخلافة الشرعية، وتنصيب نفسه خليفة للمسلمين بعد حرب طاحنة انتهت بالتحكم لصالحه، عاد الاصطفاء القَبلي المشرعن دينيا بقوة، من خلال ماكنة إعلامية راحت تضخ روايات وأخبارا تثني على معاوية ومناقبه وسياسته وحكمته، لخلق أجواء ثقافية تشرعن سلطته في مقابل سلطة الخليفة المنتخب من قبل الأمة. فكانت تواجه معاوية مجموعة تحديات أهمها قوة رمزية الإمام علي وثقله الشرعي، وقوة حضوره في الذاكرة الإسلامية. فهو ابن عم النبي وزوج بنته وأحق الناس بالسلطة وفقا للمبدأ القَبلي الذي يؤمن به معاوية حسب الفرض. وعلي صفوة الصحابة المقربين للرسول الكريم، والخروج على سلطته خروج على الشرعية الدينية وفق لقيم المجتمع آنذاك. وكان الخليفة الوحيد المنتخب مباشرة من قبل الصحابة. لا شبهات حول شرعية خلافته. لكن رغم كل ذلك نجحت استراتيجة معاوية على الصعيد السياسي والإعلامي في ظل سذاجة الوعي، سيما البقعة الجغرافية التي احتضنت خلافته وساندته واستماتت في الدفاع عنه. فاختلط الحق بالباطل بعد تزوير الحقائق. لا أقصد بالحق مفهومه الديني، بل ضياع الحقيقة والتباس الوعي، بفعل سياسة المكر والخداع التي شوّهت شخصية الخليفة الشرعي، ورمته بالعدوان والضلال والخروج على طاعة خليفة المسلمين، حتى صدقه الناس، وبات سب الإمام علي فضيلة على منابر المسلمين، كما أكدت بعض المصادر التاريخية.

لقد واجهت الدولتان الأموية والعباسية، معارضة مسلحة، رفعت شعارات ثأرية وإصلاحية ومطالبة صريحة بالسلطة ودعوات مستمرة للانفصال عن الخلافة. حقق بعضها انتصارات محدودة. وهناك معارضة سلمية، اكتفت بعزلتها السياسية، وانشغالها بالعلم والمعرفة، غير أن رمزيتها شكلت خطرا على السلطة رغم سلميتها، ومن ثم انخراطت المعارضة برموزها ومواليها في الجدل الكلامي الذي تصاعد بعد خلافة معاوية، وقد مرَّ الحديث مفصلا. فنكتفي بمقاربة توظيف الاصطفاء من قبلها. حيث استدعت المعارضة من باب التحقيق التاريخي والكلامي شرعية سلطة الخلافة الراشدة، وراحت تملي شروطا من وحي ذات الاصطفاء الذي لجأت له قريش لاحتكار السلطة وفرض القريشية شرطا في شرعية الخلافة. فهي لم تتنكر للاصفطاء القَبلي بل أكدته وأعادت تشكيله بشكل يخدم مصالحها، ويسلب الخلافة شرعيتها. فأعلنت مشفوعة بأدلة كلامية وروايات تاريخية ودينية أن مطلق الاصطفاء لا يكفي لشرعنة السلطة بل الاصطفاء المشروط بالنص والتعيين هو الذي يكسب السلطة شرعيتها، فتكون الإمامة حكرا على العائلة المقدسة وامتدادها باقي الأئمة حتى المهدي الموعود. بهذا الشكل من التنظير الكلامي راحت المعارضة تتهم الخلافة بالغصب وتؤكد عدم شرعيتها. ولم يكن الاصطفاء المقولة الكلامية الوحيدة في هذا السياق، بل ظهرت مجموعة مفاهيم، قاربتها في كتاب: مضمرات العقل الفقهي، وبينت مفصّلا كيف ظهرت هذه المفاهيم وماهي علاقتها بالسلطة.

والسؤال الآن عن قيمة هذا الاصطفاء بموجب شروطه الدينية؟ أما وفقا للشروط القرآنية فلا يصدق أنه اصطفاء إلهي. ليبقى مجرد دعوى تعكس الدواعي السياسية لشرعنة الاصطفاء القبلي، كقيمة تفضيلية، قد تستدعي تطوير المفهوم وتغذيته بشحنات مثيولوجية، وهذا ما حصل حتى بلغ الاصطفاء مداه عندما ادعىت المعارضة أن الهدف من خلق السماوات والأرض إكراما لخمسة، كما في جملة أحاديث مفادها: "ما خلقت السموات والأرض إلا لأجلهم، أي الأسرة المقدسة"، فولايتها على السلطة سيكون وفقا لهذه الروايات وغيرها من باب أولى. ثم جاء الخمس ليعمّق فكرة الاصطفاء وشرعنة التفاوت الطبقي على أساس عنصري لا ديني، حتى بات أمرا مسلما وجزءا جوهريا من العقيدة الشيعية، يؤمنون به ويدافعون عنه، ويستجيبون لها عن رضى وقناعة كاملة.

في الختام: لا خيار أمام التيارات الدينية إذا أرادت حقا بناء دولة حديثة في إطار مجتمع مدني، سوى التخلي عن مجمل المفاهيم المقولات الكلامية التي أفرزتها حقبة الصراع السياسي في القرون الأربعة الأولى من تاريخ المسلمين، وما لحق بها من تنظيرات فقهية وكلامية وسياسية. خاصة مبدأ شرعية السلطة الذي يقصي الشعب، ويرتهنها بشخص الخليفة أو الإمام، ولازمه تهميش الفرد واقتصار مهمته على الطاعة والانقياد وهو أشد أنواع الاستبداد، وأكثر الدول الثيوقراطية تطرفا حينما توحي بإلاهية سلطتها. التخلي عن مقولات الاستبدادين الديني والسياسي، لا يعني إقصاء الدين والأخلاق بل يعني فهم الواقع ومتطلباته وفق رؤية عقلانية تراعي القيم الإنسانية، وتأخذ بمعطيات الحضارة الحديثة.

الدولة الحديثة تطورت عبر خبرات بشرية هائلة، وتجارب سياسية متنوعة، بعيدا عن القداسة والاصطفاء. دولة تعتبر الشعب مصدر شرعيتها. تخضع لمحاسبته، وتلبي  طموحاته، لا تقف على حدود نموذج واحد. تواكب أداءها وفق آخر معطيات العلوم والفلسفات الحديثة. قوامها الحرية وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر، والتبادل السلمي للسلطة، عبر نظام ديمقراطي انتخابي، ينفي الاستبداد والانقياد والطاعة خارج القانون ومتطلبات النظام. يرفض تهمش المرأة والمختلف دينيا. وتسوده المساواة في الحقوق والواجبات، وأمام القانون. فهي دولة تختلف جوهرا عن الدولة الدينية التي هي دولة ثيوقراطية ترتهن شرعيتها للاصطفاء، فتتفح بذلك أبوابا واسعة لتزوير الوعي والتحايل على القيم والمبادئ من أجل احتكار السلطة. فلا مجال لترقيع الدولة الدينية أو ترقيتها لوجود فارق نوعي بدءا من مبادئ السلطة والحكم، ومبدأ شرعيتها. فتجد الدولة الحديثة تتقدم وتتطور، بينما تراوح الدولة الدينية المتخيلة في ربوع الأماني والأحلام، لا تكف عن حنين الماضي وخصوص دولة الراشدين، باعتبارها نموذجا سياسيا فريدا، يمكن استدعاؤه. أو تحيل على دولة مثالية منتظرة في آخر الزمان تخلق المعجزات، لكنها دولة اقصائية، تحتكر سلطتها الفرقة الناجية. وهذا النوع من الدول لا مكان له في عالم ينشد الحرية، ويقفز قفزات هائلة في عالم التقنية وتطور العلوم، ويسابق الزمن لطرد الاستبداد والدكتاتورية، والامتثال لحقوق الإنسان، فهي دولة تقوم على مركزية الإنسان، لا مركزية الاصطفاء. التخلي عن النظام السياسي القروسطي لا يعني اقصاء الدين والقيم الأخلاقية، بل يعني الكف عن شرعنة الاستبداد باسم الدين وشريعة السماء.

يأتي في الحلقة القادمة

 

.................

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

 

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

[email protected]