صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: دراسة في تراث أقاصيص إدغار آلن بو (4)

حيدر عبدالرضاقصة (البقعة الذهبية) إنموذجا.. الدال القصصي بين تماثل العلامة والتمثيل الرمزي

توطئة: إن تكرار الأفعال وديمومتها الإنتاجية، قد تسمح للقاص بإقامة جملة استبدالات تحولية وتوليدية في مجال وظائف الأنموذج القصصي، بخاصة ما يخص تلك الجوانب المتعالقة بين ترسيمة (العلامة = الرمز).فما دامت الوظيفة العلامية تمثيلا في بلوغات العلاقة الرمزية بالضرورة القصوى، فما على البنية الرمزية سوى أن تكون العاملية الفاعلة في تحولات المعنى إلى دلالات مسندة في عاملية المفعول المفترض من الحقيقة الحاصلة في منظور المعنى المسند إليه اقترانا بتلك التوالدات الوسائطية المؤولة من الدال القصصي.أن من حتميات البنى المركزية في عوالم أقاصيص الكاتب الأمريكي الرائد إدغار إلن بو، ما يتبع ذلك الاحتمال الحرفي في حقائق القص العليم.ولكننا عندما نمعن في مجالات نصوصه القصصية من خلال نظرة فاحصة، نجدها عبارة عن ممكنات ترميزية في مؤشرات الصياغة التماثلية أو التمثيلية الحاصلة في حدود دائرة استقرائية من مفاهيم التعابير والأوصاف وذلك العنصر العاملي الذي غدا ينحو لافتا في بث مجاهيل المحتوى الدلالي نحو تداعيات ممسرحة من الرؤية الإجرائية المحكمة الصنع والصنيع.وهنا قد يحق لنا التساؤل فيما إذا كانت نصوص بو القصصية في زمنه تحديدا، تبدو عبارة عن إيهامات وكوابيس وسوداوية حصرا في نطاق من دلالة الاغتراب أو الوحشة في احاسيس المكونات الخاصة بالكاتب نفسه أم أنها من جهة هامة تبدو هي الطبيعة البنائية للرمز التي نشئت في ظروف خاصة من الكتابة الإمكانية بأية وسيلة ما من غاية تحقيق الآثر النفسي للكاتب في توظيفه للخاصية الرمزية في مساحة دواله القصصية القصيرة.أقول أن خلاصة قولنا المعاين في دراسة عوالم قصة (اللوحة البيضوية) وقصة (طريقة الدكتور طار والبروفيسور فخر) والقصة التي هي موضع دراستنا (البقعة الذهبية) إذ بعثت فينا ذلك التعليل المحتمل بأن مجموع عوالم هذا القاص الفذ، ما هي إلا تلك البنيات الإمكانية المقيمة في شروط تنصيصها اللحظوي و الآني، ليس لأن فضاء القصة القصيرة يعد مجالا مختزلا حصرا، بل لأن طبيعة الصورة السردية في مكونات نصوص هذا القاص، تتطلب في محمول موضوعاتها تلك الحالات من الحبكة التي تلزم كاتبها تشكيل أحداث وشخوص ذات تركيز رمزي مفرط في تمايزية الموضوعة المنتقاة في الحيز النفسي والمزاجي السلوكي للكاتب نفسه.لذا وجدنا بالمقابل ثمة دلالات مضاعفة في هذا الجانب و قصة (اللوحة البيضوية) إذ تترائى لنا من جهة ما وكأنها مبالغة سريالية في شكل بورتريهات مكانية وزمانية وذاتية تدفعنا إلى قراءتها على النحو الذي يوفر لنا ذلك التماسك في مفترض التماثل الرمزي، كذلك الحال ينطبق على دلالة أجواء قصة مشفى المجانين في قصة (طريقة الدكتور طار والبروفيسور فخر) فأغلب ما جاءت به هاتين القصتين، لا يبتعد عن إيقاعات الاسلوب التهكمي المشرئب في تماثل أوجه خاصة من الأفعال الرمزية الرجوعية بالزمن إلى الوراء لأجل التقاط بدايات ومتتاليات اللحظة الذروية المضاعفة من فضاء النص.

ــ قصة (البقعة الذهبية):

المخاتلة الزمنية بين تراتبية المرمز وشيفرات الاستعادة الرمزية المخاتلة.

مدخل:

تعتمد دلالات وآليات قصة (البقعة الذهبية) ومنذ مطلع مستهلها العتباتي على جملة مسببات ظرفية وأحوالية معقدة في شكل اسقاطات محاورها الحكئية المشبعة بجوانب حدثية جارية على لسان السارد المشارك.وعند النظر منا إلى تمفصلات الحركة الزمنية في مستهل النص، تواجهنا مكونات مسرودة في حدود خطية زمن ذات أبعاد استرجاعية معرضة وأخبارية تنقل لنا مستلزمات السارد المشارك كوحدة مروية مواصلة إلى طرح السرد في خطوط مواضعة من السرد والحوارات: (قبل سنين عديدة توثقت عرى صداقتي بالسيد ويليام لوغراند، وكان هذا الصديق ثريا يتحرر من أسرة هوغونوتية قديمة.. لكن سلسلة من النكبات نزلت به أوردته موارد الفقر، ولكي ينأى بنفسه عن المهانة والمذلة ترك نيو ـ أورليان مدينة أسلافه ـ وأستقر في جزيرة سوليقان ـ بالقرب من ترك نيو ـ أورليان مدينة أسلافه. / ص35 ) وبالنظر إلى طبيعة إظهارات السارد المشارك في تطعيم السرد بتلك المؤثثات الوضعية للمكان ضمن ملفوظة الحاضر بالفعل المضارع من على لسان الحكي.

1ـ آليات الموصوف بين زمن الخطاب والرؤية الخطية:

قد تلعب حيثيات البصيرة السردية لدى بو في جملة مواقف النص، بهالات مماثلة تلعب دورا بارزا ما بين احتوائية (الموقف العارض ـ الموقف المعمق) وصولا إلى اقترانات إمكانية موحدة من شأنها تكثيف اللحظات الحسية نحو وقائع ذهنية تتساند في مؤثرات التفاعل السردي، ابتعادا نحو حلقات واصلة من بؤرة الأرتكاز الأفعالي والصفاتي للشخوص القصصية.وتبعا لهذا المجال من التنصيص الذي أشرنا إليه، يكون بإمكاننا معاينة حجم الواصلة الوصفية عند مدخل النص، وإلى درجة شعورنا بأن بو كان يسلخ مرحلة توصيفية باهرة في رسم معالم الجزيرة وما تحمله من نباتات مصنفة بموجب قائمة أسماءها وصفاتها، كل ذلك من أجل فعل مسببات البيئة التي أختار المكوث فيها الشخصية ويليام لوغراند مع خادمه الزنجي: (أختار صديقي ويليام لوغراند أعماق هذه الآجام، التي تقع في الناحية الشرقية من الجزيرة، وأبتنى لنفسه كوخا، وسرعان ما تحول هذا التعارف إلى صداقة وثيقة العرى، فقد وجدت في معتزله هذا ما يبعث على الاهتمام ويدعو إلى التقدير/ كان فصل الشتاء في جزيرة سولفيان معتدل المناخ، يندر أن يلجأ المرء فيه إلى إشعال الحطب..ولكن حدث في يوم من الأيام منتصف شهر تشرين الأول ـ أكتوبر سنة ـ 18 أن أشتد البرد في تلك المنطقة اشتدادا ملحوظا..ورأيت نفسي قبيل غروب الشمس، وأنا أسعى عبر الحشائش، إلى كوخ صديقي، بعد انقطاع عنه دام بضعة أسابيع. / ص36 ) أن من جماليات القص لدى بو إنها تمتاز بكلية الموصوف، فهو لا يدع ثمة وحدة تنفر من نسيج سرده، إلا ولها تلك العلاقة الخصبة إزاء موجه مسنده البؤري، لذا فإن ابعاد حسابات حكايته لا تفرط بأدنى عينة ما إلا وتقود إلى نسيج جوهر التبئير في عينه، وهذا ما صادفنا لمثله في قصة (اللوحة البيضوية) وقصة مشفى الجانين حيث تتضافر جميع الاسباب إلى خلق حالة ارتكازية في سياق النص الكلي، فهذا الوصف للزمان والمكان الساحر، ليس محض سياحة في أعشاب الجزيرة، بل إنها وجه الملامح الوقوعية المكملة إلى طبيعة صورة الشخصية وكيفيات خوضها في تجارب غريبة مع صديقه وخادمه الزنجي.

2ـ الحشرة الذهبية:

مدار المحفز الحبكوي ومغزى علامة الإمكان:

في الحقيقة أننا لا نستطيع أن نجعل من تحلينا للنص كحالة مختبرية من شأنها النظر إلى الأشياء من خلال ناظور طبي فاحص، بل أننا سوف نتعامل مع علاقات الدلالة في حدود مؤشر موضوعي تعقيبي من شأنه التحديق في مستوى العلامة في النص كدليل إيصالي للوصول إلى أنظمة الدوال المثيرة في صناعة استنتاجاتنا التحليلية لمأرب النص.أقول مجددا أن وظيفة السارد المشارك في النص، كانت بطريقة ما تعد كوسيلة إيصالية دون شك، لذا فإن الحكم على ممارساته داخل النص، يمكننا عدها بالشاهد عن صحة وصفنا من ناحية الدقة والعناية.وذلك يعود لكون السارد المشارك كان مترجما وشاهدا لنقل أهم متعلقات الشخصية وليام وخادمه الزنجي، ناهيك عن دوره المشارك كشخصية مضافة في النص، وعلى هذا النحو وجدناه يتلقى من صديقه خبر عثوره إلى تلك البقعة الذهبية أو الحشرة الذهبية أن صحة ترجمة المصدر المعجمي للنص، وما يتبع هذه البقعة من معايير وخيارات وحوافز تخوله إلى أن يقع في مأزومية ذهانية غريبة من نوعها: (وما إن أسدل الليل ستاره حتى أقبلا، فرحبا بي ترحيبا حارا، وأبتسم الزنجي ابتسامة عريضة، وراح يعد لنا دجاجة من دجاجات المستنقعات..أما لوغراند فكان في طفرة من الحماسة لأنه عثر على صدفة غريبة مشطورة، هي نوع جديد من الصدف، والأهم من هذه الصدفة أنه أسقط بقعة من نوع سكارابوس ـ بمساعدة جوبيتر واحتفظ بها، وهو يعتقد أن هذا النوع من البق جديد تماما، ويود الاطلاع على رأيي بصددها في الصباح. / ص37) لاشك تماما من أن بو كان يتبع في سرد قصته ذلك الاسلوب الخاص من (الحبكة المتماهية) إي هذا النوع الذي يجعل من طريق الوصول إلى المغزى الدلالي بأكثر من طريقة، وعند معاينة عدة طرق في وسائل بلوغ هذه الحبكة نجد أنفسنا داخل حبكة جديدة في مستوى خاص من الذروة ذاتها، إذ أن حالة التعرف على مكامن الشيء في مثل هذا الأنموذج من الحبكة المتماهية، قد يقودنا إلى جملة محققات غاية في التكهن والشد الموضوعي، لذا تابعنا مستوى غموض المكاشفة في متعلق البقعة ذاتها، وذلك عندما طلب السارد المشارك من لوغراند بمرأى هذه الحشرة الآن، فكان رد لوغراند بأن أمر رؤيتها يتطلب منه الانتظار حتى الصباح.وبهذا الحال كان الغرض من لوغراند ليس التمويه طبعا، بقدر ما كان الأمر متعلقا في شخصية الملازم (ج) التابع لحامية الحصن على حد مصادر النص: (ـ ولماذا لا يكون ذلك هذه الليلة؟فأجابني:ليتني عرفت أنك هنا في كوخي..لقد مضت مدة طويلة من الزمن لم أراك في أثنائها، فكيف لي أن أتنبأ بمقدمك هذه الليلة بالذات؟..فحين كنت عائدا إلى البيت التقيت بالملازم  ـ ج ـ وقد دفعني الحمق إلى أن أعيره البقة الذهبية. / ص37) من هنا نعاين مدى رجاحة هذه الممارسة الخاصة بوظيفة الحبكة المتماهية، حيث أن جميع وسائل الانفراج تبقى وهن مؤشرات متداخلة في الاسباب والاحوال المتفاوتة من قبل الشاهد السردي في النص، وهو ما يشغل فضاء تساؤلات الزمن الواقع ما بين طلوع الشمس وحجم ذلك الكائن الذي هو بحجم البندقة: (وفي هذه الأثناء أعطيك فكرة عن شكلها ؟قال لوغراند ذلك وجلس إلى خوان صغير عليه قلم ومحبرة، بأستثناء الورق، وعبثا بحث عنه في الدرج.وقال في نهاية الأمر:لا بأس في ذلك، فهذه الورقة ستقوم مقامها..وأخرج من جيبه طلحية ورق قذرة جدا، ورسم عليها رسما غليظا...وفيما هو منهمك بعمله هذا قربت مقعدي من النار لأنني أحسست بالبرد يسري في جسمي. /ص38)لعل القارىء إلى هذه الوحدات من النص تساوره الآن عدة بداهات في مكون جل اهتمامنا حول تسليط الضوء على هذه المقاطع، دون الخوض منا في سرد باقي معللات النص تباعا، لذا أقول بدوري أن بناء هذا النوع من (الحبكة المتماهية النسق)تقودنا تفرعاتها البداهية إلى منظور العلامة الدالة في شكلها المكين من الرؤية، فلو تجاوزنا كل واردات النص عبثا دون قصدية ما، لما استطعنا فهم مغزى هذه الحبكة أبدا، بخاصة وأنها روح الجوهر في مقصدية الشيفرة الرمزية في كشوفات المعنى المضمر.

3ـ علاقة محكيات النص: جهات موضوعة النص:

قد نستطيع دوما أن نفصل بين مستويات صياغة النص، ولكننا لا نقدر على فصل شروط علاقة الفاعل المنفذ في محكيات النص نفسه، بخاصة إذا كان الأمر مرتبطا بجهات موضوعة لها أو اواصرها في أنساق المرسل النصي.أقول أن العلاقة ما بين محكيات الشطر الأولي من السرد له مخصوصية بالغة في فهم حدود العلامة المحمولة في نوازع تلك الخطاطة التي قام الشخصية لوغراند على الرسم عليها، في حين كان السارد المشارك مشغولا بالتدفئة قرب النار، وفي أثناء انتهاء لوغراند من رسم شكل ذلك المجسد للبقة الذهبية، جاء طارئا فإذا به الباب يفتح ويدخل ذلك الكلب الضخم مقتحما الغرفة:(ويقفز على كتفي ويغمرني بلعقة، لأنني كنت أبدي له في زياتي السابقة كثيرا من الاهتمام..ولما كف عن قفزه وقمزه، ألقيت نظرة على الورقة، والحق يقال أنني وجدت نفسي في حيرة مما رسمه صديقي..كما أنني لا أجد لجمجمتها شبيها في كل ما وقع عليه نظري من هوام ! فرد علي قائلا الجمجمة..حقا إنها تبدو على القرطاس كما تراها. / ص38) هكذا تباشرنا مؤشرات العلامة في علاقة محكيات النص ضمن واصلة سياقية معقدة في النواة والحصيلة المرمزة، إذ في مقابل ذلك الخليط من الإيهام والغشاوة التي جعلت من السارد المشارك يرى ذلك المجسد على الورقة بمثابة الجمجمة، ليس إلا. لنعود الآن إلى رؤيتنا الخاصة بما يخص العلاقة بين الفعل السردي وضروب جهات الموضوعة، لنجد أن الشخصية في حال نموذج الجمجمة هي العلامة مثالا، أما تلك الحشرة الذهبية هي (فاعل حالة) وجهة للموضوعة في دليل (علاقة مرسل) في حين يبقى السارد هو الشاهد على (فعل الارادة) النابعة من جهة الشخصية لوغراند، مرورا بذلك الخادم الزنجي الذي هو يشكل بذاته بمثابة إطار حدود العلاقة على النحو الذي يمكننا جعله كينونة(فاعل محيط)ينبغي أيضا أخذ وظيفة السارد المحكي ككفاءة وجود سردي أو ملفوظي على نحو يمكننا من جعل أغلب معطيات العلاقة الدائرة ما بين(السارد المشارك ـ الشخصية لوغراند ـ الخادم الزنجي ـ البقة الذهبية ـ الجمجمة)كملفوظات فعل معرفة إلى مرحلة ملتبسة في جهات الموضوعة أو العلامة المحددة في خطاطة الجمجمة.إذن ما وجه الإشكالية في أن يرسم الشخصية لوغراند قاصدا البقة الذهبية، فيراها السارد في عينه وتقديره عبارة عن جمجمة لا أكثر؟هل ممكن أن يكون لوغراند كما تصفه مصادر النص بأنه رساما فاشلا مثالا؟أم أن هناك غشاوة إيهامية في نظر السارد المشارك؟وما يؤكد لنا حقيقة المعادلة في مرجعية حكاية الحشرة الذهبية كوجودا فاعلا في النص طالما أن دليل وجودها غدا يحدده ذلك الصباح المجرد من حضور السارد المشارك نفسه؟.وعلى جملة هذه الردود من الأسئلة لعلنا نعاين ما جاءت به هذه الوحدات الحوارية من اثبات ونفي بين صوت السارد المشارك كشخصية والشخصية لوغراند: (وما من ريب في أن بقتك هذه هي أعجب بقة في عالمها...وبوسعها أن تخلق فينا اعتقادا باطلا...وفي رأي أن تدعوها بقعة سكارابوس أو خنفسة نهاية الانسان: فأجابني لوغراند بحماسة إلا تراها..لقد صنفتها بالنسبة إلى إصولها، وفي ذلك كفاية كما أعتقد.فقلت له:حسنا تقول: لكنني لا أراها...وناولته الورقة فلم تكن تحمل رسم بقة وإنما رسم جمجمة انسان عادي لا أكثر. / ص39)قد يسهم حضور التركيز التكهني من قبل السارد المشارك تباعا حول حوافز تبئيرية خاصة في مدار الشد الوحدوي، ذلك تأكيدا نحو وجود العلاقة الإيهامية الواقعة ما بين(الحشرة الذهبية ـ الجمجمة) وصولا منهما إلى تلك الواصلة التصاعدية في مواجهة ذلك اليقين المرموز بمحكومية العلامة في مداخلات الأحداث الراصدة في علاقات المتن.

4 ـ البؤرة المفصلية في أفق الشاهدة الرمزية:

أن التراتيبية البؤرية المتشكلة في غاية النص المفصلية تبدو على نحو ما إنما خرجت عن مسار الممارسة التبئيرية النمطية، لتكون لذاتها تلك العلاقة الزمنية المشبعة بروح التفاصيل المعقدة في دائرة (البؤرة المفصلية) أي هذ البؤرة الحاصلة من أوجه علامية مركبة في الدليل والدلالة والمرجع.لذا وجدنا مسار شخوص النص المتكون من السارد المشارك والشخصية لوغراند إلى جانب خادمه الزنجي، تتبع وظيفة الترتيب في اللعب البؤروي، وصولا إلى حادث استدعاء لوغراند في أحد الأيام بواسطة خادمه الزنجي طلبا إلى مجيء السارد المشارك من منزله الواقع في أحدى القرى المحاذية للجزيرة.وما شاع بين الخادم الزنجي والسارد المشارك من خلال لقاء جمع الأثنان، بأن لوغراند نفسه صار يعاني من اضطربات نفسية قريبة من الهلوسة والهستريا، ذلك ما راح يعزز رأي السارد المشارك من ذي قبل، والذي كان يتفق مع ما قاله الزنجي بحق سيده، فيما راح يضيف السارد مثل هذه الأقوال قاب قوسين: (قلت: أريد أن أفهم ما تعنيه يا جوبيتر..فأنت تقول إن سيدك مريض: ليس ما يستدعي اهتمامك الكبير بالأمر يا سيدي، فالسيد ويل لم يقل شيئا عما يشكو منه، ولكنه يتجول مطأطىء الرأس..ويحمل بيده لوحا دائما.قلت: يحمل لوحا عليه أرقام... وهذه الأرقام هي من أعجب ما رأت عيناي...ولقد قلقت عليه من أجله، وشددت المراقبة عليه، لكنه رحل ذات يوم خفية وتركني بمفردي منذ شروق الشمس حتى غروبها. / ص40) ما جعلنا نلتفت إلى غرائبية تصرفات الشخصية لوغراند ورسالته المرسلة بيد الخادم في صدد حادث البقة الذهبية، قد جعلنا مرارا نلتمس العذر والمعاذير إلى هول ردة فعل الخادم الزنجي جوبيتر.ولكن هناك ما هو جوهريا بلا أدنى شك من جهة حماسة لوغراند في ذلك المعمول من لوح الأرقام، فقد يكون حسابا فلكيا نادرا أو أنه وصفة طلسمية تخص عملية البحث عن كنوز ما في حقل مدفونة أو فوق شجرة أو في قاع بحيرة متفرعة من النهر؟تحكي لنا مصادر السارد المشارك أنه عندما اجتمع الثلاث في الكوخ مجددا اقترح لوغراند على خادمه وصديقه السارد المشارك نفسه بالذهاب نحو تلك الغابة الواقعة في قلب الجزيرة بواسطة الزورق والكل منهم يحمل المعاول والمصابيح اليدوية، وعندما بلغ الثلاثة مسافة شاقة من قلب الغابة توقف لوغراند دون خادمه وصديقه السارد، آمرا الخادم بأرتقاء أحد الأشجار الشاهقة وحتى نهاية أغصانها العرشية: (فأجابه الزنجي:وما هو الأرتفاع الذي سأبلغه؟قال:عليك أن تصل إلى نهاية الجذع الرئيسي أولا، ثم أخبرك عن الاتجاه الذي ينبغي عليك أن تتجه إليه.والآن قف..خذ هذه البقة معك.فصاح الزنجي وهو يتقهقر متقززا وقال:البقة!.. البقة الذهبية!..وما الحكمة من حمل هذه البقة إلى أعالي الشجرة؟. / ص47).

5 ـ إيماءات البنية العلامة وصراع واقع الحكي:

في أجواء طابع دلالات قصة (البقعة الذهبية) أو في ترجمة أخرى (الحشرة الذهبية) يضع بو تساؤلات القارىء والشخوص في محمل من العوامل العلامية المرتبطة في حدود المرمز من قبل غواية الوظيفة الرمزية ذاتها، وذلك لأن الأمر يعود بدوره إلى سياق الحبكة المتماهية أو المفصلية في مدار الحكي القصصي.لا أود الإطالة أكثر مما ينبغي في تحليل وتعليل كل خطوات النص، مكتفيا بالقول الختامي الذي يتلخص مضمونا بأن الضوء الذهبي الناتج من عين الجمجمة التي عثر عليها الزنجي أعلى غصن الشجرة، أسقط بشعاعه بقعة دائرية بين أقدام الثلاثة فسارع كل منهم يحمل الجراف وآخر يحمل المعول وآخر يضيء ويزيح التراب الخارج من الحفرة أسفل الضوء الساقط من عين تلك الجمجمة اليسرى في أعلى الشجرة.وما هي إلا لحظات قليلة من الحفر، حتى تبين إلى الرجال ذلك الصندوق القديم وإلى جواره كانت تقطن مجموعة من الأجزاء والقطع العضوية التابعة لهيئة جثة بحار قديم.وعندما تم فتح الصندوق استبشر الرجال بأن ما عثروا عليه هو عائد إلى أحدى كنوز البحارة أو القراصنة المخبئة تحت الأرض.

ـ تعليق القراءة:

في الواقع أن آليات الحبكة المتماهية أو المفصلية في مسار فواعل النص، قد لا يعول عليها نقديا بما تحمله من فكرة قريبة إلى أدب الملاحم و الآراجيز الحكائية، ولكن الأكمل في سياق النص هو القيمة في كيفية توزع الحبكة في موضوعة النص على كل هذه المحاور من الشد الموضوعي والسبك المتقن في محتوى الحكائية القصصية. ناهيك عن تراتيبية التضافر العاملي في صنع هوية وشاهد رؤية النص نفسه.قد تكون من جهة هامة مجموعة عوالم أقاصيص الفذ (إدغار ألن بو) ليس بالمستوى المعاصر والحداثوي في ناحية توظيف عناصر وتقانات آليات القصد الميتاحداثوي، ولكنها أقاصيص اتشحت بوشاح كل عوالم الفن القصصي المتين الذي تتوزعه الإيحاءات والترميزات والعلامات المؤثرة في خصوصية هذا الفن الأثير وطابعه الخاص. أما عند الحديث عن نهاية قصة (البقعة الذهبية) فلا أتصور من جهتي الشخصية أن لها كل الثقل في معايير ومميزات القصة النمطية الباردة التي نقرأها في يومنا هذا، كأنها بنيات خواطرية تسمى بالقصص. أتمنى من كل قارىء أن يقرأ وأن يتمعن في فن بو القصصي الذي وجدنا فيه أكبر الأبعاد المحاكية ما بين الواقع والمتخيل، وما شدنا إليه هو ذلك المكنون من العوالم السرية المشرئبة بجمالية الصنعة والتشكيل المجرد في موضوعة المواقف والأسرار الغاطسة في غياهب القعور المظلمة من الدلالة والدليل، إلى جانب صعوبة الوصول إلى مفاتيح الطاقة المكرسة في تلك الابعاد المدلولية المثمنة.

 

حيدر عبد الرضا

 

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم