صحيفة المثقف

محمود محمد علي: فتحي التريكي بين الفلسفة الشريدة ومعقولية التنوع

محمود محمد علييعد "فتحي التريكي" واحداً من أبرز الوجوه الثقافية من أساتذتنا المعاصرين، وهو يمثل قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ ربع قرن باحثاً ومنقباً عن الحقيقة والحكمة. إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته فهو ينقب في ثنايا الفكر العربي الحديث والمعاصر، لكنه لا يسلم به من ما يكتب عنه من قبل زملائه الباحثين، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله هذا الفيلسوف أو ذاك من أعلام الفلسفة الشوامخ.

وفتحي التريكي مفكر تونسي معروف في العالم العربي، حصل على دكتوراه في الفلسفة السياسية من جامعة السوربون بباريس وعلى دكتوراه الدولة في الفلسفة من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس. ويعمل استاذ كرسي اليونيسكو للفلسفة بجامعة تونس. ساهم صحبة جاك دريدا في اقتراح فلسفة التعايش والتعقلية واقترح أيضا فكرة تقاسم الكونية.

شغل منصب عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية بصفاقس من 1990 إلى 1996 وعُين في كرسي اليونسكو للفلسفة بالوطن العربي في 1997. ثم عمل أستاذا زائرا بجامعة ديوك بالولايات المتحدة في 1999 وبجامعة باريس 8 في فترات متباعدة زمنيا سنتي 2000 و2007.

ولقد ترجمت أعماله إلى اللغات الأجنبية. درّس الفلسفة في جامعات كثيرة ببلده تونس وفي باريس كما شغل منصب كرسي اليونسكو في العالم العربي وساهم في الفعل الفلسفي بالندوات والمحاضرات تونسيا ومغاربيا وعربيا ودوليا فضلا عن مؤلفاته العديدة باللغة العربية والفرنسية منها على سبيل المثال: الفلاسفة والحرب (1985)، وأفلاطون والديالكتيك (1986)، وفلسفة التنوع (1987)، الفلسفة الشريدة (1987)، والعقل والحرية، وفلسفة الحداثة (1992)، (بالاشتراك مع د. رشيدة التريكي)، والحداثة وما بعد الحداثة (2003)، (بالاشتراك مع د. عبدالوهاب المسيري)، والهوية ورهاناتها (2010) وغيرها كثير.

تشغل الدكتور فتحي التريكي قضايا متعددة متضافرة مثل “فلسفة اليومي” التي تحتل مكانة خاصة في نشاطه الفلسفي وإلى جانب ذلك فهو يعالج عنقودا من القضايا الفكرية الساخنة الراهنة التي شغلت ولا تزال تشغل المفكرين المعاصرين في بلداننا وفي مختلف بلدان العالم وفي مقدمتها “أخلاقيات الفلسفة المعاصرة”، و”مجال التفلسف”، و”التعددية الثقافية” و”تضافر الثقافات”، و”المعقولية وثقافة التقدم”، و”الفلسفة والقول في الفن”، و”الهوية” و”دور المثقفين” في حركات التغيير السياسي والاجتماعي.

ويعد كتاب "الفلاسفة والحرب"، الصادر عام 1984،اللبنة الأولى في مسيرة المفكر التونسي. ذلك أن إشكالية الحرب، موضوع هذا الكتاب، ليس موضوعا عارضا بالقياس إلى الاهتمامات الفكرية التي سترافق  فتحي التريكي خلال مساره الفكري. ففلسفة التريكي هي، في بعد جوهري منها، سعي إلى إيجاد حل لإشكاليات العنف والهيمنة والتبعية والحرب. وهي إشكاليات متقاربة في جوهرها، إذ تشترك فيما بينها من حيث تأسسها على مبدأ القوة والقهر.

لهذا كان الكلام عن الحرب يستتبع بالضرورة الحديث عن شروط تجاوزها، يعني الحديث عن السلم. من هنا جاء طرح التريكي، في مختلف أعماله، للقضايا ذات الصلة بهذا الموضوع )الهوية والغيرية والتثاقف والعيش سويا والعولمة والحداثة...). فالانتقال من الحديث عن "الحرب" إلى الحديث عن السلم، أي إلى نقيضها، أمر تقتضيه، حسب التريكي، طبيعة الفلسفة باعتبار أنها سلمية في جوهرها، ولهذا فإن الحرب "لا تستطيع أن تكون مفهوما فلسفيا إلا بمحوها، واحلال فكرة السلام المستمر محلها... (وبذلك) تكون إذن حقيقة الحرب – من الناحية الفلسفية – هي موتها. لهذا قلما قام فيلسوف بالنظر والتمحيص في معنى الحرب إلا وأخذ يتكلم – عن غير وعي- عن السلم" . وذلك ما فعله التريكي أيضا. ولعل مشروعه يذكرنا من هذا الجانب، في بعض نواحيه، بمشروع كانط في نصه "نحو سلم دائم"، ذلك أن هذه الفكرة الأخيرة تنخرط بدورها في الجدل الفلسفي حول العلاقات بين الشعوب والدول، كما هو الحال كلما تعلق الأمر بالحرب والسلم .

بذلك يكون كتاب "الفلاسفة والحرب"، كما سبق القول، لبنة أولي وأساسية في تحديد معالم وتوجهات فكر التريكي الفلسفي، وبرغم هذا يجب الإقرار أن ما يميز فتحي التريكي عن باقي المفكرين والباحثين والدراسين العرب الذين لهم علاقة بميشيل فوكو أنه يحاول تأسيس فلسفة، وان ما يشغله أساسا هو جملة من الأسئلة الفلسفية التي يفكرها من منطلقات فلسفية متعددة، لذلك جاءت لغته وطريقته وتصوراته كلها في قالب فلسفي، ومن هنا نري لزاما علينا، إن نحن أردنا دراسة نصوص هذا الفيلسوف كما يقول الزواوي بغورة وعلاقته بنصوص ميشيل فوكو، وجب طرح الأسئلة الأولي – أعني سؤال الهوية التي يدعوا إليها، أو بالتدقيق الفلسفة التي يحاول تأسيسها .

وقد أطلق التريكي على فلسفته أسماء مختلفة، فلقد سمي هذه الفلسفة مرة التنوع والاختلاف، ومرة بالفلسفة الشريدة، ومرة ثالثة بفلسفة الحداثة، ومرة رابعة بالفلسفة المفتوحة، وعلى الرغم من ظهور هذه المصطلحات في دراسات مستقلة، إلا أننا قد نجدها قائمة في المعل الواحد، وذلك منذ كتابه " قراءات في فلسفة التنوع".

ويعرف التريكي فلسفته، بقوله :" لم نعد نعتبر الفلسفة ذلك التفكير الكلي الموحد الذي يعطيك فكرة، إن لم نقل حلا لكل سؤل يطرح عليها، حسب هذه الوحدة الشاملة . لم تعد نسقا وحيدا متماسكا، بل أصبحت حرية وتنقلا، شتاتا وتعددا تنتجها ميادين متعددة فتأتي الأوجه متباينة المضارب والمآرب . إنها الفلسفة المناهضة للفلسفة والمذهب .

ومن هنا قام المكفر بالتأسيس لفكرة التنوع أو ما سماه بمعقولية التنوع وأسسه العلمية والاجتماعية والسياسية، أو ما يشكل معقولية التنوع بحسب عبارته، هذه المعقولية تقوم على نقد العقل الموحد لن العلم ذاته لم يعد يعتمد النظرة الواحدية التي كانت سائدة، ولن العلوم في الوقت الحاضر تقوم على الكثرة والتغير .

وعلى هذا الأساس، ستحل منطقية العقل المتنوع شيئا فشيئا في محل منطقية العقل الموحد، وستكون فلسفة المستقبل العلمي، إذ أن العلوم الآن قد اكتشفت أن للتنوع الطبيعي والاجتماعي أهمية قصوي في فهمنا لطبيعتنا وأن العقل الموحد قاصر على دراسة الواقع بتعقيداته وكثرته وتغيره المستمر، لأنه يصبو إلى المعرفة الكلية والشاملة، والفلسفة ذاتها التي يسميها بفلسفة التنوع والتي تتأسس على الإيمان بالعقل والحرية كطابع تتأسس عليه الفلسفة اللانسقية أو الفلسفة الشريدة النص الذي من خلاله يؤسس لشرعية السؤال الفلسفي والذي بدوره لم يعد حكرا على جغرافية معينة أو جنس بشري لا لشئ سوي لأن كل سؤال للفلسفة يجب أن ينبني على العقل الذي لا يقبل حصرا جغرافيا أو عرقيا، فالفلسفة الشريدة هي بيان لشرعنة التجربة الفلسفية من جهة، ومن جهة ثانية تحرير عملي من الأزمة السيكولوجية التي وضع الفكر العربي نفسه حبيسا لها .

وتبعا لذلك فإن البحث عن الفلسفة في رأي "فتحي التريكي" يتجلي في البحث عن فلسفة التنوع، والتي يعرفها في مدخل كتابه الفلسفة الشريدة كالتالي : لم نعد  نعتبر الفلسفة ذلك التفكير الكلي الموحد الذي يعطيك فكرة إن لم نقل حلا لكل سؤال يطرح عليها حسب هذه الوحدة الشاملة، لم تعد نسقا وحيدا، متماسكا بل أصبحت حرية وتنقلا شتاتا وتعددا تنتجها ميادين فتاتي مختلفة الأوجه متباينة المضارب والمآرب .

إنها فلسفة مناهضة للنسقية والمذهب كما أنها تقوم على نقد العقل الموحد ورفضه ليحل محله منطق العقل المتنوع، وبناء على هذا تصبح الفلسفة المفتوحة تجمع الأفكار لتكوين  خطابات مختلفة من أجل التدخل في العلوم المختلفة، في الفن، والدين لتطور العلوم المختلفة، يغية توضيح المفاهيم وتحديد المناهج والدفاع عن حرية التفكير والإبداع .

فالفلسفة المفتوحة بهذا المعني تعني اللانسقية واللامركزية واللاسيد في الخطاب الفلسفي، لأن الفلسفة قبل أن تصل إلى مرحلة الشرود والتنوع كثيرا ما كانت تتحدد مع تاريخها، أي تجعل من تاريخها وتاريخ أفكارها موضوعا للدراسة والبحث . ومن ثم أصبحت تعود غلى أصلها وتاريخها، وتلم بالأنساق الفلسفية السابقة وتفسرها وتصنفها إلى مذاهب وتيارات فلسفية عديدة وأصبحنا نحن بدورنا تايعين لهذا التصنيف والتقليد.

ونظرا للتهديد الذي أصبح يمثله مفهوم التنوع الثقافي لتحقيق التعايش يقترح التريكي مفهوما آخر بديل هو مفهوم التثاقف، حيث يكون التثاقف ممكنا بواسطة العقل والإبداع، ومن ثم يكون قريب جدا من السياق الفلسفي إذ يفتح الآفاق نحو سعادة الكل وسكون السلم الدائم نتيجة التثاقفية .

ولقد حدد التريكي لفظ التثاقف بأنه :" الفلسفة التي تمكن في نفس الوقت، من احترام الاختلافات البنيوية للثقافات تساويها كما هو الشأن قيمتها الداخلية، ومن اعتبار أي ثقافة كما لو أنها مالكة لبعد كوني في الذي يشكلها أيضا كخير مشترك هو في تناول الإنسانية برمتها، ففي التثاقف تأكيدا على الغيرية فهو بتأسسه على قيم الإنفتاح والخلق فالإبداع والإختلاف يخلق نوع من التلاحم والإنسجام بالآخر، وبهذا المعني يضع التثاقف حدا لطموح العقلانية الغربية ويقدم للكونية طابعا من التفاهم، لأنه يقتضي وجود قيم مشتركة بين الإنسانية . فالتثاقفية إذن حوارية إذ أنها تحاول أن تجد ضمن الكثرة الاجتماعية والثقافية وسيلة لمحاورة الآخر .

ولا نظن أن كتاب التريكي " الفلسفة الشريدة"، الصادر عام 1987،بلبنان، يبعدنا كثيرا عن التثاقف. ففي هذا المؤلف الذي يبلور فيه فكرة الفلسفة المنفتحة، قاطعا الصلة بالمذاهب المغلقة والدوغمائية، أي بفلسفة النسق، و"الذي يربط الفكر ربطا وثيقا داخل أسوار يصعب تهديمها وتجاوزها.

يفتح التريكي المجال أمام "الفلسفة الشريدة" التي يجعلها طابعها القائم على التنوع والاختلاف والحرية، فلسفة مناهضة للقهر والعبودية والعنف، على عكس فلسفة النسق. يقول التريكي: "أمام تأرجح السلطة بين الكليانية والهوية، لا تستطيع الفلسفة الشريدة إلا أن تكون مناضلة من أجل الحرية والاختلاف والتنوع، أما الفلسفة النظامية التي تحتمي بالنسق، سواء كان ذلك النسق علميا أو اقتصاديا، أو سياسيا، فهي في كنهها، وفي عملها تبريرية، تكرس الاستبداد والعبودية، فالفلسفة اللا نظامية هي الدرع الذي يحمي  الفرد الإنسان من غطرسة النسق.. وللحديث بقية.

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.........................

1- فتحي التريكي، الفلسفة الشريدة، دار "التنوير"، 2009 .

2- -فتحي التريكي، فلسفة التنوع، دار التنوير، تونس، 2009 .

6- ابراهيم سعدي: قراءة أولية في فلسفة المفكر التونسي فتحي التريكي، جامعة مولود معمري- تيزي وزو،

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم