صحيفة المثقف

محمود محمد علي: فتحي التريكي بين الفلسفة الشريدة ومعقولية التنوع (2)

محمود محمد عليالفلسفة الشريدة أو المنفتحة هي إذن فلسفة تحررية، على عكس فلسفة النسق التي يستعين التريكي في نقده لها بتلك العلاقة التي أقامها برتراند رسل وكارل بوبر، و"الفلاسفة الجدد" الفرنسيون بعدهما، بين الفكر النسقي والنظام الشمولي الذي قام في بعض بلدان أوروبا في القرن الماضي. على أن نقد الفكر النسقي، الذي يسميه فتحي التريكي أيضا "الفكر التوحيدي" وكذلك "العقل الموحد"، لن يتوقف لديه عند الحدود التي رسمها لها هؤلاء الفلاسفة الغربيون (وجود علاقة بين النسق والنظام الشمولي)، بل يمتد عنده ليربط أيضا بين فكر النسق والغرب كسلطة هيمنة، موظفا هكذا نقد فكرة النسق من طرف الفلاسفة الغربيين، لنقد الغرب بدوره، وبالضبط الغرب كقوة تقوم على التسلط والقهر.

يقول التريكي: "إذا ما تساءلنا ما الفائدة في هذا الفكر الجديد الذي يقترح إلغاء الفكر التوحيدي المهيمن، كان الجواب هو أن فائدته، بالنسبة إلينا، تكمن في تحطيم الدعوى الغربية بكونية فلسفته وتفكيره وثقافته من ناحية، وتحرير ذاتيتنا من عبودية القهر والاستبداد بإقرار حرية التفكير والاعتراف الكامل بحقوق الاختلاف والتنوع من ناحية أخرى"، مما يعني أن التحرر من النسق يؤدي إلى التسليم بنسبية الفكر الغربي وبالغرب ذاته. والتحرر من النسق، أي من الفكر التوحيدي، هو إذن مقدمة لتحرر مزدوج، من الغرب ومن الشمولية.

فالتركيز على مفهوم الانفتاح، عند التريكي، لا تقتضيه فقط، من وجهة نظره، التغيرات التي حدثت على صعيد نظرية المعرفة التي غيرت نظرتنا إلى الكون "مع تطور النسبية الفيزيائية والكيميا الحرارية الدينمية (وجعلتنا) نميل إلى أخذ اختلافات العالم الطبيعي وتغيراته المتواصلة وصعوبته الشائكة (بحيث بدأ) العلماء يشعرون بضرورة الابتعاد عن النظرية الكلية للكون"، إلي جانب كون "العقل الموحد" قاصر على دراسة الواقع بتعقيداته وكثرته وتغيره المستمر، لأنه يصبو إلى  المعرفة الكلية والشاملة"، يضاف إلى كل هذه الاعتبارات الابستمولوجية، معطى ذو طابع سياسي وايديولوجي: وجود ارتباط بين الكليانية الفلسفية وبين هيمنة المركزية الغربية، كما سبق وأن أشرنا. لهذا يرى التريكي أن "الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية نظريات وضعت أوروبيا في لحظة تحولات جوهرية لمعالجة واقع أوروبي خاص، وكل اختيار بين هذه النظريات هو اختيار جوهري للإندماج نهائيا في إيديولوجية  الهيمنة الاستعمارية الجديدة".

وتجد الفلسفة المنفتحة أو الشريدة، بما تتضمنه من معنى التعدد والاختلاف، تكملة وامتدادا طبيعيا لها في فكرة التنوع التي تمثل محور كتاب "قراءات في فلسفة التنوع" الصادر سنة 1988 .وهي فلسفة يلمس التريكي بداياتها الأولى، في اليونان، عند السفسطائيين، أصحاب فكرة نسبية الحقيقة وتعددها وحتى عدم وجودها كما يرى جورجياس، مثال. أما عند العرب فيقرأها التريكي عند ابن خلدون.

ولم يكتف التريكي بذلك بل نراه يدعو العرب جميعا إلى الانخراط في الحداثة التي، وذلك لكونها تمثل العقل، كما يقول في كتاب "الحداثة وما بعد الحداثة". من هنا ارتباط الهوية بالحداثة عند فتحي التريكي، ذلك الربط الذي يفسر غيابه واحدا من أهم أسباب التخلف وعدم الاستقرار في العالم العربي، حيث أن قطاعا واسعا من مفكريه يفصلون بينهما، يعني بالأساس بين التراث والحداثة، عندما يأخذون بطرف مفصولا عن الآخر.

أما التريكي، في "فلسفة الحداثة" المنشور بمعية السيدة رشيدة التريكي، فهو يقول بوضوح بهذا الشأن: "في اعتقادنا أن الحداثة مصيرنا وأن علينا فتح كياننا على تاريخيتنا لا من حيث أنها تربط حاضرنا بجذورها وبالحضارات التي تعاقبت علينا فقط بل وأيضا من حيث أنها انفتاح على الاقبال والمصير، لهذا فنحن لم نعد بحاجة إلى تأصيل كياننا بقدر ما نحن بحاجة إلى فتحه على الحداثة وعلى مسارها في تمظهرات الفكر العالمي".

ونلاحظ هنا أن التريكي يتحدث عن الحداثة في الفكر العالمي، ولم يقل في الفكر الغربي، فهو كما ينتقد النزعة الانسانوية في تمركزها حول ذات الآخر، أي الغرب، مما يجعلها مؤسسة النسانوية ذات طابع مزدوج، قائمة على مبدأ التراتبية، عليا ودنيا، منتجة بسبب ذلك للاقضاء والهيمنة والحروب، ينتقد أيضا أساسها المتمثل في ما يسميه "المعقولية الغربية"، ومن خلال ذلك الحداثة أيضا في تمظهرها الغربي، وبالتالي بوصفها خطاب سلطة، بمفهوم فوكو، أي من حيث هي أداة هيمنة وقهر للآخر. ولا مفر هنا من تذكر وذكر نقد دريدا للميتافيزيقا الغربية القائمة على فكرة المركز وما تتضمنه من معنى الهيمنة.

والواقع أن مفاهيم الانفتاح والتعدد والاختلاف والتنوع التي أقام عليها فتحي التريكي فلسفته وثيقة الارتباط بقيم ما بعد الحداثة. وقد نوه التريكي في كتابه "فلسفة الحياة اليومية" بإسهامات جيل دولوز وجاك دريدا وميشال فوكو في بلورة مفاهيم الاختلاف والغيرية والانفتاح وفي تقويض هيمنة مفهوم المركز و"فكرة الحقيقة المطلقة" وكل "محاولة لبناء مرجعية موحدة وممركزة للفلسفة".

وهنا يميز التريكي بين نقد العقل في الغرب ونقد العقل عندنا، أما نقد العقل في الغرب فكان نتيجة التطورات الحاصلة في ميدان العلم والتكنولوجيا، وقد ظهر في ثلاث أطروحات " العقلانية النقدية مع كارل بوبر،، والنظرية النقدية مع هابرماس، وأركيولوجيا المعرفة مع ميشال فوكو، وهذه الأطروحات الثلاث تتفق علي أن الشكل الذي اتخذه العقل في الغرب كان استبعاديا ومنغلقا وأحيانا فتاكا وقاتلا وهي تحاول إعادة بناء الإنسان الغربي عن طريق التحريرية الكاملة (بوبر) وإعادة بناء العقل على الانفتاح والتنوع (هابرماس) والاعتناء بالذات (فوكو) .

أما نقد العقل عندنا فقد كان له توجها دينيا يتصل باللاهوت والتصوف رغم وجود أشكال أخرى كالنقد العلمي والفلسفي والتاريخي، لقد اتخذ نقد العقل عندنا حاليا حسب التريكي أشكال ثلاثة، ثقافي، وصوفي، وعلمي:

1-الأتجاه الثقافي: ويمثله برهان غليون في " كتابه " اغتيال العقل"، ومحمد عابد الجابري في كتابه "نقد العقل العربي، ومفهوم العقل في الكتابين بقي في نظر التريكي غامضا، حيث إن الكتاب الأول استعمل مفهوم العقل لنقد التوجهات السلفية والإيديولوجية بدون إخضاع العقل للبحث والدراسة.

2-الاتجاه الديني: ويمثله طه عبد الرحمن حيث برز مفهوم العقل في مؤلفه " العمل الديني وتجديد العقل "، ومن بين مواقفه حول العقل هو قوله:" هذا ما نشاهده عند أهل العقل المجرد فأنهم زعموا لأنهم ينالون من وسائل التمتع والإسعاد علىقدر تزايد إلتزامهم فيها يقولون وما يفعلون بمقتضيات النظر المجرد ووضوح البطلان هذا الزعم يغني عن بسط الكلام، فما تعانيه الإنسانية من التعثر والتكدر بسبب تعاطي التجريد العقلي والمزايدة فيه أظهر من أن يوصف ويعلل، أما أهل العقل المسدد فقد تجر عليهم الزيادة في الأعمال بعض الآفات ما بقيت أعمالهم حبيسة الإقامة بالجوارح وحدها ولم ترقي إلى مستوى المعاناة بالجوارح .

ولقد انتقد التريكي هذا الموقف انتقادا لاذعا مؤكدا أنه إنجاز عن المنهجية العلمية حيث أقر التضاد بين العقل والنقل، وأقر بضرروة الإيمان، وذلك بإضغان العقل وقيمته، وجعل من نشاط العقل محدودا ومقتصرا على ميادين معينة .

3- الاتجاه العملي: وهو أهم الاتجاهات الثلاث، إلا أن البحوث فيه قليلة في نظر التريكي الذي يصنف البحوث في هذا الاتجاه إلى صنفين: القسم الأول: ويمثله محمد المصباحي واهتم ببيان تشكل العقل تاريخيا في الفلسفة والعلوم .. وأما الصنف الثاني فيمثله يوسف كرم وزكي نجيب محمود، حيث أدي هذا التوجه دورا علميا فعالا لدراسة العقل من حيث تمظهراته المختلفة .

وفي كتاب " الروح التاريخي في الحضارة العربية الإسلامية يعود بنا التريكي إلي الحنين الذب يفوق بنا كل تقدير إلى الماضي، أو كما يقول التريكي في أول جملة من المقدمة إلى تاريخية الإنسان العربي التي لم تدرسها الفلسفة إلا نادرا (ص 10) . وليس هذا العود وقوفا على الأطلال، بل هو تجاوز لسهو شل الذاكرة العربية عن النظر فيما به تتكون كتاريخ، إنه إفشاء للمكبوت وللمسكوت عنه العربي إلى ذاته، أي إعادة التاريخية العربية إلى ذاتها بعد أن اختلسها الفكر الآخر وطمسها.

ولن يتم تحقيق ذلك إلا بفلسفة عربية منفتحة على التاريخ العربي، وعلى هموم العقل العربي، تلك الهموم التي كانت الفلسفة العربية الإسلامية تقصيها من محال بحثها، لأن هذه الفلسفة المتفتحة تزودنا بمنهج متنوع وشامل يخصب بحثنا عوضا عن تلك المناهج الأحادية التي تكبله فتلقي به في متاهات الصراعات الإيديولوجية المجانية .

إنه مشروع فلسفي رغم التواضع الذي يبديه التريكي في أكثر من مكان في كتابه، وذلك أتاحت له تعاريج الكلام وثنايا التحليل فرصة التذكير بهدفه من دراسته للفكر التاريخي عند العرب، فيعمد إلى "تبديد كل خلاف" (ص 12) واختلاف حول الهدف الذي رسمه لهذه الدراسة.

ولم يكتف التريكي بذلك بل نراه بعطي نفسا جديدا إلى الفلسفة العربية – الإسلامية وذلك بتلقيح مخلفات فلاسفتها ومفكريها باكتشافات الحداثة، فيربك الفارابي إلي جانب ماسينون، والماوردي إلى جانب مارتن هيدجر، وابن مسكوية مع جاستون باشلار في إخراج مغر كله نقد وتمحيص وجدال.

ومن هذا المنطلق نتساءل الآن: هل يتجه الواقع العالمي المعاصر إلى التآنس والعيش معا ؟ .. وهنا يجيبنا التريكي بأننا لا نعتقد ذلك لأن التآنس والعيش معا يعني أن المعقولية الغربية تسير نحو ذوبانها، لذا نراها مشدودة إلى العنف والتواصل ولا تتجه إلى أي نوع من التآنس، ولنها كذلك وباختصار معقولية تقوم على التصادم لا التواصل لذا يمك تحقيق مسعانا نحو التآنس والعيش معا عبر مفهوم جديد يقترحه التريكي يمكن أن نفتح من خلاله أفاقا تحقق سعادة الكل هو مفهوم التثاقف أو التثاقفية .

وفي مداخلة حول الصداقة ألقاها التريكي بمناسبة الذكري الأولي لليوم الوطني للفلسفة في الجزائر، نبه التريكي إلى أن هناك تناقض في منطق العولمة، حيث أننا نسير في نظره باتجاه هوة أو شرخ في الإنسانية ذاتها فهناك إنسانية أولي " الاتحاد الأوربي" تنتقل بحرية ومتحررة من الضغوط وإنسانية ثانية تثبل الضغوط وتفكر برخص وتعبر برقابة وتعيش بانتماء وعبودية وهي بكل هذا تصبح غربية .

وأخيرا، من باب الخلاصة، بعد هذا المقاربة المتواضعة لفلسفة التريكي، أن هذه الأخيرة، ورغم تأسسها على مفهوم الانفتاح و"التشرد"، إلا أنها تبدو، كما سبق وأن أشرنا في البداية، مترابطة ومتماسكة الأركان داخليا، مما يجعلها تحمل من هذا الجانب طابع الفلسفة النسقية. كما يمكن القول بأن فلسفة التريكي وثيقة الارتباط في الحقيقة بتجربة العالم الذي ينتمي إليه، عالم الأطراف في علاقته بعالم "المركز"، مما يفسر كونها فلسفة نقد واحتجاج واعادة بناء، أي تعبيرا عن رؤية "الهامش" إلى العالم. لكن في تركيز فلسفته على نقد عالم "المركز"، متمثلا في "المعقولية الغربية" التي يجعلها هذا المفهوم تحمل، في الواقع، قدرا من الاختزال، لم تحظ في المقابل "المعقولية العربية" التي تتشكل هي بدورها من "معقوليات"، ربما بالقدر الكافي من التحليل والنقد، خاصة وأن التريكي عالجها أساسا من حيث علاقتها بالتراث، بينما العالم العربي يعاني من مشاكل يعود بعضها إلى ما قبل التراث، مثل التكوين القبلي الذي لا يزال يعشش على مختلف المستويات في مجتمعاتنا وفي سلوك وذهنية الإنسان العربي عموما.

فالمشكلة لا تتمثل فقط في معقولية الآخر من حيث استنادها إلى مبدأ الغلبة. بل إن المشكلة تكمن ربما بالأساس في "المعقولية العربية" التي لا تزال تنطوي على الكثير من "القابلية للاستعمار".

على أن هذا لا يقلل في شئ من أهمية فلسفة التريكي "النقدية المفتوحة" على "الضيافة"، هذه الفلسفة القائمة على النسبية، التي هي في صميمها فلسفة تحررية، تعبر عن ذلك الطموح التاريخي العميق الذي خرجت الشعوب العربية من أجله عام 2011 .

لهذا نتفهم جيدا حديث التريكي في كتاب "جمالية العيش المشترك" عن سعادته التي "لا توصف عندما، مبادئ العقل والحرية والكرامة التي عملت فلسفته على اعتمدت جماهير الثورة إرسائها وتكريسها عبر مختلف كتبه ومؤلفاته.

 

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..........................

الهوامش

1- فتحي التريكي، الفلسفة الشريدة، دار "التنوير"، 2009 .

2- -فتحي التريكي، فلسفة التنوع، دار التنوير، تونس، 2009 .

3- فتحي التريكي، الهوية ورهاناتها، ترجمة نور الدين الساقي وزهير المدنيني، الدار المتوسطية للنشر، تونس – لبنان، 2010 .

4- عبد اهلل المسيري وفتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، دار الفكر المعاصر، دار الفكر، لبنان، 2003 .

5- د. خان جمال: فكرة الوحدة ومعقولية التنوع، منشور ضمن كتاب العيش سويا قراءات في فكر فتحي التريكي، أوراق فلسفية (15)، دار الثقافة العربية، القاهرةن 2006.

6- ابراهيم سعدي: قراءة أولية في فلسفة المفكر التونسي فتحي التريكي، جامعة مولود معمري- تيزي وزو،

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم