صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: كريستيان هيغنس عالِم بين الفلاسفة

حاتم حميد محسنعندما توفي الفلكي والفيزيائي الهولندي كريستيان هيغنس Huygens عام 1695 في سن السادسة والستين، اعتبر الفيلسوف الألماني غوتفريد فون لايبنتس تلك الوفاة خسارة فادحة لاتقدر بثمن، ووضعه في مصاف غاليلو وديكارت. كتب لايبنتس "بفضل ما قاما به هو تجاوز اكتشافاتهما، لقد كان احد لئالئ العصر الكبيرة". في الحقيقة، اكتشف هيغنس الحلقات حول كوكب زحل واكتشف اول قمر للكوكب. هو ايضا صنع اول ساعة دقيقة من بين العديد من الابتكارات الاخرى. وصف هيغنتس قوة الطرد المركزية بانها اول استخدام للصيغة الرياضية في حل مشاكل الفيزياء، كما ابتكر نظرية الضوء المرتكز على الموجة. لكن وبسبب المعاصر له اسحق نيوتن تجاهلنا الكثير من انجازاته اليوم. من المألوف، ان نيوتن فشل في الاعتراف بمساهمات الآخرين في اكتشافاته، وكان هيغنس من بين اولئك الذين جرى تجاهلهم. هذا، الى جانب عبقرية نيوتن التي ترسخت خلال القرن الثامن عشر، ادّى الى ان تتفوق نظرية الجسيمات المعيبة في الضوء لنيوتن على نسخة هيغنس، والى الإضرار في تقدم البصريات في القرن اللاحق، حيث ثبت وبالضد من نظرية نيوتن ان  نظرية الموجة لهيغنس كانت صحيحة تماما.

ايضا وعلى عكس نيوتن، الذي لم يسافر ابدا الى ما وراء لندن وكامبردج، كانت لهيغنس ارتباطات جيدة عالميا في مجال العلوم. هو عُيّن من قبل وزير مالية لويس الرابع عشر Jean Baptiste، ليدير اكاديمية العلوم الفرنسية الجديدة ولكي يصبح ايضا اول اجنبي عضو في الجمعية الملكية للعلوم في بريطانيا. حافظ هيغنتس على تعاون ومراسلات مع الفلكيين والرياضيين والعلماء في كل اوربا. ساعد مكان اقامته في لاهاي، في قلب هولندا المزدهرة والمتسامحة، بدون شك، في الاستفادة من الحركة المستمرة للمفكرين الذين يمرون عبرها او الباحثين عن لجوء هناك فرارا من اضطهاد سياسي او ديني . التبادل الفكري لهيغنس ايضا ضم عدد من اهم الفلاسفة في ذلك العصر. تفاعله مع الفلاسفة كان من عدة انواع. اولا، كان هناك المهتمون في الاسئلة العلمية، الذين وفروا الالهام واحيانا، التعاون.  وهناك قسم من الفلاسفة الذين رغبوا في التمكن من الطرق الرياضية ، لدقتها وصرامتها، او انهم شعروا بالحاجة لفهم الاسس العلمية للظواهر الطبيعية  فقط لتجنّب الخطأ في توضيح أفكارهم الشخصية. وهناك آخرون  شعر هيغنس ذاته في انسجام فكري معهم.

ديكارت

مما لا شك فيه، كان لديكارت التأثير الكبير على حياة وعمل هيغنس، كان ديكارت قد فر من فرنسا الى جمهورية هولندا عام 1629، وهي نفس السنة التي وُلد فيها هيغنس. اصبح ديكارت  صديقا لأبو هيغنس (كونستانتين) الشاعر والدبلوماسي في البيت الملكي الهولندي الحاكم. هما عملا مجتمعين في محاولة (غير موفقة) لتصميم عدسة فلكية اكثر دقة، كان كونستانتين قادرا على استعمال ارتباطاته المؤثرة لضمان نشر رسالة ديكارت "خطاب في الطريقة"عام 1637  في كل من هولندا وفرنسا. ومن خلال تأثير ابوه  ومعلمه في الرياضيات ،اصبح هيغنس مقتنعا بديكارت. عندما كان ولدا، قرأ كتاب ديكارت مبادئ الفلسفة الذي نُشر عام 1644. في هذا الكتاب،وضع ديكارت نظرياته العلمية. هيغنس استجاب لمنطقه ووضوحه، بالاضافة لجرأة ديكارت وطموحه لبناء فهم جديد وعالمي للطبيعة. رغم ان هيغنس كبالغ لم يقابل ابدا ديكارت في هولندا،فهو اصبح معجبا جدا بديكارت الذي في عام 1649، بعد اكمال دراسته في الكلية،  بدأ رحلة للبحث عنه في ستوكهولم في السويد، حيث  كان عادة يدرّس الفلسفة للملكة. غير ان، الرحلة لم تُستكمل ،وفي السنة اللاحقة علم هيغنس ان ديكارت قد مات.

 ومع التقدم العلمي الحاصل في عمل هيغنس المهني، قاده عمله المتنامي  ليدرك ان ديكارت  لم يكن دائما سليما عند التعامل مع الحقائق الملاحظة. بقي هيغنس دائما مسترشدا بالمبادئ العامة للفيلسوف، لكنه تعلّم ان يضع افكاره جانبا عندما لا تتفق مع  نتائجه التجريبية او ملاحظاته المباشرة. في نهاية حياته، سُئل هيغنس عن تعليقه على اول سيرة نُشرت لديكارت. كتب:

"السيد ديكارت وجد طريقة لعمل تخمينات وقصص للحقائق. اولئك الذين قرأوا كتابه مبادئ الفلسفة كانوا مندهشين بنفس المقدار كاولئك الذين قرأوا روايات سارة تعطي انطباعا بكونها قصص حقيقية. انها بدت لي عندما قرأت هذا الكتاب لأول مرة ان كل شيء كان يسير بشكل أفضل في العالم، وانا اعتقدت، عندما وجدت بعض الصعوبة، ان العيب كان انني لم افهم افكاره بشكل صحيح. انا كنت فقط في عمر 15 او 16. ومنذ ذلك الوقت،اكتشفت من وقت لآخر اشياءً هي بالتأكيد زائفة، واخرى باحتمال كبير، انا تغلبت على الميل القوي الذي كان لدي، والآن انا لا أجد أي شيء تقريبا استطيع اثباته كحقيقة في كل الفيزياء او الميتافيزيقا".3213 كريستيان هيغنس

سبينوزا ولايبنز

تمتّع هيغنس بمزيد من الارتباط مع باروك سبينوزا الذي اعتمد بعد طرده من جماعته اليهودية في امستردام، على المتاجرة بصقل زجاج النظارات. سبينوزا عاش في اماكن مختلفة بما فيها خارج لاهاي،قريب من المكان الذي تمتلك فيه عائلة هيغنس فيلا ،استعمل هيغنس حديقتها لملاحظاته الفلكية. ورغم ان هيغنس بنى في الاساس عدساته لتلسكوبه الخاص، هو اعترف بتفوق عمل سبينوزا وايضا اشترى منه بعض العدسات . سبينوزا كان بمعنى ما منافسا، لكنه كان ايضا متعاونا ،وهو و هيغنس احيانا تبادلا كتبا ومعلومات تقنية . في ربيع عام 1665،كان هيغنس قادرا على ان يبيّن  لسبينوزا من خلال تلسكوبه الظلال المشعة من حلقة زحل على سطح ذلك الكوكب. الصحبة غير المحتملة كانت بدأت بين التاجر اليهودي المنبوذ  والارستقراطي المرتبط بأعلى مستويات المجتمع الهولندي، من خلال جهودهما العلمية والتقنية المشتركة. هيغنس عمل احيانا مع احد اخوته في صقل العدسات . تبادلا الرسائل في اوقات عندما كانا متباعدين تشير باعتزاز لتلك الفترات التي امضياها مجتمعين،والتي كانت ربما من أسعد لحظات  حياة هيغنس. هناك مظهر تأملي للعمل يناسب بوضوح كل من اخوة هيغنس في صحبتهم ، بالاضافة الى سبينوزا في عزلته التأملية. بينما استكشف هيغنس وسائل أتمتة أجزاء من العملية، سبينوزا عُرف عنه تفضيله لإجراء يدوي تام ،بواسطته بقي قادرا على إجراء أدق التعديلات باللمس. ربما سبينوزا وجد هذا العمل الصبور يقود الى عمليات فكرية ضرورية لخلق الأعمال الفلسفية الانسانية مثل (الأخلاق،1677). بالتأكيد، من الواضح من كتابات سبينوزا الشخصية ان لا وجود في ذهنه لأي فصل  بين هذا العمل التطبيقي وتطوير فلسفته. من ناحيته، هيغنس ربما تأثر برؤية سبينوزا عن الله كطبيعة، والتي تبدو لمحات منها في بعض كتابات هيغنس اللاحقة، بما في ذلك كتاب تأمل طويل حول الحياة على كواكب اخرى.

الفلسفة الهامة الاخرى التي كان فيها لهيغنس تعامل شخصي وثيق  كانت فلسفة لايبنز، الذي وصل الى باريس عام 1670 كمبعوث لأحد ناخبي مينز  في بعثة سلام،وهو بعمر 26 عاما،لكن بقي هناك لدراسة الرياضيات مع هيغنس. لايبنز تجاوز معلمه بسرعة ، بالطبع، اصبح مشهورا كمخترع مشارك(مع نيوتن) بالتفاضل والتكامل،من بين انجازات متنوعة اخرى في الرياضيات، رغم انه كان اقل نجاحا في جهوده كعالم تجريبي ومخترع.

لكن الرجلين بقيا اصدقاء، ولايبنز عادة طلب موافقة هيغنس ، خاصة فيما يتعلق بعمله في الهندسة،التي كان فيها هيغنس ضالعا . هما ايضا اجريا مقارنات لملاحظات في موضوعات ثقيلة كتصور سبينوزا للّه، والتي وجدها لايبنز غير مقنعة، وافكار نيوتن حول المدارات البيضوية للكواكب. هنا أدّى الغياب الظاهر للسبب الطبيعي للجاذبية بين الاجسام الثقيلة الى ازعاج  كلا الرجلين.

هوبز

من الواضح ان هيغنس اصبح منخرطا مع شخصيات بارزة تخيلوا أنفسهم كرياضيين او علماء. اسوأ الحالات كانت الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز. كان هوبز نادرا بين أقرانه في اعتبار الرياضيات عنصرا اساسيا في التفكير الفلسفي، وهو لطالما أعجب بأعمال الشاب هيغنس في هذا الحقل. لسوء الحظ، رغم ان حماسة هوبز تخطت قدراته. كان هيغنس من بين عدد من الرياضيين الذين وجدوا انفسهم ملزمين للاشارة للأخطاء في محاولات هوبز في البراهين الهندسية لمعضلات مثل تربيع الدائرة. هيغنس "لم يجد اي شيء مقنع، بل فقط رؤى خالصة" هو كتب الى زميل اسكتلندي في احدى محاولات هوبز في البرهان الهندسي، "بحكم كونها سخيفة، اصبحت مثارا للسخرية". لكن هيغنس كان قلقا من انه في محاولاته تفنيد رياضيات هوبز هو ربما فقط يجذب الانتباه الى أخطاء الرجل المضللة.

احدى الصعوبات الاخرى مع هوبز هي المتعلقة بالأعداد اللاعقلانية Irrational numbers التي تبرز في التمارين الرياضية المتقدمة. الاعداد اللاعقلانية هي اعداد لايمكن التعبير عنها كنسبة بين عددين صحيحين، مثلا، العدد 2/3 يتم التعبير عنه بتكرار لا متناهي كـ 0.66666. كان هوبز ضد هذه الاعداد، بينما العديد من الرياضيين لم تكن لديهم مشكلة في الاعتراف بوجودها وأهميتها.

عانى هوبز ايضا من مشاكل في اكتشافات معينة في العالم الفيزيائي. تفكير الفيلسوف الزائف المتعلق بأبعاد حلقة زحل خلقت له انتقاد قوي من جانب هيغنس.

في واحدة من أعمال هيغنس المشتركة العظيمة في الفيزياء،هي في مضخة الهواء  بالتعاون مع روبرت بويل وآخرين في الجمعية الملكية. كانت هذه وسيلة نظرية قادرة على خلق فراغ، وهو ما أثار قضايا ثيولوجية وسياسية لهوبز: اذا كان الله متغلغل في كل مكان،استنتج هوبز ان أي مكان متبقي هو فراغ تملؤه الشياطين. ولذلك،فان مثل هكذا مكان لا يمكن السماح له بالوجود.

بايل و لوك Bayle&Locke

علاقات هيغنس توثقت مع شخص آخر ليس عالما وهو الفيلسوف البروتستانتي بيير بايل. كانت لهيغنس معرفة سابقة به في باريس. بايل هرب الى روتردام بعد الغاء مرسوم نانت في التسامح لعام 1685. معترفا بسذاجته في الحقل، سأل بايل هيغنس عن الوسيلة الضرورية لتقدير الاختلاف في موقع الجسم عندما يُنظر اليه من خطين مختلفين للرؤية، لكي نحكم على كل من المواقع الحقيقية والظاهرة للنجوم. في عام 1691، كتب هيغنس له: " انت لست مثل غالبية الفلاسفة الذين يستفيدون من اكتشافات الفلكيين بدون معرفة كيفية اكتشافها". أفكاره العقلانية تماما حول المذنبات واجهت احتجاجات في هولندا الليبرالية قادت الى ايقاف راتبه كبروفيسور لفترة من الزمن.

قبل ذلك بسنة كان هيغنس ارسل نسخا من كتابه المنشور توا (رسالة حول الضوء) الى زملاء علميين بالاضافة الى بايل ولايبنز وجون لوك. العمل كان خلاصة لتفكير طويل عن طبيعة وسلوك الضوء وبصريات نيوتن في الـ 14 سنة السابقة. رد لوك بارسال مقال الى هيغنس وهو مقال يتعلق بالفهم الانساني،. قرأ هيغنس المقال بسرور بالغ ، وجد هناك قوة ذهن كبيرة مع وضوح واسلوب عالي لايمتلكه جميع اولئك الذين في البلد الانجليزي".

التقى هيغنس لوك لفترة وجيزة عندما زار لندن بعد الثورة المجيدة(1) . هيغنس كتب لاحقا انه منزعج من عدم معرفته بلوك بشكل افضل، لأنهما لديهما الكثير مما هو بحاجة للنقاش. تجريبية لوك تدين كثيرا لفرنسيس باكون الذي اتّبع هيغنس طريقته التجريبية وكان معارضا للتفكير القبلي الديكارتي في القضايا العلمية الملاحظة - ذلك النوع من التفكير الذي أجبر هيغنس للتخلي عن بطله الفلسفي الشاب. وفي تناقض مع ديكارت، اقترح لوك ان المكان متميز عن الأجسام التي فيه، بينما هيغنس نفسه افترض فكرة مبكرة للنسبية مرتكزة على فكرة ان كل حركة للشيء هي نسبية للاشياء الاخرى، ولا وجود هناك لاطار مرجعي للمكان.

في القرن السابع عشر،كان من المألوف، ان العلماء يحتكون بالفلاسفة ، العلماء اُطلق عليهم "الفلاسفة الطبيعيين". ولكن ماذا كسب هيغنس من التفاعل مع اولئك الفلسفيين اللامعين؟ التجربة لم تحوّله الى فلسفي . وفق مستويات أقرانه، بقي عمله  متأسسا بشكل ملحوظ في العالم المادي الملاحظ. ولكن ربما عزز من رؤيته للعالم، خاصة في فكرة ان العمل يجب ان يُوجّه نحو غايات مفيدة وجيدة، وان أي إله بالتأكيد "يعمل طبقا لقوانين الطبيعة الثابتة".

 

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) في الثورة المجيدة 1688-1689 عُزل الملك الكاثوليكي جيمس الثاني في انجلترا لتخلفه ابنته البروتسانتية ماريا الثانية وزوجها الهولندي الامير وليم الثالث. عندما تسلّم جيمس الثاني عرش انجلترا عام 1685، كانت هناك سلفا توترات بين الكاثوليك والبوتستانت واتخذت منحى سيئا. الكاثوليكي جيمس الثاني وسّع الحريات الدينية للكاثوليك وفضّلهم في التعيين بالمناصب العسكرية. هذا السلوك أغضب العديد من الانجليز وخلق انشقاقا بين الملك والبرلمان البريطاني. في سنة 1687 حلّ جيمس الثاني البرلمان وحاول خلق برلمان جديد لايعارض او يسائل حكمه المطلق القائم على الحق الديني. كانت بنت جيمس البروتستانتية ماريا الثانية بقيت هي الوحيدة لها الحق في وراثة عرش انجلترا، وكانت قد تزوجت من وليم الثالث عام 1677. كان وليم الثالث قد خطّط منذ وقت طويل لغزو انجلترا للاطاحة بجيمس الثاني. اراد وليم قبل الغزو ان يضمن الدعم من انجلترا ذاتها. وفي عام 1688،كتب سبعة من زملاء جيمس تعهدا لوليم يعلنون فيه دعمهم له لو غزا انجلترا. وفي نوفمبر من نفس العام بدأ وليم بالغزو، حيث انضم عدد من جنود جيمس وانصاره الى وليم فاضطر بعدها جيمس للهروب من انجلترا والتخلي عن العرش، فدخل وليم لندن في نفس اليوم  18 ديسمبر1688. وهكذا وبفعل عوامل سياسية ودينية قادت الثورة الى لائحة الحقوق الانجليزية لعام 1689 فغيرت الى الأبد طريقة حكم انجلترا، حيث حصل البرلمان على المزيد من السلطات تجاه السلطة الملكية السابقة المطلقة ووضعت الأساس لديمقراطية سياسية حديثة. 

                             

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم