صحيفة المثقف

محمود محمد علي: سميرة موسى.. أيقونة علم الذرة في مصر والعالم العربي

محمود محمد عليافتقرت الفيزياء النووية عبر تاريخها لأصوات نسوية استطعن أن يخترقن القلاع العلمية المشيّدة بإحكام من قبل الوعي الذكوري المتغطرس، بل تكاد تخلو القواميس المعرّفة بالعلماء من أسماء عالمات سجّلن حضورهن على نحو متشظّي عبر محطات تاريخ الفيزياء النووية. وقد تهاطلت العديد من الأسئلة اللاّسعة على هذا الإقصاء المتعمّد، إن لم نقل الممنهج للمرأة في أن تكون وجه آخر للمعرفة الممكنة حول قضايا أنطولوجية وأخلاقية ومعرفية تمّس الإنسان، هذا الكائن ذو الطبيعة المزدوجة.

ولكن بفضل الجهود الإصلاحية والتي جاءت مع دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة، حيث فتحت هذه الدعوة أبواب العلم الموصدة في وجوه البنات فاجتزن المراحل إلي التعليم العالي في وقت وجيز، فدخلت أفواجاً من الفتيات حرم الجامعة، وميادين العمل، والصالونات الفكرية، واخترقت المرأة بجدارة عالم الصحافة وعوالم أخري داخل الجامعات المصرية بعد جهد جهيد، وبعد غياب حضاري مزري أضر بوضع الأمة بأسرها وبمنظومتها القيمية الصانعة لمجريات التاريخ.

في تلك المرحلة برز اسم سميرة موسى حيث تعد واحدة من أفضل العالمات المصريات التي أتت في زمن كان التعليم فيه حكراً علي الرجال، فتمكنت من الدراسة ونهلت من العلم بل تفوقت وتميزت في واحدة من العلوم الدقيقة وهو علم الذرة، فهي أول عالمة ذرة مصرية، وأول معيدة في كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا)، وذلك بفضل جهود الدكتور مصطفى مشرفة الذي دافع عن تعيينها بشدة، وتجاهل احتجاجات الأساتذة الأجانب (الإنجليز).

إنها سميرة موسي المراة التي تحدت الجميع وتحدت نفسها وأثبتت بمهارتها وعِلمها أنها عبقرية فذة يندر أن ياتي الزمان بمثلها، وكانت لها آمال عظيمة حلمت أن تحققها وأن تستغل علمها لخدمة البشرية وإحلال السلام، ولكن لم يسمح لها بتحقيق ما كانت تهدف إليه فإمتدت لها يد الحقد وتم اغتيالها في حادث سيارة غامض في 15 / 8 /1952م، ومن ثم لم يُكتب لنا أن نهنأ به لأن هناك مَنْ يريد لنا دوما ظلاما دامسا لا نرى من خلاله مسافة قدم. كانت سميرة موسى الحلم الذي كان يمكنه أن ينقل مصر ودول العرب إلى مكانة أخرى، كانت الأمل الذي تشبث به كثيرون كي يمنحنا القوة لاسترداد حقوقنا، وتحقيق السلام بطريقتنا، ولكن يبدو أن المتربصين أرادوا أن نعيش مستقبلا بائسا يخلو من الأحلام.

ولدت سميرة موسي في الثالث من مارس لعام 1917م حيث ولدت في قرية سنبو الكبرى مركز زفتى بمحافظة الغربية، وفي السنة الثانية من عمرها جاءت ثورة عام 1919 لتنادي بحرية الوطن.. وفتحت سميرة عينيها على أناس قريتها الذين يجتمعون باستمرار في دار الحاج موسى يناقشون الأمور السياسية المستجدة ويرددون شعارات الاستقلال الغالية، هيأ هذا المناخ لسميرة أن تصاغ امرأة وطنية تعتز بمصريتها وعروبتها دائماً.. وعندما شبت فتاة يافعة.. وجدت تياراً آخر ينادي بحرية تعليم المرأة.. في جميع مراحل التعليم.. كان من قياداته صفية زغلول، وهدى شعراوي، ونبوية موسى، وغيرهن، إلا أن هذا التيار أثر تأثيراً غير مباشر على تقدم سميرة في علمها.. وضحى والدها الحاج موسى بكثير من التقاليد السائدة ليقف إلى جانب ابنته حتى تكمل مسيرتها.. وسط تشجيع من حوله بالاهتمام بهذه النابغة.

وتعلمت سميرة منذ الصغر القراءة والكتابة، وحفظت أجزاء من القرآن الكريم.. وكانت مولعة بقراءة الصحف التي لم يخل بيت أبيها منها.. وأنعم الله عليها بذاكرة قوية تؤهلها لحفظ الشيء بمجرد قراءته. في 23 نوفمبر من عام 1927، توفي سعد زغلول، وتولت الطفلة سميرة التي لم يتجاوز سنها عشر سنوات قراءة الخبر كاملاً لضيوف والدها قراءة عربية راقية.. وحينما توافد آخرون لسماع الخبر من جديد ألقته سميرة عليهم من الذاكرة دون الحاجة إلى الجريدة.

وفي زمن، يبدو فيه غريبا أن يهتم الآباء بتعليم بناتهن، كان والد سميرة موسى حريصا على أن يحظى أطفاله بتعليم جيد وثقافة واسعة، فهي وأخواتها الثلاثة التحقن بمراحل التعليم الأولى، فدرست في مدرسة سنبو بقريتها، ومع انتقال العائلة إلى القاهرة، وتحديدا بمنطقة الحسين، التي اشترى والدها فندقا بها وعمل على استثمار أمواله، استكملت سميرة تعليمها، فكانت دوما الأولى، ليس فقط في ترتيب التفوق ولكن في الخطوات التي اتخذتها، أنهت مرحلة التعليم الأساسي في مدرسة قصر الشوق، ثم التحقت بمدرسة بنات الأشراف الثانوية، وهي المدرسة التي كانت تديرها نبوية موسى (واحدة من قامات النهضة النسائية في مصر، فكانت أول فتاة تحصل على شهادة البكالوريا، وأول ناظرة لمدرسة مصرية وكاتبة وأديبة أيضا)، وكان ذلك واحد من المحطات التي أثرت على مشوار سميرة موسى.

كانت سميرة موسي دوما الأولى، ليس فقط في ترتيب التفوق ولكن في الخطوات التي اتخذتها، أنهت مرحلة التعليم الأساسي في مدرسة قصر الشوق، ثم التحقت بمدرسة بنات الأشراف الثانوية، وهي المدرسة التي كانت تديرها نبوية موسى (واحدة من قامات النهضة النسائية في مصر، فكانت أول فتاة تحصل على شهادة البكالوريا.

وعقب حصولها على شهادة البكالوريا اختارت سميرة موسى كلية العلوم جامعة القاهرة، على الرغم من أن مجموعها كان يؤهلها لدخول كلية الهندسة حينما كانت أمنية أي فتاة في ذلك الوقت هي الالتحاق بـكلية الآداب، وهناك لفتت نظر أستاذها الدكتور علي مصطفى مشرفة، وهو أول مصري يتولي عمادة كلية العلوم. تأثرت به تأثرا مباشرا؛ ليس فقط من الناحية العلمية بل أيضا بالجوانب الاجتماعية في شخصيته.

كانت سميرة موسى مولعة بالقراءة. وحرصت على تكوين مكتبة كبيرة متنوعة تم التبرع بها إلى المركز القومي للبحوث.. حيث الأدب والتاريخ وخاصة كتب السير الذاتية للشخصيات القيادية المتميزة. أجادت استخدام النوتة والموسيقى وفن العزف على العود، كما نمت موهبتها الأخرى في فن التصوير بتخصيص جزء من بيتها للتحميض والطبع.. وكانت تحب التريكو والحياكة وتقوم بتصميم وحياكة ملابسها بنفسها.

كما كانت سميرة موسى أول امرأة تشغل منصب المعيد بكليتها، كما كانت الأولى في تخصصات الذرة والإشعاع الذري والنووي، الذي أثار فضولها حينها، خاصة، مع الأحداث التي وقعت خلال تلك الفترة، من أحداث الحرب العالمية الثانية، وما ارتبط باستخدام السلاح النووي بها، واستخدام القنبلة النووية للفتك بسكان مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين.

وقد نالت درجة الماجستير عن "التأثير الحراري للغازات"، وأتبعتها بدرجة الدكتوراة حول "تأثيرات الأشعة السينية على المواد المختلفة" من بريطانيا، التي استكملت دراستها وأبحاثها بها حول الإشعاع النووي، ووكانت قريبة من الوصول إلى معادلة يمكنها أن تعمل على تفتيت المعادن الرخيصة مثل النحاس، وإمكانية صنع قنبلة ذرية رخيصة غير مكلفة. لم يتم تسجيل أبحاثها لهذه المعادلة، كونها لم تلق تأييدا واسعا من علماء الغرب، ففكرتها ستجعل الجميع متساوين، والحل النووي بيد الجميع، وهو ما كانت تسعى له بالفعل، أن يمتلك العرب الأدوات التي تمكنهم من فرض سلام حقيقي، واعتبرت أن ملكية السلاح النووي تساعد على تحقيق سلام بين الجميع، فيصبح للعرب كلمتهم دون إملاءات خارجية أو سيطرة من طرف على آخر بسبب التفوق في السلاح.

ولها عدة مقالات من بينها مقالة مبسطة عن الطاقة الذرية أثرها وطرق الوقاية منها شرحت فيها ماهية الذرة من حيث تاريخها وبنائها، وتحدثت عن الانشطار النووي وآثاره المدمرة.. وخواص الأشعة وتأثيرها البيولوجي؛ وقد أوضحت جانباً من فكرها العلمي في مقالة: “ما ينبغي علينا نحو العلم” حيث حثت الدكتورة سميرة الحكومات على أن تفرد للعلم المكان الأول في المجتمع، وأن تهتم بترقية الصناعات وزيادة الإنتاج والحرص على تيسير المواصلات.. كما كانت دعوتها إلى التعاون العلمي العالي على أوسع نطاق.

وقد تزامنت رغبات سميرة موسى، مع إنشاء جامعة الدول العربية، وإنشاء دولة تسمى "إسرائيل"، فأرادت لفكرتها أن تأخذ حيز التنفيذ، وعملت على عقد مؤتمر دولي "الذرة من أجل السلام"، وتمت دعوة أبرز العلماء من جميع أنحاء العالم له، وخرج المؤتمر بتوصيات تشير إلى ضرورة العمل على تشكيل لجنة للحماية من المخاطر النووية.

تقول سميرة موسي :" "أتمنى ان يكون العلاج النووي للسرطان متاحا ورخيصا مثل الإسبرين" بسبب معاناة والدتها مع هذا المرض، كما تمنت سميرة أن يكون للذرة دورها في التخلص منه، وساهمت في المساعدة في علاج مرضى السرطان في مستشفيات مختلفة، كما قامت بالمساهمة في تدشين هيئة الطاقة الذرية المصرية، واهتمت أن يكون هناك علماء مصريين متخصصون في هذا المجال، فعملت على إيفاد البعثات للخارج.

كما كانت تأمل سميرة موسي أن يكون لمصر وللوطن العربي مكان وسط هذا التقدم العلمي الكبير، حيث كانت تؤمن بأن زيادة ملكية السلاح النووي يسهم في تحقيق السلام، لأن أي دولة تتبني فكرة السلام لا بد وأن تتحدث من موقف قوة. فقد عاصرت ويلات الحرب وتجارب القنبلة الذرية التي دمّرت هيروشيما وناجازاكي في عام 1945، ولفت انتباهها الاهتمام المبكر من إسرائيل بامتلاك أسلحة الدمار الشامل وسعيها للانفراد بالتسلّح النووي في المنطقة.

كذلك قامت بتأسيس هيئة الطاقة الذرية بعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان الدولة الإسرائيلية عام 1948. كما حرصت على إيفاد البعثات للتخصص في علوم الذرة، فكانت دعواتها المتكررة إلى أهمية التسلح النووي، ومجاراة هذا المد العلمي المتنامي. كما نظمت مؤتمر الذرة من أجل السلام الذي استضافته كلية العلوم، وشارك فيه عدد كبير من علماء العالم.

وفي أوائل خمسينسات القرن الماضي حصلت سميرة موسي على منحة للدراسة في جامعة أوكردج بولاية تنيسي الأمريكية، ثم لبت دعوة عام 1952 للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من جامعة سانت لويس بولاية ميسوري، والاطلاع على المعامل المتوفرة بها، وإمكانية إجراء أبحاث داخلها، راسلت والدها حينها تخبره بما رأت: "لو كان في مصر، مثل هذه المعامل الموجودة هنا، لكنت استطعت أن أفعل أشياء كثيرة"..

واحتوت آخر رسائلها على رغبتها في أن تدشن معمل خاص بها في منطقة الهرم بالجيزة، تبدأ من خلاله تنفيذ رؤيتها للسلام، ورفضت بشكل قاطع أن تبقى في الولايات المتحدة رغم توفر الإمكانيات، وقبل عودتها إلى القاهرة، تعرضت سميرة موسى لما يمكن أن نسميه "خداعا"، والذي يبدو أن الممثلة راقية إبراهيم، الممثلة التي كانت تعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية، دور فيه، بعد أن أطلعت هذه الجهات على ما تريده سميرة.

وسرعان ما تم إرسال دعوة لسميرة موسى من أجل زيارة أحد المعامل النووية في كاليفورنيا، وذهب لاصطحابها يوم 5 أغسطس عام 1952 سائق هندي، وعلى إحدى الطرق الوعرة، التي كانت تسير بها سيارة سميرة متجهة إلى حيث تمت دعوتها، ظهرت سيارة نقل كبيرة صدمت سيارتها، وفجأة ينتهي الأمر بسميرة موسى ملقاة في واد عميق، بعد أن هرب السائق واختفى للأبد. تبين بعدها من التحقيقات، التي قُيدت ضد مجهول، أنه لم تكن هناك دعوة من الأساس، وأن السائق قام بانتحال شخصية أخرى باسم مستعار، لتزداد الشكوك حول وجود نية مسبقة للتخلص من سميرة موسى، وأن هذا تم على يد المخابرات الإسرائيلية "الموساد" حتى لا يكون هناك فرصة لمصر أن ترى النور، وتناطح بعلم واحدة من أبنائها كبار العالم. رحلت سميرة موسى وهي بعمر الـ 35 عاما، تاركة أثر لا يمكن أن يُمحى، وحصل اسمها بعد رحيلها على عدد من التكريمات، فمنحها الرئيس الراحل أنور السادات وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1981، وتم إطلاق اسمها على واحدة من مدارس وزارة التربية والتعليم بقريتها في الغربية.

وأوضحت التحريات أن السائق كان يحمل اسمًا مستعارا وأن إدارة المفاعل لم تبعث بأحد لاصطحابها، في آخر رسالة لها كانت تقول: "لقد استطعت أن أزور المعامل الذرية في أمريكا وعندما أعود إلى مصر سأقدم لبلادي خدمات جليلة في هذا الميدان وسأستطيع أن أخدم قضية السلام"، حيث كانت تنوي إنشاء معمل خاص لها في منطقة الهرم بمحافظة الجيزة.

وخلال تلك الفترة تتناولت الصحف قصتها وملفها الذي لم يغلق، وإن كانت الدلائل تشير ان المخابرات الإسرائيلية هي التي اغتالتها، جزاء لمحاولتها نقل العلم النووي إلى مصر والوطن العربي في تلك الفترة المبكرة، وقال المتحدث باسم السفارة المصرية في واشنطن اليوم: إن الآنسة سميرة موسى علي الطالبة المصرية التي تتلقى العلم في الولايات المتحدة قتلت في حادث سيارة بعد أن أتمت دراستها في جامعة “أوكردج” بولاية تنيسي الأمريكية”. هكذا.. نشر الخبر في آخر صفحة من جريدة المصري في 19 أغسطس عام 1952.. أعلن هذا الخبر وفاة الدكتورة سميرة موسى.. عالمة الذرة من قرية سنبو الكبرى.. ميس كوري الشرق.. أول معيدة في كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول.. وهكذا غربت شمس هذه العالمة الجليلة في 15 أغسطس عام 1952... سلمت إلى والدها نوتة سوداء صغيرة كانت تسجل فيها خواطرها وكانت آخر ما خطته فيها: ".. ثم غربت الشمس".

تحية طيبة لسميرة موسى التي كانت وما تزال تمثل لنا نموذجاً فذاً لعالمة الذرة الذي ماتت قبل أن يتحقق الحلم، وبرغم موتها غبنا إلا أنها نجحت في أن تعرف كيف تتعامل مع العالم المحيط بها وتسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام ؛ حيث يحاول الكثيرون فيه أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

فتحيةً أخري لسميرة موسى تلك المرأة العظيمة التي آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف تبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..........................

1-أنظر مقال سميرة موسى عالمة الذرة التي رحلت قبل أن يتحقق الحلم، مقال منشور بجريدة احكي الالكترونية.

2- سميرة موسى من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.

3- "سميرة موسى أول عالمة ذرة مصرية.. حلم أغتاله الموساد (بروفايل)". مصريات (باللغة الإنجليزية). 2017-11-01.

4-محمد عمران : سميرة موسي.. حلم لم يكتمل، مجلة حياتك، منشور بتاريخ 12/03/2014

5- أميرة عبد الهادي: من هي سميرة موسي أول عالمة ذرة ؟، آخر الأخبار.. نشر يوم الثلاثاء 07/فبراير/2017 - 08:00 م.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم