صحيفة المثقف

داود السلمان: متى صار الإنسان متفلسفًا؟

داود السلمانمقدرات الإنسان الفكريّة والذهنيّة لم تقف عند حدّ، بل هو دائم المسعى في تذليل الصعاب، يفكر بعقله ويتأمل بذهنه، ويعمل بكلتا يديه.

ومن ذلك وفي مرحلة من مراحل حياة الإنسان المتدرجة، داهمه التفكير وراح يفكر بكل ما يراه شاخصًا أمامه ويتراءى له، في الكون، وفي الوجود، وفي السماء، وفي النجوم التي تظهر في السماء، بل وفي كل الشيء، وهي ما نطلق عليها بـ "مرحلة التفلسف". والتفلسف يعني حرية التعبير والبحث والإنتاج المعرفي، التفلسف يعني البحث عن الحقائق، فالفلسفة ما هي إلّا الرغبة الطبيعية في طلب المعرفة لذاتها، ومنها انطلق اسم الفلسفة على كل علم يصل إليه العقل عن طريق النظر الفكري بعكس الأيمان الإلهي، الذي يعود الى الغيبيات والماورائيات.

والفلسفة بدورها وتوقظ الفكر المنطقي للوصول الى حقيقة موضوعية متسلسلة، وذلك بالاستدلال الصحيح والفهم والتركيب والتنظيم والتحليل والتصنيف، وبالتالي لنصل الى نتيجة موضوعية وهي المبتغى. والفيلسوف هو إنسان لا يخاف من الأسئلة الكبيرة: من أين جئنا؟ والى أين نحن ذاهبون؟ وهل ثمة مدبّر للكون؟.

وفي كتاب "مبادئ الفلسفة" الأستاذ "رابوبرت" معنى «يتفلسف» أنه يبحث في ماهية الأشياء وأصولها وعلاقة بعضها ببعض، وليس يخلو إنسان من هذا العمل وقتًا ما، فساغ لنا أن نقول: إن كل إنسان متوسط الفكر يتفلسف، وإن كل الناس فلاسفة إلى حدّ ما، مع تفاوت فيما بينهم، إلا من استعبدته شهواته، إلا أن كلمة «فيلسوف» إذا استعملت بدقة لا تطلق على من ينظر إلى الشيء أحيانًا فيتأمله ويفحصه أو يشك فيه، ثم يرى فيه رأيًا يعتقده ويتمسك به، بل كما أنَّا لا نسمي زجَّاجًا ولا قفَّالًا من أصلح في بيته لوح زجاج كُسِرَ، أو عالج قفلًا فَسَدَ، إنما الزجَّاج أو القفَّال من اتخذ ذلك العمل حرفة في حياته، ولم يقتصر على التعليم الصحيح، بل أكسبته المثابرة على العمل مرانة وبراعة، وعرف كيف يصل إلى نتيجة خير مما يصل إليها غير المتمرن بجهدٍ أقلَّ من جهدِه، فكذلك لا نسمي فيلسوفًا إلا من كان أهم أغراضه في حياته درس طبائع الأشياء وتعقلها، وعُدّته في ذلك فِكْره، وكان له بمزاولة ذلك قدرة على إدراك الأشياء بسرعة، وكما أن الصنّاع على اختلاف أنواعهم يعرفون دقائق عملهم، وإن شئت فقل ينبغي أن يعرفوا ذلك، وأن يكونوا على علم بأحدثِ ما اخترع مما يتعلق بعملهم، كذلك الفيلسوف المتخصص للفلسفة يجب أن يعرف ما وصل إليه مَنْ قبلَه، وما قالوه في المسائل التي تشغل فكره.

وبصورة عامة فالفلسفة، كما عبّروا عنها، هي حُب الحكمة؛ "فإذا كنت تعتقد أنك تحب الحكمة، فإن الفلسفة هي المجال الذي يُفترض أن تدرسه. ولكن ما هي الحكمة التي تُعلِّمُنا إياها الفلسفة؟ بالنسبة إلى سقراط، وتقريبًا كل الفلاسفة القدماء الذين جاءوا من بعده، الحكمة التي تعلمنا إياها الفلسفة تتعلق بما قد يعني عيش حياة بشرية طيبة. وكان بديهيًّا في معظم الأفكار الفلسفية القديمة أن الحياة البشرية الطيبة تكون أيضًا حياة سعيدة. وفي إطار هذا التصوُّر - الذي يوجد تعبيرٌ واضحٌ عنه لدى أرسطو، ولكنه يكون مفترضًا من قِبل المدارس الهلينستية اللاحقة مثل المدرسة الرواقية - فإن الفلسفة تسمح بتحقيق أعلى درجة من السعادة، وهي حياة التأمل الزاهد؛ ومن ثَمَّ فإن الفلسفة هي الحياة التأملية، الحياة التي توضع قيد الاختبار والفحص، ويصير الافتراض أن الحياة غير المختبرة لا تستحق أن تُعاش. وبالتالي ينبغي أن تشكِّل الفلسفة البشر، لا أن تعلِّمهم وتوجِّههم".

والتفلسف اليوم وصل إلى أوجه، بعد أن تطوّرت الفلسفة وأصبحت هناك مدارس فلسفية واتجاهات فلسفية أخرى، وتعتني بالفلسفة ودراستها دراسات موضوعيّة. فالفلسفة هي اليوم ليست بالأمس، أي قبل الف عام أو تزيد قليلا، حيث ازدادت الاتجاهات الفلسفية على ما هي عليه قبل ذلك العهد. فهناك الاتجاه العقلي. الاتجاه التجريبي، الاتجاه النقدي، الاتجاه التحليلي، والاتجاه البراغماتي، والوجودي وغير ذلك.

وثمة من تحدث عن أهمية الفلسفة من خلال مفهومين: من جهة أهميتها للفرد، ثم من جهة أهميتها للمجتمع، بالنسبة للفرد تكمن أهمية الفلسفة، في مساعدتها للفرد على معرفة ذاته والعالم وفهمهما، ثم تنمية قدرته على التفكير، واستثمارها من أجل إيجاد حلول للمشكلات التي تعترضه في حياته اليومية أو المهنية أو غيرها، كما أن الفلسفة تشبع الرغبة الطبيعية للفرد في اكتساب المعرفة وتحصيلها. أما فيما يخص أهميتها بالنسبة للمجتمع، فإننا نجد أغلب المؤسسات المدنية تعتمد على الأفكار الفلسفية في صياغة قرارتها التنظيمية وغيرها، كما أنها تمثل إحدى ركائز بناء الحضارة الإنسانية، فالتفكير الفلسفي يمكّن الانسان من نقد وتحليل الواقع الاجتماعي وعلاج مشكلاته، إضافة إلى ذلك، نجد بأن الأنظمة التربوية تعمل على بناء الأفكار الفلسفية التي يؤمن بها المجتمع، لاسيما المجتمعات الناهضة والمتطورة، التي تنظر الى الحياة إلى انها آخذة بالتطور مع تقدم الزمن.

واذا تطرقنا الى الفلسفة الحديثة والمعاصرة سنرى أنّ الفلسفة قد تشعبت حتى لقد عالجت هذه الفلسفة، قضايا فكرية معقدة وعويصة، وبزغ عن ذلك فكر أصيل ينظر الى المستقبل، فضلا عن الحاضر نظرية تفاؤلية، نظرة دحضت جميع الأفكار القديمة والنظريات المستهلكة، فضل عمّا توصل اليه إنسان اليوم من فكر ثر استوعب جميع الأسئلة المطروحة على سوح الفكر الفلسفي، نتيجة تطور عوامل الزمن، وتقدم العلوم الحديثة وفق آيات جديدة، ومناهج متقدمة، وأطر واسعة، فأن عقلية إنسان اليوم هي ليست عقلية قبل مئات السنين، يوم كان الإنسان ينظر من منظار ضيق الى القضايا المطروحة على الساحة الفكرية والفلسفية.

فمثلا قد تأثر نيوتن بالفلسفة الميكانيكية، وكان يفكر بميل القمر للانحسار، كما افترض وجود مدار دائري وعلاقة مربعة عكسية تساوي وتضاد بعض القيود الميكانيكية غير المعروفة لنظرية كبلر الثالثة، ووضع معادلة قوة الطرد المركزي التي تنص على أن" قوة الطرد المركزي على الجسم الدوار تتناسب طرديًا مع مربع سرعته وعكسيًا مع نصف قطر مداره". وكانت نظرية نيوتن للضوء قائمة على أن الضوء على خلاف الصوت ينتقل على شكل خطوط مستقيمة.

أما ما طرحه رينيه ديكارت في الفكر الفلسفي فهو ما لا يختلف عليه أثنان وتوصل ديكارت في وقت مبكّر  إلى منهج خاص، وقد ظهر هذا المنهج بأشكال متنوّعة في عمله بمجالات الرياضيات والفلسفة الطبيعية والميتافيزيقا، وفي المرحلة الأخيرة من حياته ضمّنه منهج الشكّ، أو ألحقه به. وفي أيّام ديكارت كان المثقّفون يعدّونه من كبار علماء الرياضيات، وعالمًا استطاع أن يطوّر فيزياء (أو نظرية للطبيعة) جديدة وشاملة لا تستثني الكائنات الحية، وفيلسوفًا اقترح ميتافيزيقا جديدة. وفي مرحلة من مراحل حياته اكتشف ديكارت الفكرة الرئيسية التي تتيح الهندسة التحليلية، وهي تتلخّص في تقنية وصف الخطوط، مهما كان نوعها، باستخدام معادلات رياضية تتضمّن نسبًا بين الأطوال.

ثمُ جاء بعد ذلك إيمانويل كانت بمنهج جديد هو المنهج النقدي، وبه غيّر كانت طبيعة الفلسفة الحديثة تغييرًا جذريًا، وأثر منهجه في الفلسفة المعاصرة، إذ أحدثت ما أسماه الفلاسفة، الثورة الكوبيرنيكية في مجال المعرفة، سواء على مستوى المنهج أو التصور أو المضامين والنتائج، ففلسفته اتسمت بالنقد، نقد العقل المحض، وتبيان حدوده، ونقد المعرفة، بإبراز شروط إمكان تحققها، انتقد الخلط بين مجال المعرفة النظرية والتطبيقية، حيث العلوم الطبيعية، ومجال الديني- الأخلاقي، دافع عن العقل التنويري المنفتح، وفضح تناقضات الفكر الميتافيزيقي، كاشفا عن عيوبه وأوهامه وتهافته، واصفا الميتافيزيقا بالعجوز الشمطاء التي كانت تتباهى بجمالها، وقد صارت الآن منعزلة عن العلوم، بينما العلوم الطبيعية تتقد وتتقدم بشكل رهيب، انتقد كانت الأخلاق السائدة، هدفه إعادة فهم وتأويل علاقة الدين بالفلسفة، والدين بالإنسان، منتقدا الممارسة الدينية التعسفية، ساعيا إلى إعادة تأسيس الدين على ضوء مبادئ الأخلاق العملية، حيث العقل العملي والإرادة الخيرة والأوامر الاخلاقية المطلقة وغير المشروطة بمنفعة ذاتية أو غيرية.

ولا ريب في أنّ كانْت كان فيلسوفًا عقلانيًّا إلى حدٍّ مفرط، يترك مساحةً قليلة جدًّا للاهتمامات التي تعطي معنًى لحياة الناس، لكن في تعيينه لحدودِ ما يمكن للفلسفة أن تزعمه بطريقة مبررة، فإنه يكون مدفوعًا أيضًا باتجاهٍ يتجاوز تلك الحدود.

 

داود السلمان

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم