صحيفة المثقف

إنتزال الجبوري: القلمُ ترجُمانُ الذات

القلم لفظ مشترك لمفهوم ذي مصاديق متعددة يتصدّرها القلم الذي ذكره القرآن الكريم في أول سورة منه كأوّلِ أداة تكمن أهميتها في تقييد العلم بالتدوين (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[1]. أمر الله بالقراءة، ومن ثم الكتابة، وكأنه يؤكد على أن لغة الخطاب الشفاهية لوحدها غير كافية ما لم تُقيّد بالتدوين؛ فقرن القراءة بالكتابة حينما ذكر القلم لضرورته في تدوين ما يُقرأ. وأقسم به  الله جل وعلا في سورة القلم (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)[2]؛ ف(ن)-حسب بعض المفسرين- هي الدواة(المحبرة) أيّا كان نوعها، و(القلم) في الآية الكريمة هو القلم الذي نكتب به أيا كان نوعه. حرف النون هو الحرف الوحيد الشبيه بالمحبرة التي تُلازم وجود القلم؛ فمنها يستمد قوته لكي يكتب على الورق، (وما يسطرون)، وما يكتبون أو يعبّرون. والقرآن الكريم نزل بعد اختراع الإنسان القلم بصورته البدائية والدواة.

أورد العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسيره الميزان معنى القلم في الآية؛ موضّحا أن القلم هو مطلق القلم وما يسطر به من الكتابة، وقد أقسم به المولى؛ لأنه من أكبر النعم العظيمة التي وهبها الله لخلقه[3].

يُطلق لفظ القلم أيضا على أداة أوجدها الإنسان لتكون وسيلة التدوين لما يجول في خلده من مشاعر، وأفكار، ورغبات، وآمال، وآلام، وطموحات، ومنجزات، وعما يدور في محيطه من أحداث، ومن ثم توسّعت وظيفة القلم حتى صار يدوّن للإنسانية لغاتها، وأديانها، وشرائعها، ومعتقداتها، وتواريخها، وحضاراتها، وأحداثها، وعلومها، ومعارفها، وفنونها، ومنجزاتها، ويرسم به الإنسان نظم حياته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، ويؤرشف في كل حقل منها. ويبقى القلم يكتب ما دامت الحياة البشرية.

ولضرورة القلم في حياة الإنسان فقد أوجده بصورته البدائية؛ فكان الإصبع هو باكورة تاريخ القلم؛ وأول قلم كتب به الإنسان، حينما كان يقتل الحيوان، ويغمس في دمه إصبعه، ومن ثم يكتب به على جلود الحيوانات، أو جذوع الأشجار، أو الأحجار، أو جدران الكهوف. وكانت الكتابة عبارة عن صور، ورسوم، ورموز للتعبير عن مراد الإنسان، واستمر الإنسان يرسم لآلاف السنين. ومن ثم نشأ القلم السومري في القرن الرابع قبل الميلاد أداةً للتدوين، في بلاد الرافدين؛ وكان بصورته الأولى عبارة عن عود قصبي كتب به السومريون على ألواح من الطين اللزج، ومن ثم تركوها لتجف تحت ضوء الشمس. السومريون تصدّروا العالم فدوّنوا أفكارهم، ونظرياتهم، ومعتقداتهم، ومنجزاتهم[4]. "أما خير ما فعله السومريون فهو أنهم انشؤوا وطورّوا بالتدريج طريقة للكتابة بقلم القصب، وعلى الطين، مكّنت الإنسان لأول مرة في التاريخ من أن يدوّن، ويخلّد أعماله، وأفكاره، وآماله، ورغباته، وأحكامه، ومعتقداته"[5]. "وازداد وضوح تدوين اللغة السومرية في ألواح الطين المكتشفة في جملة مواضع قديمة من العصر المسمى عصر فجر السلالات الثاني في حدود(2800-2700ق.م)"[6].

وتبع السومريين المصريون القدامى؛ فصنعوا القلم من نبات القصب منذ 5500 عام، والإغريق في بلاد اليونان كتبوا بريش الطيور في عام500 قبل الميلاد، وانتقلت أقلام الريش الى أوروبا، ومن ثم الريشة المعدنية في مدينة برمنغهام البريطانية عام 1830. وقيل أن عالم الكيمياء جابر بن حيان صاحب الريادة في اختراع فكرة قلم الحبر الذي يحتوي خزان صغير، لكن لم يُكتَب لفكرته من التحقّق في عصره. وللعالم العربي عباس بن فرناس فضل اختراع قلم الحبر في القرن التاسع الميلادي، وتطورت بعدها صناعة القلم بأنواع، وأشكال متعددة، ثم تطوّر القلم حتى صار يُصنع من الخشب المُحشّى بالرصاص، ومن ثم بالحبر السائل، والحبر الجاف[7].

والقلم الحديث تطور بألوانه، وأشكاله حتى بلغ اليوم صورته الأخيرة متمثلا بالنقر على لوحة المفاتيح (الكيبورد) في الأجهزة الألكترونية، وصار البعض يستغني عن النقر على لوحة المفاتيح ببرنامج الخطاب الشفاهي، وبدوره يكتب له الجهاز الألكتروني ما يرومه بالاستعانة بالبرنامج، وهو مُتداول الآن لتسريع الأعمال، ويستعين به كبار السن، أو من يعاني من مشاكل البصر.

وقد يُستغنى عن لوحة المفاتيح ببرامج جديدة تكتب دون الاستعانة باليد في المستقبل القريب، وما يدرينا لعل الكتابة في المستقبل لا تتطلّب الإملاء على الجهاز لكي يكتب؛ إنما مجرّد التفكير بشيء ما يكتب الجهاز من تلقاء نفسه، فالعلم كل يوم يكتشف، ويقدم لنا الجديد في مختلف الحقول.

قلم الكاتب فيه وجهان صائب وخاطئ؛ فالصائب له سمات عدة منها؛ الصادق، المبدع، الملهم، المصلح، المفيد، المخلص، الأمين، المُرمّم، البنّاء، الحر، المُجدِّد. والخاطئ له سمات عدة منها؛ الكاذب، الهدّام، الضار، الأجير، الغادر، الخائن، الجارح، المؤلم، المفسد، القاتل. فالكتابة هي نتاج القلم، ولها ألوانها، وآفاقها الشاسعة الممتدة بامتداد حياة الناس، والمختلفة باختلاف سجاياهم، وبصمات نفوسهم، وأنواع عقولهم.

القلم مادة جامدة؛ لكن فيه تتجسّد روح الكاتب فيبث المعنى في نفس وعقل المتلقي أو القارئ من أمواج إيجابية إن كان صائبا، أو سلبية إن كان خاطئا. كل ما يحمله القلم من أفكار الصواب، أو الخطأ من نفس وعقل الكاتب يتلقّاها القارئ؛ فتنعكس عليه بردود فعل إيجابية أو سلبية، فالقلم إما يُثري الأنفس والعقول بما يفيض عليها من أفكار نافعة وعلوم ومعارف، وما يعكس من كرم خُلق وسلوك قويم وفضائل وقيم ومثل أصيلة ومشاعر انطوت عليها نفس مُمْليها؛ أو يُحدثُ أضرارا وكوارث وفتنا ومعارك وحروبا، تنعكس على القارئ بالألم والضرر والضجر والخطر.

وظائف القلم

لا يمكن الإلمام بوظائف وفوائد القلم، ومهما عدّدناها فإنها ممتدة، وملازمة لاحتياجات البشر التدوينية التي تتوالد باستمرار، وتتكاثر. وفي كل أطواره وأشكاله يُمثِّل القلم منذ وجود الإنسان على الأرض أداةً الغرض منها تحرير الأفكار كيفما كانت بلغة خاصة من قالبها الداخلي الى قالبها الخارجي، بعد إنتاجها كليا في فضاء الكاتب المتضمن للنفس والعقل، ونقله الى فضاء القارئ.

وللقلم دور فعّال في حياة البشرية على صعيد الفرد، والمجتمع. على صعيد الفرد  يكمن دور القلم في كشف ذات الكاتب؛ ذاته التي تترقب منه المزيد من إذكاء الوعي والفهم وإحياء الأفكار، وتعديلها، وتنظيمها، والتأمل فيها، وتحليلها، وذلك باستحثاثه لشحذ قواه الذاتية لمواجهة جادة في الميدان الثقافي العام؛ لأنه يدخل في منافسة مع آخرين بنفس الاهتمام، ويتطلب منه تنمية ذاته الخاصة، وتطويرها بشكل مستمر دائم لتثبت بقوة، ولا تنهزم. شحذ القوى الذاتية يتطلب الاطلاع الدائم على منابع المعرفة التي تشمل اللغة والأفكار، لتنمية القلم، وإذكائه المستديم بالقراءة والكتابة الدائمين؛ لأن القلم يحرر النصوص الكاشفة عن هوية الذات، وصياغتها في قوالب لغوية معينة تختلف باختلاف الأفكار التي يتداولها الكاتب في فضائه، والنتيجة القلم كاشف عن هوية الكاتب، وبالتالي شخصه. والقلم وسيلة الدفاع عن النفس، فهو سيف الكاتب؛ والكاتب لا يحتاج الى سيف للدفاع عن نفسه كما قيل.

وتتعدد وظائف القلم للكاتب فبينه وبين صاحبه علاقة دينامية بالأخذ والعطاء، فالقلم يأخذ من صاحبه حينما يمده بالغذاء المعنوي الغني المفيد الذي به ينمو ويتطور؛ وهو- كما أوردنا - القراءة والتزود من منابع العلم والمعرفة، ويعطيه القلم بما يدوّنه ويرفده من كنوز المعرفة بمختلف حقولها وفروعها، فتتحقق السعادة لدى الكاتب؛ والسعادة التي يحققها القلم حين الكتابة فيها لونان من العطاء؛ الأول إضفاء شعور السعادة على الكاتب حينما يكتب بصدق ويقظة ضمير، والثاني هو وقع القلم على نفس وعقل القارئ حينما يكون مؤثرا؛ لأن القارئ يُشارك الكاتب إنجازه فتتحقق الفائدة لديه، ومن يكتب دون أن يتحقق شعور الفائدة، والارتياح، والسعادة على نفسه وعلى القارئ، فهذا يعني أن الكتابة تستنزف عقله ونفسه، فالكتابة الحقيقية هي التي تعطي، ولا تأخذ.

وعلى صعيد المجتمع فإن للقلم دورا فعالا في تدوين، وأرشفة حياة المجتمعات. وللقلم وظيفة مقدسة حيث دُوّنت به الكتب السماوية، وشرائع الأديان على اختلافها. أهمية القلم الكبرى هي حفظ أديان، وتراث، وتاريخ، وحضارات شعوب الأرض، ولولاه لما وصل الينا شيء منها.

يكتب القلم طبيعة حياة مجتمع ما، وتاريخه، وتراثه، وعاداته، وقيمه، ومنجزاته، وعلومه، وآدابه، وفنونه، وثقافاته؛ فيكشف لنا هوية ذلك المجتمع، وبصمته الخاصة، التي تميزه عن سائر المجتمعات الأخرى. وللقلم فضل كبير علينا فهو يرفدنا بمختلف العلوم في حقول المعرفة الشاسعة، وبكنوز الحضارات والثقافات.

وللقلم اليوم فائدة في مجال الطب النفسي، فالكتابة به إحدى طرق العلاج النفسي لبعض من الناس.أحيانا يكتب أحد ما باحثا عن مُتَنفَّس ليُفرغَ زفيرا اختنق فيه، ويستنشق عبر الصفحة أوكسجينا جديدا يتجدد فيه هواء النفس، فالكتابة تُفرغ أمواجه النفسية السالبة على الورقة، أو الصفحة الألكترونية، وبالمقابل تضفي عليه أمواجا موجبة. وفي هذا يؤكد أطباء علم النفس على ممارسة الكتابة لبعض من المرضى النفسيين؛ فهي وسيلة مهمة لإفراغ الأفكار السلبية، وتنشيط الذاكرة، وفتح آفاق جديدة عن النفس، والشخصية، والبيئة الاجتماعية المحيطة بالمريض. في هذا المضمار توصل جيمس بينبيكر الأستاذ في علم النفس الى اكتشاف مدهش، بعد أن حثّ مجموعة من الطلاب على الكتابة لمدة 15 دقيقة عن أكبر صدمة تعرضوا لها في حياتهم، أو موقف حرج مروا به، وأسدى نصيحته لهم بأن يطلقوا العنان لأفكارهم الدفينة، ويعبّروا عنها بالكتابة على الورق، وكرروا العمل لمدة أربعة أيام، بعدها رأى الأستاذ بينبيكر أن طالبا واحدا من بين 20 طالبا كان يجهش بالبكاء، ومع هذا فإنهم كانوا يُخيّرون ما بين التوقف عن الكتابة، أو مواصلتها؛ لكنهم كانوا يختارون مواصلة الكتابة على التوقف عنها[8].

القلمُ لسانُ النفسِ ورسولُ العقل

القلم كاشف لذات الكاتب، فالكتابة عملية نفسية وعقلية، والقلم فيها أداة فعالة فهو وسيلة النفس لإفراغ مخزونها من المشاعر والأحاسيس بصورها وألوانها، والكشف عن سماتها وطباعها، ووسيلة العقل للكشف عن هويته، وطبيعته، وأدائه، ومخططاته، وطروحاته. حين الكتابة تكتب النفس وما تنطوي عليه ويعتريها، والعقل وما يفكر به، فتنتج ثنائية النفس والعقل نصا خاصا جامعا يتجلى فيه أسلوب الكاتب في التعبير، والأسلوب هو مرآة الشخصية بكل عمل.

بشكل عام تجتمع خمسة عوامل لإنتاج النص هي النفس، والعقل؛ واللغة، والقلم، والقارئ؛ فالقارئ حاضر في ذهن الكاتب حين الكتابة. وقد لا تجتمع هذه العوامل كلها في كتابة نص معين عند كاتب معين، فليس بالضرورة أن يكون كل الكتّاب على وتيرة واحدة في التعبير وتدوين النصوص، كذلك يتبع ذلك نوعية النص المكتوب، وحقله الخاص. قد يكتبُ أحدٌ ما بلغة العقل؛ فهو قد يطرح موضوعا علميا بحتا، أو غيره بأي حقل، ويناقشه بمنطق عقله، لقارئ ما، أو لمجموعة خاصة، أو لعموم القراء. وقد يكتب أحدٌ بلغة النفس؛ فهو يكتب بما يجول في فضائها من مشاعر، وأحاسيس، وتصورات كيفما كانت، وبما تنطوي عليه نفسه لقارئ واحد، أو لمجموعة خاصة، أو لعموم القراء. وقد يكتب أحد بالنفس والعقل معا، والشعور الذي يعتريه هو الحفاظ على التوازن التام لإرضاء عدد لا بأس به من القرّاء. وقد لا تتقبل شريحة من القراء أسلوب طرحه لفكرة خاصة أو معالجتها. وأهم قوة مؤثرة للقلم هي مصداقيته في الطرح، والتحليل، والاستنتاح؛ فالقلم يمثل عقل الكاتب، وهوية نفسه، وكلما نقت سريرة النفس والعقل كان القلم صادقا، خالصا، نقيا، مؤثرا.

ويمكن القول إن من أجل الحفاظ على هوية القلم لكل كاتب هو فرض الرقابة الذاتية عليه لأنه أمانة بين يديه، والأمانة تقتضي الوفاء لها، والحرص عليها؛ هذا في حالة التفكير بكتابة في حقل خاص يحقق الفائدة للقراء. لذا فمن المهم الوفاء للقلم، ومراعاة الدقة في كتابة المعلومة، أو عرضها، أو ترتيبها، أو نقدها، أو تحليلها، وبذلك يكون الكاتب قد رفد القارئ والمتلقي رسالة نفسه وعقله معا، أو نفسه، أو عقله، وآخرها شخصه.

وتختلف أقلام الكُتّاب باختلاف شخوصهم واهتماماتهم، وتخصصاتهم، وثقافاتهم، فالجميع اليوم يكتب في مختلف العلوم النظرية والعملية، وفي مختلف الفنون، وتختلف تبعا لها أساليب القراءة لدى القارئ، وكل قارئ له قراءته الخاصة في حقل واحد، أو مجال واحد، أو في مجالات مختلفة. حينما نقرأ نصا مكثفا لكاتب معين، أو نقرأ نظريات لباحث، أو عالم في حقل نلمس قوة العقل لديه، أو نقرأ لأديب قصيدة شعر، أو نثر، أو خاطرة أدبية رائعة نلمس قوة الوجدان وسمو الإحساس لديه، أو نرى خريطة لمهندس خطّطها بقلمه نلمس قوة وروعة عقله الهندسي المنظم؛ وغير ذلك مما شاكل؛ فالقلم كاشف للطباع، والأفكار، والأحاسيس، والمشاعر، والطاقات، والمواهب، والإبداعات.

ما ينعكس على القارئ حين قراءة نص يعتمد على قوة التأثير عند الكاتب؛ وهي تتبع ذكاء الكاتب، وتنظيم عقله، وأسلوبه في طرح الفكرة، ومن ثم إخراج نصه الى عالم القارئ. وكل قارئ يتأثر بنوع معين من الكتابة، وللكتابة أنواع وألوان. في هذا المورد يقول الروائي ف. كورولنكو:

"يجب على الفنان أن يشعر دوما بالآخرين، وأن يلتفت ليس في لحظة الإبداع ذاتها؛ بل بعدها ليعرف ما إذا كانت فكرته، شعوره، شخصيته، تستطيع أن تقف أمام القارئ، وتصبح فكرته هو، شخصيته هو وحده، يجب عليه صقل كلمته بحيث تستطيع أن تقوم بهذا العمل حالا أو فيما بعد، أما إذا كانت مغلقة في حيز إرضاء الذات المنعزل فإنها تأخذ بالاضمحلال، تفقد القدرة والحيوية، تهزل، أو تتوجه الى أمزجة أحادية الجانب واستثنائية ذات صفة غريبة محضة"[9].

اختلاف أساليب الكتابة تتبع اهتمام الكُتّاب وتخصصاتهم، مع علمنا بأن بعضا من الكُتّاب يكتب في مجاله، وهو مفهوم لدى فئة خاصة من القراء لكنه غير مفهوم لأخرى. وقد نلمس أحيانا في أسلوب لكاتب الوضوح، والمصداقية العميقة، وملامسة نص الكاتب قلب القارئ، للحد الذي يشعر أن شخصية الكاتب عارية أمامه، لكن في أسلوب لكاتب آخر نلمس الغموض والإبهام، واختباء الكاتب خلف السطور لدرجة لا يكشف للقارئ ماذا يروم، لكن لا ننكر أن بعض الكتاب يكتبون لفئة خاصة تفهم ما يقصدونه ربما.

الكتابة عالم كبير كان فيما مضى مهيبا كونه مقتصرا على أهل الفكر، ومن يتوّفر على موهبة التعبير، لم يلجْه من هبّ ودبّ؛ لكن عالم الكتابة اليوم لم يعد حكرا على أحدٍ فالأغلبية اليوم اقتحمته، فكتبت، وتكتب بما راق، ويروق لها.

نقرأ كل يوم في الكتاب الورقي، أو الألكتروني، أو في منتديات العالم الافتراضي ما تتكرّم به أنامل الكتّاب والباحثين، أو المشتركين؛ بعض يكتب حسب اختصاصه؛ أساتذة علوم نظرية وتطبيقية. وبعضٌ أخرُ يكتب، وينشر ما طاب له مما هو نافع، أو مسلٍّ، أو ضارٍ أو مؤذٍ؛ ولا ننسى أن الكتابة إحدى صور العطاء ومن يعطِ يكُ حذرا حين يُعطي، وأسعد لحظة للكاتب حينما يكتب بصدق، ونقاء ضمير يقظ، والقلم كاشف عن الذات.

نستنتج مما تقدّم أن القلم أداة كاشفة عن جزء لا بأس به من بصمة شخصية الكاتب؛ فمراحل تكوين النص تشرع بدءاً بالنفس والعقل وما ينطويان عليه، ومن ثم ينتقل النص الى مرحلة الصياغة في قالب لغوي خاص يعبّر عنه القلم، الذي يفضي بالنص الى فضاء القارئ، والقلم أيضا أداة كاشفة عن بصمة كل مجتمع من المجتمعات البشرية.

أحيانا نقرأ كتابا يُغنينا عن عشرات الكتب، وبعض المنشورات، أو الأعمدة القصيرة تغني القارئ عن قراءة عشرات الصفحات في مختلف حقول المعرفة، وتتحقق لديه ثقافة عامة، وحتى بعض الحوارات تُغني عن قراءات كثيرة.

وأحيانا نقرأ سطرا واحدا يكتبه خبير في حقل ما يغنينا عن قراءة صفحات كتبها آخر غير مختص في نفس الحقل. وقد تكمن مشكلة في بعض الكتابات؛ وهي أن كتّابها ليسوا ذوي دراية واختصاص في حقل معين؛ وحين يطرحون، أو ينظّرون فيه يظهر تشويش وخلط فيما يطرحون، وقد يتلقّاها بعض القراء على أنها مسلمّات يمكن الأخذ بها.

يمكن لأيٍ منا طرح آرائه وأفكاره الخاصة إذا كان متخصصا في مجال نظري، أو عملي، وقد يكون مبدعا في حقله لو استطاع التعمق فيه أكثر؛ فيحقق فائدة لنفسه ومجتمعه؛ فالمجتمع يحتاج النظر، والعمل في مختلف الحقول؛ لأجل النمو، والتطور، والتكامل. لنترك الحقول التي لا علم لنا، ولا دراية تامة بها لأهل الاختصاص فهم أدرى بها، وأكثر فهما واطلاعا.

كل ما تقدم كان، ويكون، وسيكون، وسيبقى بفضل القلم، الأداة العظيمة التي منحت الإنسان القدرة على تجسيد كل ما يجول في داخله، وخارجه بالتدوين، وحفظت علومه، ومعارفه، وتاريخه، وحضاراته منذ فجر التاريخ، ولليوم الأخير من حياته.

في العالم الافتراضي اليوم الجميع يكتب بما شاء ويشاء، لكن تبقى ضرورة لمن يكتب، هي أن يضع نصب عينيه السكينة النفسية والعقلية للقراء، رفقا بهم فالعالم الافتراضي مُرهق للنفس، والعقل دون رحمة.

 

إنتزال الجبوري

.............................

[1] العلق- الآيات 3-5.

[2]  القلم- 1.

[3]  أنظر: الطباطبائي، السيد محمدحسين. الميزان في تفسير القرآن، ج19، ص377-378.

[4] أنظر: القلم من الدم الى الحبر. موقع صحيفة (البيان)(23/1/2010).

[5]   كل شيء من الماء والقصب. صحيفة العالم الجديد (4/2/2016).

[6]  باقر، طه. مقدمة في تاريخ الحضارات، ج1. بيروت: دار الوراق للنشر، ط1، 2009، ص78.

[7]  كل شيء من الماء والقصب. صحيفة العالم الجديد(4/2/2016).

[8] موقع ب.ب.س الألكتروني.

[9]  مينا، حنا. كيف حملتُ القلم. بيروت: دار الآداب، الطبعة الأولى، 1986، ص27.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم