صحيفة المثقف

كاظم شمهود: فن المجانيين

 3230 فن المجانينفي عام 1922 صدر كتاب في المانيا يعتبر واحدا من اكثر الكتب النارية جدلا وغرابة ودهشة في الفن الحديث عنوانه: فن المجانيين، سريالية وجنون. المؤلف شاب الماني يدعى هانس برينثون Hans Prinzhon درس تاريخ الفن والفلسفة في فينا ثم درس علم النفس وجراحة الطب. يضاف الى ذلك كان شاعرا وموسيقيا. ولد في مدينة وستفاليا Westfalia عام 1886 وتوفى مبكرا عام 1933.

 el arte de los enfermos mentales surrealismo y locura- -

يقول الشاعر الفرنسي باول ايوارد 1895 عن هذا الكتاب (انه الكتاب المصور الاكثر جمالا في العالم). ويعتبر الكتاب احد المصادر السرية والخفية للفنانين الطلائعيين الاوربيين وكان سببا في ظهور ونمو كثير من الحركات الفنية التقدمية مثل – الفن الوحشي – والفن الذهني – والمدرسة السريالية – والدادائية – وغيرها، وقد تأثر به كثير من الفنانيين الحديثين مثل بول كلي ودالي وبيكاسو ودوبوفيه وتابيس وماركس ارنس وشاجال وكاندنسكي، وفرانس بيكون وغيرهم.

الكتاب يحتوي على 5000 عملا فنيا تعود الى 500 شخص مختل العقل (مجنون) ويعتبر بالنسبة للسرياليين بمثابة الكتاب المقدس. ويذكر ان السبب الذي دفع هانس الى تأليف هذا المنجز الفني القدير هو اولا، ضرورة معرفة خاصية التعبير لدى هؤلاء مختلي العقول، ثانيا، الغريزة الفطرية كيف تلعب، ثالثا، نسبية عقل المريض، رابعا، معرفة الرموز التي يمستخدمها هؤلاء المجانيين في عملية الرسم. وقد نجح هانس في احداث رجة في صفوف الفنانيين الطلائعيين بقوة غير مألوفة، وكذلك في المشهد الفني الاوربي في الثلث الاول من القرن العشرين.3231 فن المجانين

و يذكر ان هذه الاعمال التي ظهرت في الكتاب هي عينة مختارة وان اصحابها رسموها اعتمادا على العقل الباطني وما اختزنه من معارف سابقة وما ورثه من ماضي الاجداد. وبالتالي فانها اعمال ثقافية، لها قوة تعبيرية ومضمون لا تختلف احيانا عن بعض الاعمال الفنية لكبار الفنانين المعاصرين المعروفين.

والرمزية احد العناصر التي يستخدمها المجانيين والتي نراها كثيرا في الاحلام او في خدع الخيال، وتنطلق السريالية من ذلك الفرع من علم النفس الحديث، وهي تجهد بصورة واعية لكي تخلق رموزا حية. مثل اعمال ماكس ارنست.

 ويذكر بعض علماء النفس ان الاتجاه الى الرمزية هو نوع من تفكك الذهن او العقل وتحلله هذا التحلل يعتبر مظهرا من مظاهر الرمزية، وان الفنان سواء كان شاعرا او صوفيا او مصورا لا يبحث عن رمز لما هو واضح وقادر على ان يفسر تفسيرا منطقيا. وانه يتبين ان الحياة والحياة العقلية بشكل خاص توجد في شكلين، اولهما محدد ذو تفاصيل وشكل خارجي واضح، والثاني هو ربما الجانب الاكبر من الحياة، خفي وغامض لا وضوح فيه. كما يذكر البعض بان الكائن البشري كجبل الثلج لا يطفوا منه الا جزءا صغيرا فوق الماء، والانسان يحاول ان يكتشف بعضا من ابعاد وجوده الخفي وخصائصه لهذا فهو يلتجئ الى مختلف انواع الرموز.3232 فن المجانين

و كانت اعمال الفنان الانكليزي وليم بليك 1757- 1827 يعتبرها البعض اعمال مجانين او ان البعض اعتبرها اكثر من نصف جنون، وبعد اكثر من قرن من الزمن وصلنا الى نقطة التي نعترف فيها بعبقرية بليك، حيث كان يستخدم حساسية شعرية كي يكشف عن رؤياه الرمزية. ويعترف بليك نفسه عن صلته بالفنانين المجهولين، وهو ما دعى بعض المؤرخين الى وضع اعماله في خانة المختلين عقليا.

 وفي عام 1937 اقام النازيون معرضا بمجموعة من اعمال هذا الكتاب وقد رحب السرياليون بهذه الفكرة ودعموها. وقد وجد الفنان الفرنسي دوبوفيه ضالته في هذا الفن البعيد عن المقاييس الاكاديمية، والحر في التعبير عن خلجان دواخل الانسان.3233 فن المجانين

 الكاتب يعترف بانه يقدم اول نص بصري وكتابي يتعامل مع تحليل دقيق عن اعمال فنية عملت من قبل بعض المجانيين. وتظهر في صفحات الكتاب حكايات طريفة لاشخاص رسموها على ورق المرافق الصحية ومنحوتات صنعوها من الخبز (عجينة الطعام) وتكثر فيها الرمزية وربما هم انفسهم ليسوا قادرين على تفسيرها لانها متأتيه من الاعماق الغامضة والخفية وخلفيات لم يتذكرونها.

 في هذا الكتاب نشاهد عالم آخر ينكشف امامنا مزدحم الافكار ومكثف الرموز والمعاني، كما نلاحظ وراء هذه الاعمال ضغوط نفسية ورزايا ربما هي التي ادت بهم الى ان يصلوا الى هذه الحالة من الحياة الحزينة.. فعندما نتمعن النظر فيها ندخل في مقاييس فنية اخرى ليس لها علاقة بالنظام الفني المتعارف عليه والذي نسير عليه في حياتنا الطبيعية. ويمكن ان تضع قدمنا في جهنم المجانيين. 3234 فن المجانين

كان هانس قد اختار عشرة اعمال لهؤلاء المجانيين وعمل عليها دراسة تحليلية واسعة، عن حياة الفنان واعماله وشروحا عن تاثيراته ووضعه النفسي والعقلي وانحداره العائلي او الجذور الاصلية له. وقد اختيرت هذه الاعمال من مئات الاعمال التي يتألف منها الكتاب. وكان هناك تنوع في الاعمال من تصوير ورسم ونحت وانشاآت رمزية وغيرها. وغالبا ما كان يكتب عليها بعض الاشعار والنصوص الادبية والدينية والجمل المبعثرة.

وبعد قرن من صدور الكتاب نعود اليوم لنتصفحه والتنقيب في معانيه ومضامينه وسنكتشف انه ينتمي الينا وانه يشكل جزءا من احلامنا. ثم تتكرر اسألتنا عن، ماهو الفن؟ ومن هو الفنان؟ هل هو العاقل او المجنون؟ او كلاهما؟.. ويبدو ان الفن تتوسع مفاهيمه ومعانيه ومعارفه في كل عصر ومع كل جيل وهذه هي سنن الحياة، ونعم الله على الانسانية وتطورها..

 

د. كاظم شمهود

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم