صحيفة المثقف

محمد المحسن: الشاعرة التونسية الحسناء صباح.. تنحت الشعر بأناملمن رحيق الروح

3237 الحسناء صباحتتعدد المداخل إلى النص الشعري المعاصر وتتنوع، بحكم أنّه يبقى قابلا لأكثر من صورة تأويل، ومنفتحا على أكثر من شكل احتمال للمُمكن والتوقع للكامن.. فمدار الإبداع عامة والشعر منه خاصة، بحث يسكنه الإرتحال إلى المجهول من الآفاق، والقصي من جماليات الكتابة ودلالات الفكر.. توقا لتحقيق المغايرة للسائد الشعري..

وتبدو ملامسة تخوم الكون الشعري الذي تنحته نصوص الشاعرة التونسية صباح مدعاة للتأمّل عبر عناوينها: رقضة على تخوم العدم”، بإعتبار أنّ مثل هذا العنوان قد يختزل مُجمل العلامات الدالة على أسئلة متنه الشعري وجماليات صياغتها.. فالعنوان، رغم ما يشي به-بعده المجازي-، إلاّ أنّه يُضمر كتابة دلالية تجعل منه أحد المفاتيح الأساس لفتح مغالق النّص الشعري، والكشف عمّا تبطنه من دلائل لا تخلو من علامات غموض وتعتيم، وتتوسّل به من أدوات كتابة سحرية، تبقى دوما متغيرة، ومتحوّلة من تجربة إلى أخرى، وحتى من نص إلى آخر داخل التجربة الشعرية الواحدة.. فجوهر الإبداع تجاوز ينبغي دوما أن يدرك المدى الذي لا يُدرك، للكائن من الأشكال، والراهن من أسئلة الشعر.. وتظهر اللغة أسرارها حال الاجتماع والبناء إذ اللفظ في ذاته مجرد أداة ولا يظهر مكنونه ومعناه بغير اجتماع لذا كان اللفظ في مبني بحيث يكون لبنة من لبنات هذا البناء غيره في معجم ..

ولنرى معا مدى توفيق الشاعرة (صباح) وقدرتها على جعل الحرف يبوح بمكنونه وسره بين يديها : قول الشاعرة:

رقصة على تخوم العدم !

أحب قراءتك على طريقة برايل

و أكره أن تغازلني بالمستهلك من الكلم

يا أنت !

أن تحبني

هو أن تلعن حسني

حين تنزل عليك نبوءة العشق

ويصيرك الرب رسول حب

أن تعشقني هو أن تُكفِّرَ جسدي

حين تكتب عليه سلالتك

وتطير على براق الهوامات

وتنهمر على أرضي اليباب مطرا ..

مطر ..

يا أنت !

أسقِطْ من ذاكرتك كل الصور

إني أريد رجلا بلا ذاكرة

ولتشْهَدْ أنني الأنثى احتشاد الماء

نيغاتيف الصور

حزمة الضوء

ألوان السماء

فأنا غجريّة لا ترتضي أنصاف العشاق

ولا تقبل أن تكون معطفا في الشتاء

أنا إمرأة عتيقة إن أحبتك فكت شيفرة شاماتك

بشغف عالم آثار

صيّرت شفتيك أبجديتها

ورتّلتهما بغُنّة الفقهاء

ومن المسافة الممتدة بين ذراعيك فتحت أبواب الفردوس لتعبر إلى السماء

أنا امرأة خريفيّة ،

بوهيميّة..

تجيد التعريّ من أوراقها

 لملإ فراغات النص

حين تنضج الثمار

تقرأ بياضك بشغف

وتملأ نقاطك بشبق:

زوجة شهريار

وسحر شهرزاد

وروعة السرد

في أجمل الحكايات

فتعال

لتكتبني سطور ماء

وتدوّنني أهازيج مساء

ولتجعل ذكرى عبوري عبرك

تاريخ بدايتك ومنتهاك

فأن أحبك وتحبني هو

أن نقهقه معا

تمد نحوي يدك المسعورة

نرقص رقصتنا الأخيرة على تخوم العدم

وببلسم تسكبه من مقلتيك في روحي

نفك سوستة العشق

نمزّق أزرار الليل

أذوّب همساتك في كأس الوقت

وتسكب ضحكاتي في أواني الاشتهاء

ثم ...

نمضي معا إلى سدرة المنتهى

نلوب حول العرش

لنعود أشد عطشا .

صباح نور الصباح

من الجدير –في هذه القراءة المتعجلة-أن نتبيّن معالم البنية الصوتية للتشكيل اللغوي في هذه القصيدة في محاولة لربط هذه المعالم بما لها من دور في إنجاز التجربة، وفي تحقيق قدرتها التأثيرية، فالملامح الصوتية التي تحدّد الشعر قادرة على بناء طبقة جمالية مستقلة (1)

والبنية الصوتية للشعر ليست بنية تزينية، تضيف بعضا من الإيقاع، أو الوزن إلى الخطاب النثري ليتشكّل من هذا الخليط قصيدة من الشعر، بل هي بنية مضادة لمفهوم البناء الصوتي في الخطاب النثري، تنفر منه، وتبتعد عنه بمقدارتباعد غايات كل منهما..

وهذا يعني أنّ إرتباط الشعر بالموسيقى إرتباط تلاحمي عضوي موظّف، فبالأصوات يستطيع الشاعر/الشاعرة/ أن يبدع جوّا موسيقيا خاصا يشيع دلالة معينة، واللافت أنّ هذه الآلية الصوتية غدت في نظر النقاد مرتكزا من مرتكزات الخطاب في الشعر العربي الحديث..

وهذا المرتكز يقوم على معنى القصيدة الذي غالبا ما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر ما يثيره بناء الكلمات كمعان(2)..

على سبيل الخاتمة:

قد لا أبالغ إذا قلت أنّي لست من الذين يتناولون القصائد الشعرية بأنامل الرّحمة ويفتحون أقلامهم أبواقا لمناصرة كلّ من ادّعى كتابة الشعر، إلاّ أنّي وجدت نفسي في تناغم خلاّق مع هذه القصيدة التي فيها كثير من التعبيرية وقليل من المباشرة والتجريد تغري متلقيها بجسور التواصل معها، مما يشجع على المزيد من التفاعل، ومعاودة القراءة والقول، فكان ما كان في هذه الصفحات من مقاربة سعت إلى الكشف عن بعض جماليات هذه القصيدة مربوطة بالبنية اللغوية التي عبّرت عنها..

وأترك المقاربة القادمة-على مهل-على هذه القصيدة العذبة إلى أن يختمرَ عشب الكلام..

قبعتي.. سيدتي

 

محمد المحسن - ناقد تونسي

.........................

الهوامش :

1- اللغة العليا ص: 116جون كوبن.. ترجمة أحمد درويش.. ط2 القاهرة 2000

2- البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ص: 38-ط-الإسكندرية 19903-اللغة العليا-ذُكٍر سابقا-ص: 74

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم