صحيفة المثقف

علي رسول الربيعي: مفهوم هيجل للأخلاق والوظيفة النقدية للدين

علي رسول الربيعييعارض التقليد الهيغلي الخط الكانطي في الفلسفة السياسية، والذي أثر بدوره على العديد من النظريات  لاحقا. يرتبط فهم هيجل للسياسة والقانون ارتباطًا وثيقًا بفهم كانط ومع ذلك يختلف عنه بشكل حاسم. أولاً، يتجلى تقارب كبير بين الفيلسوفين في تأكيد هيجل على العقل الذي يتم التعبير عنه في الحركة الديالكتيكية للروح. وثانيا، يؤكد هيجل مثل كانط على العقل عندما يجادل في فلسفة القانون بأن ما هو معقول هو واقعي؛ وما هو واقعي فهو معقول.[1] وثالثا، يمكن العثور على هذا التقارب في تحديد العلاقة بين السياسة والقانون والحرية، لأن هيجل يفترض علاقة شرطية متبادلة بينهما أيضًا، بقدر ما يهدف القانون والسياسة إلى تحقيق الحرية.

هناك اختلافات واضحة على الرغم من أوجه التشابه هذه في فهم كانط وهيجل للفلسفة السياسية؛ وتكشف عن ذلك فلسفتهم للقانون.[2] أولاً، يؤكد هيجل أن العلاقة بين الحرية والقانون في المجال السياسي ليست علاقة سببية، بل تقدم نفسها كعملية جدلية خطوة بخطوة. لا يمكن للقانون أن ينتج الحرية بمعنى خطي، كما لا يمكن ترجمة الحرية إلى دلالات قانونية حصرية تمامًا، وكلاهما يخضع لعملية ديالكتيكية في سياق التاريخ. وكذلك، لا يركز هيجل على معقولية القانون بقدر ما يركز على الاستخدام الملموس للحقوق. فليست هدفه استنتاج القانون العقلاني والتوصية به كنظام من الافتراضات المعيارية بقدر ما هو كشف كيف يخدم استخدام الحقوق وتحقيق الحرية الإنسانية.

ثانيًا، لا يمكن اعتبار الفرد منفصلاً عن المجتمع. ولا يقف الفرد والمجتمع مقابل بعضهما البعض كأقطاب متقابلة كما يبدو هذا الحال غالبًا مع كانط، فكلاهما في علاقة متبادلة لا تنفصم. يفسر هيجل هذا بوصفه تداخل لا يمكن الغاءه بين الخاص والعام. تنتج هذه العلاقة من حقيقة أن احتياجات الأفراد مرتبطة ارتباطًا وثيقًا برفاهية المجتمع في المقام الأول.[3] لهذا السبب ينتقد هيجل  فردية فلسفة كانط السياسية، والتي تنعكس في فهمه للدولة. لا يجب، وفقًا لهيجل، تفسير الدولة على أنها مجموع المصالح الفردية بل هي عملية ديالكتيكية للمواطنين والمجالات الاجتماعية المختلفة.

أحد العناصر الأساسية لفلسفة هيجل السياسية هو فهم الأخلاق بوصفها تعبير عن"مفهوم الحرية الذي أصبح جزءًا من العالم الحالي وطبيعة الوعي الذاتي".[4] فتحصل الحرية في مجال الأخلاق بالمعنى الاجتماعي. يؤكد هيجل على أن الأخلاق تتكون دائمًا بشكل محدد او في سياق أجتماعي معين وأنه من الضروري للفلسفة السياسية أن تأخذ هذا في الاعتبار. فيجادل من خلال هذا النموذج الاجتماعي النظري  ضد المفهوم العقلاني للمجتمع أو الدولة ويؤكد على أهمية المجالات المختلفة للأخلاق (الأسرة، المجتمع، الدولة). وهذا يعبر بدوره عن التشابك الجدلي بين الخاص والعام. يستعيد هيجل، من وجهة نظر منهجية، فصل كانط الواضح بين لأخلاق والقانون ويؤكد تنوع الممارسات الاجتماعية والأخلاقية والقانونية للمجتمع كشرط مسبق للسياسة؛[5] لكنه يعود فيشك  في هذا التنوع ويربطه مرة أخرى بالدولة في النهاية.[6]

يمكن ملاحظة أن هناك تطور في كتابات هيجل فيما يتعلق بفهم الدين. فبينما يمكن تمييز نوع من القرب من تعريف كانط للأخلاق والدين في المرحلة المبكرة  من كتاباته، ألأً أنه تحول في الأعمال اللاحقة الى التركيز بشكل واضح جدًا وحاد أحيانًا على الدين من ناحية المشاعر بشكل عام وعلى نظرية شلايرماخر للدين بشكل خاص.[7]. فيربط بين الدين والفلسفة ارتباطًا وثيقًا لأن الفلسفة، مثل الدين، هي تعبير عن الروح المطلقة كما يرى. لذلك يخلص الى أن الدين يجد تبريره في الفلسفة".[8]

ينظر هيجل الى الدين على أنه دين تاريخي للوحي في المقام الأول. " فلم تعد تُظهر الروح المطلقة، في الدين المطلق، كلحظات مجردة، بل هي تتجلى فيه".[9] ويرى أنه يُعبرعن الدين الذي يُفهم على أنه روح مطلقة  بطريقة خاصة جدًا كما في المسيحية، حيث تُفسرعقيدة الثالوث عن الله بوصفها الشكل الأكثر كمالًا للدين.

يعبر هيجل في تحديد مكان الدين في الروح المطلقة من خلال الاختلاف بين الدين والمجتمع أو السياسة. ويؤكد، فيما يتعلق بدور الدين داخل الدولة، أنه يجب الفصل بينهما، لأن بهذه الطريقة فقط يمكن التوفيق بين الاثنين.[10] يرتبط الدين والسياسة ببعضهما البعض لأنهما يعتمدان على مفهوم الحرية نفسه. و يرى من منظور تاريخي، إن المسيحية هي الأساس الأخلاقي للدولة الحديثة، بقدر ما هي أصل الحرية القانونية والأخلاقية وحتى السياسية".[11]  فبالرغم من أن الدين هو أساس الدولة الأً أن الدولة بدورها هي تحقيق لتلك الروح الموجودة في العالم والتي تمثل في الوقت نفسه محتوى فعل الإيمان.[12] فيقدم الدين كتعبير عن الروح المطلقة ونقيضًا للمجال الاجتماعي والسياسي للروح الموضوعية. [13]

يُفهم الدين في فلسفة القانون عند هيجل، ايضًا، بوصفه شيء يتجاوز خصوصية الموقف المتدين الورع  الخاص للوعي ويقدم نفسه مكانًا لإظهار عالمية الإنسان في الحياة الفكرية والثقافية التاريخية.

إن الدين دائمًا ما يكون بمثابة رد فعل نقدي للممارسات الاجتماعية الحالية للروح الموضوعية عند هيجل.

تعتبر فلسفة هيجل السياسية مصدرًا لأفكار العديد من المقاربات الفلسفية المعاصرة. إن إعادة صوغ أكسل هونيث لفلسفة هيجل للقانون هي بالتأكيد واحدة من أهمها اليوم. تركز نظريته، من منظور هيجلي، على الظروف المتنوعة للاعتراف الذي تُبنى عليها المجتمعات والذي يسبق أي تفكير أخلاقي.[14] إن مركز اعتبارات هيجل، طبقًا لقراءة هونيث هو مجال الأخلاق، الذي يفسره على أنه تجربة حرية التواصل.[15] ويتم التعبير في هذا المجال الأخلاقي عن ديالكتيك العام والخاص، الذي أعتبره هيجل تفاعل بين الإدراك الذاتي للفرد ونظام المجتمع ككل. يحرر الناس أنفسهم من المعاناة ومن اللامبالاة في الإدراك الاجتماعي للحرية فقط .[16] يجادل  هونيث بناءً على نظرية الاعتراف هذه  ضد التمييز الحاد بين ماهو كائن وما يجب  أن يكون، فيربط التفكير في العدالة بتحليل شامل للممارسات الاجتماعية والمعيارية التي تم تحقيقها بالفعل. لذا فإن مهمة النظرية الاجتماعية النقدية هي تحليل المؤسسات والممارسات المعينة فيما يتعلق بإنجازاتها المعيارية وكشف مدى أهميتها للتجسيد الاجتماعي لقيم الشرعية وتحقيقها.[17] لا يعني هذا الاعتراف غير المقيد بالحقائق والوقائع ولكن بالأحرى يجب استخدام إعادة بناء حاسمة للإمكانيات غير المتنازع عليها للممارسات للفت الانتباه إلى الكيفية التي ينبغي بها تطويرها بشكل أكبر.

يمكن العثور، بالإضافة إلى فحص هونث لفلسفة هيجل في القانون، على اقتراضات من فلسفة هيجل في الفلسفة  الجماعاتية والبراغماتية والتفكيكية ايضًا. لذلك ليس من المستغرب أن فلاسفة مثل تايلور كانوا من المستلهمين لفلسفة هيجل السياسية.[18] تؤكد النزعة الجماعاتية والبراغماتية، مثل هيجل، على تنوع الممارسات الثقافية كأساس لعمليات المحادثة والتفاوض الاجتماعي. إن العقل الذي يسعى إلى العام، من وجهة نظرهم، هو دائمًا في علاقة لا تنفصم مع تعددية الممارسات الاجتماعية الخاصة. لذلك، ليس من الضروري تنقية المعتقدات الدينية من خلال مرشح العقل العمومي المشترك؛ وبدلاً من ذلك، تُفهم المعتقدات الدينية على أنها جزء مهم من العمليات التداولية بخصائص ثقافية مختلفة.

 

 الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..........................

[1] Hegel.G. W. F. , Outlines of the Philosophy of Right, Oxford University Press,2012,24.

[2] م، ن.

[3] Thompson, K. (2001). Institutional Normativity. The Possibility of Right. In: Wil­liams, R. R. (Hrsg.), Beyond Liberalism and Communitarianism. Studies in He­ gel's ,Philosophy of right,. Albany, 41-65.

[4] Hegel.G. W. F. , Outlines of the Philosophy of Right,142.

[5] Reder, M. (2010a). Global conflicts and the heterogeneity of law. Right philosophical comments on the Kantian and Hegelian tradition. In: Archive for legal and social philosophy (supplement volume 124) 123-148.

[6] Hegel.G. W. F. , Outlines of the Philosophy of Right,275.

[7] م، ن،  راجع فصل، 1، 3، 4.

[8],341.م، ن

[9] م، ن، 564.

[10] م، ن، 270.

[11] Leuven, L.DV. (2009). Religion - State - History in Hegel (1827-1831). In: Arndt, A.Iber, C.Kruck, G. (eds.), State and religion in Hegel's philosophy of law, 37-56.

[12] Karasek, J. (2009). State, religion and church in Hegel. On the supposed ambiguity of Hegel's definition of the relationship between religion and church. In: Arndt, A.fiber, C.Kruck, G. (eds.), State and religion in Hegel's philosophy of law, 65-82.

[13] Hegel.G. W. F. , Outlines of the Philosophy of Right,  المقدمة

[14] المكتبة الشرقية،  بيروت، 201. هونيث، أكسل، الصراع من أجل الأعتراف، تعريب جورج كتورة،

[15] أنظر:

Honneth, A.(2010)The Pathologies of Individual Freedom: Hegel's Social Theory, Princeton University Press

[16] م، ن.

[17]م، ن.

[18] Taylor, C., (1975) Hegel. Cambridge University Press.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم