صحيفة المثقف

محمد المحسن: حين يقيم الشاعر التونسي القدير جلال باباي في فضاءات الكتابة

محمد المحسنبوصفها وطناً لازوردياً..

تصدير: الشاعر جلال باباي يتعامل مع النص بوصفه غاية في ذاته.. وليس جسراً هشّاً يقود إلى الارتماء في أحضان الجاهز المؤسّسي-

رحيل

أفرغني الرحيل من المعنى

ولم يبق إلا الغبار في الثنايا

لا بدٌ من نثر  إذن

لأنتصر على الغزاة

يلزمني لغة القدامى

لأقتسم الارض طولا وعرضا

وافترش قوافيها بالذبذات

قد طال بي الطريق

ولم أعثر على الأوٌلين

يلبسني رداء اللغة الأمٌ

فأنطوي على سحرها

بتٌ لوحدي

أنا المسافر..أنا السبيل

وليس  لي رفيق إلاٌ عزلتي

لا أرى إلاٌ سواي

وامتطي السراب

بنصف خطاي

لعلٌني ألتحق بالصدى

يقرع مآثرهم الباقية

بما ملكت يداي

سينكسر هذا الرحيل

أخيرا ....

... سآوي إلى مقامات السابقين

وتصبح كل السماء مداي.

جلال باباي

(٩يناير ٢٠٢٢)

يمثل الشاعر  التونسي الألمعي جلال باباي أحد رجالات الثقافة في تونس،وقد أبانت تجربته الشعرية عن تفوّق مبكّر ومقدرة فائقة،في الإبداع الأدبي. إنه  بدون أدنى شك -وجه طبع بحضوره المتميز النشاط الثقافي والأدبي لسنوات خلت في بلدنا.وهو يشكّل  برأيي -إسماً أدبيا مهماً في تاريخ الإبداع في تونس.

إنه شاعرٌ يشبه شعاع الشمس الذي يخترق الزجاج دون أن يلطخه أو يخدشه،وموجة عابرة على سطح المحيط الإبداعي التونسي،ونسمةٌ دافئة،وبسمةٌ حزينةٌ،وفي شعره عبق التاريخ والملح والماء والرعاة،وروائح أعشاب برية عانقت الشمس والهواء.

ويعلّمنا تاريخ الإبداع البشري أن الكتابة الحقيقية لا تنبجس من فراغ،ولا تنسلخ من الجاهز ومن رماد السائد وإنّما تقف على أرضية المشكلات الكبرى التي تطرحها الثقافة وهي تستقبل فجر المعنى المرتبط بتاريخيتها الخاصة،في محاولة لتجاوز مآزقها الخاصة واحتضان زمنها وإيقاع لحظتها.

وجلال باباي – في تقديري-واحدٌ من ألمع شعراء القصيدة الجديدة في تونس.فقد كانت بداياته الأولى مبهرة سواءٌ في مضامينها أو في اكتمال بنيتها الفنية.

لقد جاءت قصائد -جلال-الأولى منذ البداية مكتملةً ناضجة،سليمة النطق مستوية البناء مغلفة بغيوم شفافة من الرمز اللغوي والفني،ففي شعره نلاحظ بشكل غير قليل من الحقائق التاريخية والجغرافية، فضلاً عن الغوص في سديم الطقوس وفي ثبج الأساطير القديمة..

وقد ظلّ -جلال-عبر مسيرته الإبداعية الخصببة وفيّاً لهذه التجربة البكر،ولم يتبرأ منها أبداً

ولم يكن-جلال باباي يتعاطى مع الشعر بوصفه الوسيلة الوحيدة للتعبير وهندسة التلقي،وبوتقةً لاختبار إمكانيات اللغة،ومنصةً لجدل الأفكار،ووعاءً لتأمل الوجود،بل يتعامل مع النص بوصفه غاية في ذاته وليس جسراً هشّاً يقود إلى الارتماء في أحضان الجاهز المؤسّسي.بل إنني أجزم من خلال معرفتي الوثيقة الصلة به وبتجربته الشعرية أنه كان يؤمن أن للإبداع قيمة في ذاته بوصفه كشفاً وفتحاً لأقاليم جديدة تثري رصيد الحساسية الإنسانية وتغني مغامرة الإنسان الباحث دوماً عن ألفةٍ مع العالم والأشياء خارج نظام القمع والرقابة؛وكان يدرك،أيضاً،بحسه الشاعري المرهف،أن الإبداع ليس تاريخ المباركة وإنما هو تاريخ التجاوز والانعتاق من المعنى الذي تفرضه القوة إلى قوة المعنى المنبثق بفعل الكتابة بوصفها عيداً لا يتوقف عن اقتراف البدايات.

لقد كان -جلال-مثقفاً استثنائياً لا يبارك العالم كما ورثه في صيغته السياسية والإيديولوجية. هذا ما يفسّر،ربما،عدم ركون كتاباته الشعرية إلى القول المباشر الذي لا ينفذ إلى جوهر العالم ولا يسافر إليه عبر اختراق القراءات المطروحة عنه ومساءلتها، وإنما كان يرفض أيضاً قراءات العالم التي تحددها الجهات المأذونة وتصادق عليها عائلة الثقافة المقدّسة.

وعليه،فإن قراءة التجربة الشعرية عند هذا الشاعر القدير تتطلب الذهاب الى منهج متوازي يقارب بين المناخات الفنية للقصيدة والمناخات الثقافية والفكرية المحيطة.

ويجد  المتأمل لأعمال جلال باباي نفسه أمام تجربة شعرية جديدة،مملوءة بالتميز والفرادة..وهذا يدلُّ دلالة واضحةً وقاطعةً على أَّن الشاعر يمتلك ثقافةً متنوعةً..ورصيداً فكرياً وأنثروبولوجياً واسعاً..مما أفرز لنا تجربة شعرية متراكمة عبر مراحل عدة من حياة ومواقف الشاعر الثقافية والفكرية..

كل هذا الكم المعرفي والثقافي والأدبي ساعده أن يخطو بالقصيدة خطوات متسارعة ومتطورة الى الأمام..فجاءت قصائده ذات مسافات متوترة.. وفجوات متباينة.. وفضاءات متعددة.. مرةً صاخبة.. ومرةً هادئة..حتى وصل بالقصيدة الى مرحلة النضج...وتفكيك العبارات..وتأجيج الالفاظ...وتفجير المعاني.

أردت أن أقول من خلال هذا أن الشاعر التونسي جلال باباي  شاعر وطني أقام في فضاءات الكتابة بوصفها وطناً لازوردياً ينفخ في قصب الكلمات أسرار الخلق والمعنى الذي يعتق فينيق الذات المبدعة من رماد المؤسسة الثقافية،ومارس الصعلكة الثقافية ورفض عبر مسيرته الإبداعية أن يكون مثقفاً يفكّر من داخل المؤسسة الرسمية،ولهذا ظلّ أدبه منخرطاً في الهم العام بوصفه همّاً مقدّساً.وكان جلال مثقفاً ثورياً نقدياً،سمح لنفسه بأن يعيد النظر في كل شيء.

الشعر،بهذا المعنى،لغة مغايرة ومناهضة للثقافة التي هيمن عليها الخطاب الإيديولوجي الأحادي.

ومن هنا،فإنني أعتقد أن المتأمل الحصيف في ما يبدعه هذا الشاعر المتميز (جلال باباي)  يستطيع -دون كبير عناء -أن يقف بنفسه على ما أقوله الآن.

أردت أن أقول كل ذلك كي تكون دراستي عن الشاعر جلل باباي شهادةً للتاريخ ومدخلاً إلى قراءة ظاهرة المثقف الاستثنائي في تونس المعاصرة، مشيراً إلى أن جلال قد أدرك مبكراً أن جوهر الإبداع يكمن في الانحياز إلى الكتابة الصادقة الجريئة بوصفها سؤالاً وبحثاً ووعداً بإنتاج معادل موضوعي للعالم في أفق الكشف المضيء من أجل قول الإنسان والأشياء.

نخلص مما سبق إلى ما أكدناه أكثر من مرة في هذه الدراسة-المقتضبة- وهو أن«جلال باباي »يمتلك رؤية واضحة تجاه العالم والأشياء،ويغلب على شعره الطابع الرومانسي الملحمي الواقعي،وهو يمتلك مميزات وخصائص تجعل له ملامح مختلفة وتكسب صوته نكهة مميزة بالنسبة إلى الآخرين.

وأختم دراستي بقصيدة «الرقص فوق وسادة الثلج» والتي يقول فيها :-

"يتحدث المارون عند أول الصباح

أن الجليد يصمد بمشاته

لذا ها أنا ذا أثق بهؤلاء الناس

ساخطو عليه

وتراني مجبر على تصديقهم ،

أُكرهتُ على الإستمرار

أكذٌب خطايا

وقد فتحت بي  الفجوات

هادئاً، مثلما عاهدت عصاي

أتقدٌم برباطة الجأش ،

أنزلق مستقيما ًفي يباس الماء

مرتديًا خوذة الربان ،

مُلوٌحاً تجاه النهر الخالد

بابتسامة حزينة قائلا:

"وداعاً يا أحبائي، وداعاً يا أعزائي "

حتى يلتئم الجليد مرة أخرى

سريعاً فوق الجسد الطيني

أثبٌت أصابعي على الغصن

الطاعن من الشجر

حتى لا تخونني هشاشة

العود الأخضر

أتبيٌن موقع  مجدي من وسادة ثلج

بيضاء وبرزخ من ماء

أتفحٌص أيام كهولتي

كي تدوٌنها ملائكة الله

وتسالني : أيّ أثرٍ ستترك في الحياة؟

لا ثروة عندك ولا شيء تصونه!

سوى بيت يشرف على سماء مفتوحة

هل كُنتَ زوجًا يملأ جيوبه بالهدايا

حتى تبكيك الزوجة بعد الموت؟

سيذكر الأولاد والدَهم بمحبّة

فأنا لم أصنعْ لهم أجنحة كافية

حتى يهابون السقوط المبكٌر

ستسألني الملائكة عندئذ،

لماذا جئتَ، إذًا إلى هذه الدنيا

أيها الشاعر؟

أجيب: لكي أنصت إلى أحبتي القراء

يُردّدون قصائدي الجميلة

خلاف ذلك سيكون من العبث

أن أولد  كي أفتش لي عن جواب

لأسئلة طفولتي الأخيرة

وارصفها في مجرى العمر المضني

أقرب إلى صوت الغفران

كان ذلك منذ قدوم

امرأة  كامدةَ البريق في راحتها

الماء والرمل

عاريةَ القدمين،

تروي أحدوثة أسلافها،

تهيٌأ العودة إلى الماء

تخبأ ملح الأرض الخراب

تركتْ صوتها

َ تعبث به الصحراء

تلتمس من الله الغفران

أنصت إلى أنامل الأكورديون

تناجي أقدام المارٌة

يعود الثلج إلى رصيفه الشتوي

ومرٌة أخرى يلتحق بمحرابنا

عازف قيثارة الروح

وتدق في البوادي أجراس السفر "

***

محمد المحسن

  ديسمبر٢٠٢١

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم