صحيفة المثقف

لو يانغ: النمر الفضي

3241 لويانغبقلم: لو يانغ

ترجمة: صالح الرزوق


 عشت في كنف جدتي الصماء منذ فترة مبكرة من العمر، وكنت أزور أمي وأبي في أيام العيد والمناسبات فقط. وكان يوجد وراء بيت الجدة بركة بئر عميقة، وفي بركة البئر شاهدت لأول مرة النمر الفضي.  ومعظم ما سوف أسرده عليكم له علاقة متينة بالنمر الفضي. كان شكل أقدام النمر يبرز في مخيلتي الكسولة من خلال ذكريات أيام طفولتي، ويترك حضورا عاطفيا ملهما. وأود أن أبدأ حكايتي من بركة البئر.  وهو أسلوب قديم من أساليب تخزين المياه، ولا يزال قيد الاستعمال في ريف مدينة رونغ تانغ. وكما يدل الاسم، هذه الحفر أشبه بالبركة، ولكنها من ناحية العمق تذكرنا بالآبار. ويجب العناية بنظافة بركة البئر: ويحرم على النساء بشدة غسيل المبولة أو الملابس الداخلية فيها. ومعظم البرك العميقة لا يزيد عرضها على 12 مترا، وهو ما يكفي ليسد احتياجات بيتين أو ثلاثة بالجوار. وأحيانا تستعمل بإخماد النار التي تندلع بأكوام العشب أو بيوت الخنازير القريبة. ويقولون إنه تشكلت بركة بئر جدتي الصماء بالطريقة التالية: لعدة سنوات كان جدول يمر ببيتها، ثم صدر قرار جازم بردمه وتحويله إلى شريط زراعي ضيق.  ولكن جدتي الصماء عنيدة، ولم تلتزم بالخطة، مهما شتمها وألح عليها جيرانها. وحينما ردم القرويون الجدول، بقي جزء من عدة أمتار وراء بيتها، فكلفت بتعميقه بعض الرجال الغرباء. وقد حفروا ما يعادل طول عود بامبو، وأصبح الماء أخضر قاتما جدا. وتحول لبركة بئر إضافية في المنطقة. وأطلق القريون عليه اسم بركة بئر عائلة صان.      

ولكن منذ متى كان اسم الجدة صان؟. حينما كنت صغيرا، كانت تلك البركة العميقة مشكلة بالنسبة لي. وكانت الجدة الصماء تقول دائما إنها رأت الماء يحدد لي أقداري، وكانت تخشى إن سقطت في البركة أنه لن ينقذني شيء منها. ولكن متى كنت أشتاق إلى عالم بركة البئر. وهناك صبي آخر في القرية، أكبر مني بسنة واحدة، اسمه دونغ. وفي إحدى المرات قبض على سلحفاة صغيرة جدا وأتى بها ليعرضها علي. كانت سلحفاة صغيرة جميلة. وإذا قلبتها على قفاها، تمد رأسها وأقدامها، وتحركها بيأس بالغ في الهواء. كانت تتخبط بعنف دون أي فائدة. وقد وجهنا الدعوة لفتاة من القرية لتلعب معنا. وكان اسمها جوان. وكانت بعمري. وكان شعر جوان قليلا وأصفر. وتعقده بشكل تاج على رأسها وفق تسريحة تسمى كعكة العصا. انحنت جوان على كونغ وسألت بحسد:”سلحفاة!. كيف قبضت عليها يا دونغ؟”.

قال دونغ بتعال:”أمسكت بها في بركة بئر”.

سألت:”هل يوجد المزيد منها؟”.

رفع رأسه وقال:”بالطبع، الكثير. حينما قبضت على هذه كانت مغطاة بالطين الأسود. وضعتها في إناء نحاسي وغسلتها. انظري كيف هي نظيفة”.

سألته:”كيف تعلم أنه يوجد المزيد؟”.

قال:”لا أدري”. ودفع يد جوان بعيدا عن سلحفاته وأضاف:”أمي من أخبرتني بذلك”.

قالت جوان:”أراهن أن جونغ لم يقبض عليها. وأحضرتها له الخالة ما”.

كانت الخالة ما هي أم دونغ. وكنا نناديها ما ليس لأنها أمه بل لأن لقب عائلتها هو ما. وكانت الخالة ما أصلب امرأة في القرية، وأقوى من أي رجل.

في ذروة الشتاء، كنت أشاهدها تمر من أمام نافذتي في الصباح الباكر. وكانت تحرص على حمل سلة خيزران كبيرة وشبكة ثقيلة على كتفيها، والعصا تطرق الأرض مع كل خطوة. أخبرتني الجدة أن الشبكة مليئة بالسمك والسرطعون الذي اصطادته من منعطف النهر قرب القرية. وإلقاء القبض على سلحفاة في بركة بئر مجرد عبث أولاد بالنسبة للخالة ما، ولذلك صدقت أقوال جوان. لكن دونغ غضب بعد أن تلقى هذا الجرح في كبريائه.  اختطف السلحفاة، ونظر إلينا نظرة ساخطة.

بعد ذلك، سحرني عالم بركة البئر. وكلما فكرت بكل السلاحف الصغيرة المختبئة في الماء الأخضر الداكن، لم أكن أستطيع الركون للراحة. وقررت عدة مرات أن أتسلل وحدي وألقي نظرة. وفي عدة مرات كنت أبلغ مربع الخضار المزروعة وراء البيت، ولا يبقى غير عدة خطوات تفصلني عن البركة. وفي عدة مرات كانت الجدة الصماء تجرني من أذني للخلف نحو المطبخ المختنق بالدخان. وكانت تشير للإناء الذي يغلي وتقول:”آه يا يانغ. يا حفيدي الطيب. طهوت لك صحنا من الخنزير. لو سقطت في البركة وغرقت، لن تتمكن من تذوقه”.

ولبعض الوقت في ذلك الشتاء، كان الطقس صاحيا على غير العادة ودافئا. وقررت الجدة أن تأتي بشخص يقلم لها أغصان أشجار الصفصاف التي تحاصر بركة البئر. وطلبت المعونة من الخال الخامس الأحدب الذي يعيش في القرية. كان الخال الخامس أشرف رجل في القرية. بعمر الثلاثين فقط، ولكن ظهره محدودب مثل رجل بعمر ستين عاما. واختارته الجدة لأنه يعمل بجد ويحتفظ بلسانه صامتا. قالت:”أضف لذلك أنه يفهم بالماء. ولذلك يمكن لآه يانغ أن يهبط في البئر ليلعب، وحتى لو سقط فيه لا يوجد ضرورة للقلق”. وهكذا ارتديت سترة كبيرة مدرعة مع قبعة قطنية وتبعت الخال الخامس إلى بركة البئر التي كنت أحن إليها. وخلفنا الجدة تحذرنا بقولها:”أيها الخال الخامس، لا تسمح لآه يانغ أن يلعب بالماء”. وعندما وصلنا إلى طرف بركة البئر، كان نور الشمس نظيفا وساطعا وهو يطفو على السطح. وبالتأكيد عمل الخال الخامس الأحدب باجتهاد وصمت. وتسلق واحدة من أشجار الصفصاف الطويلة وانشغل هناك. وقفت بالأسفل، وكنت أحيانا أساعده بتقريب غصن سقط بعيدا. وقفت هناك وبيدي الأغصان وأنا أغالب مشاعر الضجر. ثم نظرت إلى الأعلى نحو الخال الخامس وقلت له:”عند دونغ سلحفاة صغيرة. أتى بها من بركة عميقة. هل تعتقد أنه يوجد المزيد؟”.

جلس على غصن متفرع وهمهم:”حتما، الكثر منها”.

“ولماذا لا يمكنني رؤيتها؟”.

تسلق الخال الخامس شجرة أخرى، وتحرك بهدوء ونشاط وهو يعمل. وحمل مقصا حديديا كبيرا أسود ومنشارا بقبضة خشبية، واستعمل الأداتين بالتناوب ثم انهمك بالتدريج في عمله.

وقف آه يانغ على طرف الماء، وبيده غصن ميت، وراقب المزيد من الحطب والأغصان تسقط بهدوء من الشجرة كأنها ريش بني. رفع آه يانغ رأسه لينظر إلى الخال الخامس على الشجرة، وبدا له كأن الأغصان تسقط من داخل جسمه ذاته. تحرك الخال الخامس من شجرة لشجرة، وهو مستمتع بعمله. ولم يكن لديه أقل إحساس أن آه يانغ تحته قد قابل ماء أقداره - فقد سقط في بركة البئر. إذا هناك حادثتان وقعتا في ذلك اليوم.  استمتاع الخال الخامس بعمله. وسقوط آه يانغ في البركة. وأنت تركز على الجانب الأول، وتتناسى الثاني. والحقيقة، في النهاية، بمقدورك أن تبحث في ذكرياتك عن المشهد وتتوقف عند الجانب الآخر، الذكريات الضبابية (مثل صورة قديمة باهتة) وهو شيء تعجز عن منعه. وأفضل ما يمكن أن تفعله أن تلاحظ أن ضفاف بركة البئر غالبا منحدرة، وفي الشتاء، بعد ذبول الأعشاب، تتحول بركة البئر لما يشبه دلوا غير منتظم وعملاق. كان الضوء ساطعا في ذلك اليوم. وماء بركة البئر الأخضر يخفي العديد من السلاحف. وقد ذابت بقعة من الجليد الذي يغطي الأرض تحت قدمي آه يانغ بما يكفي ليرتبك. وكانت أصغر وأخف الأغصان المتساقطة قد لامست جفنيه ورموش عينيه. وسيتبادر لذهنك ما يلي: مع أن البركة تبدو صغيرة بعين بالغ، مجرد حوض استحمام بيضاوي كبير، كانت بالنسبة لآه يانغ محيطا مائيا، هاوية.

والآن الكلام لآه يانغ. وآه يانغ هو من كتب كل الكلمات التي تراها هنا. أراد آه يانغ أن يقبض على سلحفاة ملفوفة بالماء الأخضر مهما كلف الأمر. وأراد آه يانغ أن يثقب حفرة في درعها وأن يربطها بجذور صفصافة بواسطة حبل يمرره من حافة الماء. واستغراق الخال الخامس بعمله لم يسمح له بالانتباه لسقطتي في البركة العميقة. ولم يكن هناك ما يؤخر وصولي لسطح الماء.  ولكن هناك على وجه الماء المشمس قابلت حاجزا منع خطتي. في الواقع أنا لم أسقط في البركة العميقة - فسطح الماء لم يسمح لي بالغرق. فقد كنت أرتدي معطفا مبطنا وسميكا، وقبعة قطنية، وأقبض بيدي على عصا صفصاف. وهكذا استلقيت على سطح الماء.  كان الأمر أشبه بغشاء قوي يغطي بإحكام بركة بئر عائلة صان، ولكنه كان مجبرا على أن ينحني تحتي. هذا هو ماء أقداري. ماء أقداري تماسك بقوة ولم ينكسر تحتي، حتى انطلقت صرخة من عابر سبيل. لاحقا الخالة ما كانت تقول دائما للآخرين ولآه يانغ:”لو لم أشاهده وأصرخ في ذلك اليوم، لغرق الولد بالتأكيد”. وقالت أيضا:”ضفاف بركة بئر عائلة صان منحدرة جدا ولا يمكن لسرطعون أن يزحف عليها”.  

كانت الخالة ما امرأة قوية، ومن حق الجدة أن تدعوها خشنة. كان صوتها خشنا مثل بقية شكلها. ولم تكن تعلم أن صياحها سيربط آه يانغ بسنوات طويلة من المعاناة والندم. فقد كانت أول مرة أشاهد فيها نمرا فضيا. وكما حصل استلقيت على سطح الماء لحظة، ولكن في تلك اللحظة شاهدت أعظم نمر فضي. يا له من نمر جميل. لم يكن حيوانا من هذا العالم، مصنوعا من اللحم والعظم والفرو. كان خيالا ممتلئا بالفضة. أو يمكن أن تقول كان جسما فضيا: فرو فضي، حركة فضية، اعتزاز فضي، لغز فضي. استلقيت على ماء بركة البئر وراقبت النمر الفضي وهو يقترب من الهواء فوقي، ويدنو من وجهي. ومر ضوء الشمس من خلاله وأصبح خلابا ومخدرا، وراقصا وساحرا.  أغلقت عيني المرعوبتين والمبهورتين. وشعرت كأن النمر الفضي يبتلعني كلي برقة. وانتابني الإحساس أنه ابتلعني فعلا وأودعني في بطنه. وشعرت ببطء أنني أتحول لنمر فضي. وهكذا توالت الأمور.

استمرت التحولات بلا نهاية. وأتذكر آخر شيء لاحظته: نمر فضي يبتلع نمرا فضيا مثله. والطفل الذي كان على سطح بركة البئر اختفى تماما، كما لو أنه لم يكن موجودا. وكما قالت الجدة: كان آه يانغ دائما طفلا مريضا وغير محظوظ.  وقد شاهد قارئ الحظ الأعمى ذلك في لحظة ولادته. لم يكن بمقدور قارئ الحظ رؤية الوجوه، ولكن أمكنه رؤية إرادة السماء. علاوة على ذلك اكتشف الآن طريقه المباشر لبيت الجدة، واقترب منه خطوة بعد خطوة من مسافة نائية. وجلس على منصة خشبية في المطبخ وقال:”هذا الطفل نبيل من حياة سابقة. ويمكن للنبلاء القيام بزيارة ولكن ليس التسكع. وفي أقدار هذا الطفل موت قد يتسبب به الماء، والمعدن، والتراب، والخشب. ولن يموت بالنار”. أطبقت الجدة على أذني اليمنى بإحكام، كما لو أنني أرنب يحاول الهروب. وقرصت أذني وسألت قارئ الحظ:”أخبرنا، كيف يمكن كسر اللعنة؟”. أحنى قارئ الحظ رأسه واحتفظ به كذلك لفترة طويلة، ثم قال أخيرا:”حينما يبلغ عامه التاسع، سيكون لهذا الطفل جذور قوية. احتفظي به حيا حتى يبلغ التاسعة - وما أن تمتد جذوره، لا يبقى مكان للخوف”.

وحينما مرت الخالة ما تحت الأشجار، رأتني مستلقيا على سطح بركة البئر، ألتمع، وعلى وشك الغرق. فصاحت، ثم جرتني من البئر العميقة بيديها الغليظتين. وكان الخال الخامس يترنح ويهبط عن الشجرة. ورفعت الخالة ما جسمي المبتل إلى الأعلى وألقتني على ظهر الخال الخامس المحدودب. وقالت لاحقا:”آه يانغ. أنت تبدو مثل منشفة خرجت من حوض الغسيل، وتنقط بالماء”.

وبعد إنقاذي من بركة البئر تعرفت على سوء حظ آخر لازم طفولتي. وكان سوء الحظ هذا، من البداية وحتى النهاية، متعلقا بعضو رجولتي الصغير: لم أكن قادرا على التبول بسهولة، مهما حاولت. كان عضوي لا يعمل. وشيء ما يعيقه. وكنت أنفق يومي بمحاولات يائسة للتبول. وفي غضون ثلاثة أيام لم أصرف غير ما يعادل عدة فناجين. كنت صغيرا جدا على هذه المعاناة والألم. كانت الدموع تحتقن في عيني، وبحثت عن دونغ وجوان وانضممت للعبة يلعبانها بجاروفة معدنية.

قلت لدونغ:”لا أستطيع التبول. وهذا يؤلمني”.

أشار دونغ للجاروفة وقال:”حسنا. أشحذ الجاروفة واقطع بها عضوك. فتتخلص من الألم”.

قلت له:”ياه. هل يمكنك أن تقطع عضوك أنت؟”.

وأدرت له ظهري وقلت لجوان:”لا يمكنني التبول. وهذا مؤلم”.

قالت جوان:”اسمح لي برؤيته”.

وبسرعة أغلقت سروالي المفتوح وواريت عن الأنظار عضو رجولتي المتألم.

واستاءت جوان. وقالت:”لا فائدة منك. حتى أرواح بركة البئر لا ترغب بك”.

احمرت عيناي وأجبت بغضب:”أنت غبية يا جوان. من قال لك ذلك؟”.

“الخالة ما. الخالة ما قالته. هل ستتخاصم معها؟”.

واقتنعت الجدة الصماء بذلك. وحينما سقط آه يانغ في بركة البئر، استقر رعب في بدنه وأوقفه. أحرقت عدة رزم من النقود الورقية عند جذع الصفصافة القديمة قرب بركة البئر. وبينما النقود تحترق، صاحت بصوت مرتفع:”يا طفلي يانغ. تعال إلى البيت لتتناول طعامك. جدتك تطهو اللحم”.

وحتى هذا اليوم أتساءل هل جزء من روحي ضاع فعلا في الأعماق الخضر لبركة بئر عائلة صان. وكل ورقة نقدية أحرقتها الجدة كانت مقصوصة بعناية بشكل هلال جميل. حملني الوالد إلى المستشفى في مدينة رونغتانغ، وكان بجوار مصنع للأدوات الزراعية. وقادني عبر بوابة مغطاة بستائر ثقيلة إلى غرفة ضعيفة الإضاءة. وبدت لي مثل غرفة تبديل الثياب في حمام عمومي قديم. كانت الجدران المبيضة تحمل علامات قرمزية لا معنى لها. وجاء أحدهم بزجاجة ماء حار. كانت القارورة خضراء ومليئة. وضغطها الوالد على حضني وعلى عضوي. آلمتني في البداية، ولكن بعد قليل شعرت براحة ودفء.

قال الوالد:”ستتحسن إذا وفرنا لك الدفء”.

ولم أصدقه لبعض الوقت. ثم سمعت صوتا متميزا لأدوات زراعية تقعقع وتصفر في الجوار. وتوقعت أنه صوت مذراة فولاذية تضرب زوجا من المقصات. وخشيت أن يستعمل الناس في المستشفى الأدوات الزراعية لشفائي. ثم دخل رجل هزيل بوجه مصفر. لم يكن يرتدي المريول الأبيض. وانحنى له والدي وسأله:”هل حان دورنا يا دكتور؟”. كانت الغرفة التالية ضعيفة الإنارة كذلك. وجدت سريرا مرتفعا من حديد أبيض ملتصقا بالجدار. ألقاني الوالد على السرير، وكان مغطى بفرشة متهالكة من العشب. وتوقعت أن ثقوب الفرشة قد تسبب بها أشخاص يرفسون بكعوب أقدامهم. وضع الوالد يده على جبيني وبدا أنه بحالة شرود.  وبردت فجأة زجاجة الماء الحار في حضني. كانت حياتي قبل أن أبلغ تسع سنوات غير آمنة كما لو أنها شيء عائم يرفض أن يستقر في بدني. أقلق صياحي المرتفع في المستشفى طمأنينة وهدوء نصف سكان مدينة رونغتانغ. في تلك الفترة المبكرة من العمر، أدركت ماذا يعني أن تشتم وأنت على سرير حديدي في المستشفى، وأن تلعن الأشخاص الذين يمسكون بأطرافك دون عزم شديد. قبل أن أبلغ تسع سنوات، استلقيت بالقوة على سرير وأجبرت على إجراء عملية لا أجرؤ على تذكرها الآن.

في الأيام التالية، حينما أصبحت مثقفا معروفا في لاوشينغ، رويت حكاية معاناتي هذه لصديقات مقربات، ولاحظت الافتتان والإعجاب الذي انطبع على وجوههن. قلت لنفسي: لكنهن لسن مثل جوان. ولم أتوقع أن تقول إحداهن:”اسمح لي أن ألقي نظرة”. العديد من الأشخاص حاول في تلك الليلة استراق نظرة من النافذة - وكانوا عمالا صغارا من مصنع الأدوات الزراعية. وأخبرني جواسيس النافذة هؤلاء لاحقا أن عمليتي، والتي أجريت دون مخدر، كانت مرعبة فعلا، وأقسى من مراقبة امرأة في لحظة الولادة. وسمعوا النقاش الذي دار بين الطبيب الهزيل والوالد.

سأله الطبيب:”هل يجب أن نخدره؟”.

ورد والدي:”لا، قد يضر بدماغه”.

وتردد الدكتور ثم قال:”قد لا يتمكن من تحمل الجراحة”.

ورد والدي:”الغباء الذي يقتل، وليس الألم”.

سعل الطبيب الهزيل عدة مرات بجفاف وفرك يديه معا ثم قال:”حسنا إذا. عليك أن تساعدنا بتثبيت ذراعيه”.

واستدعى رجلا آخر بوجه خشن ليثبت ساقي. وأخرج من جيبه سلكا طويلا وغريبا. كان أطول من قدم، وطرفه مسطح ومعقوف. وكان أشبه بمنظف أذن عملاق. قدر وزنه وهو يلمع بين يديه. وقال:”حسنا، هل أمسكتما به؟”. ويمكن لجواسيس النافذة أن يسردوا ما تبقى بتفاصيل مطولة. ويمكنهم أن يخبروك كيف أن الطبيب الهزيل مد يدا مصفرة ولمس برشاقة عضو آه يانغ، ثم بحذق ومهارة دس السلك فيه. ثم عانى آه يانغ من الأوجاع كأنه سمكة على مقلاة: وتقوس عضوه، وانكمش، والتف حول نفسه. ثم ضغط أبوه والرجل الآخر أطرافه على السرير. ولم يكن بمقدوره بعد ذلك أن يتحرك، وشرع بالبكاء والشتائم. ثم أصبح صوته تقريبا بعيدا عن أصوات البشر. وتدفقت كمية كبيرة من السائل من عضوه، وكان مزيجا من البول والدم. وابتل الفراش تحته واصطبغ بلون أحمر. وطرق رأسه بالسرير الحديدي طرقة قوية. ولم يعد بمقدوره أن يصيح أو يئن. وواصل البول والدم بالتدفق منه، وبلغ أطراف السرير وانهمر بنقاط على الأرض. وشلت حركة آه يانغ وارتجف، كما لو أنه في نومه.

وعندما كبرت، أخبرني الوالد بفظاظة:”لم نستعمل المخدر كي لا تفقد وعيك”. 

ولزمت الصمت. ومع ذلك فكرت أن “الوعي” ينفع قليلا ولكنه يزيد من حساسية الإنسان للألم. وحتى هذا اليوم يوجد على رف الكتب عندي زجاجة صغيرة أنيقة، وتحتوي على شيئن اثنين يمكن ملاحظتهما بالعين المجردة.. خصلة من الشعر، مقصوصة من رأسي عندما كنت بعمر عام واحد. وحصوة صغيرة مستديرة بحجم حبة بازلاء. والحصوة في الزجاجة هي ما أخرجه من جسمي الطبيب النحيل. وهناك أوقات أتساءل فيها كيف يمكن لشيء مستدير ورقيق كحبة البازلاء أن يسبب لي كل هذا المقدار من الألم. ولكن ما لم يشاهده الجواسيس الواقفون وراء النافذة هو النمر الفضي. أنا من شاهده. بخضم آلامي، شاهدت النمر الفضي مجددا. وكان نمرا فضيا آخر. أو ربما هو نفس النمر الفضي غير أنه بدل طبيعته. النمر الذي كان على سطح بركة البئر لطيف ومشرق. والآخر الذي كان تحت سرير المستشفى الحديدي عنيف ومتحفز. مد النمر الفضي رأسه من الظل الموجود تحت السرير وفتح فمه الواسع والغامض، وعض كاحلي الأيمن. وشعرت بأسنانه تغوص عميقا في عظامي وتجرحها. وشعرت بها وهي تنفذ منها وتبلغ السرير بقوة جامحة. وشعرت كما لو أنها تجرني لظلمة حقيقية. وحاولت أن أقبض على أطراف السرير. وأصبحت ممتنا للأيدي التي أحكمت وثاق أطرافي. وأملت بضغط أقوى ودون شفقة ليثبتني على سرير المستشفى. ولم أكن أريد أن يجرني أحد بعيدا. قلت:”ساعدوني. إنه يريد أن يحملني لمكان بعيد”.

ولكن لم يسمع ولو شخص واحد ما أقول لا من داخل ولا خارج الغرفة. كانت الجراحة قد وصلت لذروتها. ولم يكن لديهم أي نية بالرحمة. وتعبت يداي من التشبث لكن لم أفلت أطراف السرير. في الحقيقة نزفت من مكانين خلال الجراحة. كان عضو آه يانغ ينزف. وكاحل آه يانغ أيضا كان ينزف. نوع من الوجع هناك، ونوع آخر هنا. هل يمكنني الكلام عن المسألة هكذا؟. كنت أريد أن تفهم أن النمر الفضي كان حاضرا فعلا. وجاء عدة مرات. وعلامات أسنانه محفورة بجسمي لهذا اليوم. قاومت النمر الفضي لثلاثة أيام وليال. وخلال الأيام الثلاث والليالي الثلاثة تلك فقدت كل شعوري بأي شيء في المستشفى. وكانت الساحة هي السرير الحديدي، وهناك قاومت النمر بكل استطاعتي وانتصرت في النهاية.

وفي صباح اليوم الرابع، وصل الخال الخامس وحملني من المستشفى على ظهره الأحدب. واستلقيت على ظهره وشاهدت الحقول الواسعة المنبسطة خارج المستشفى. وشعرت بالريح الباردة تهب من الشمال وتداعب خدي المتورمين. استلقيت على ظهر الخال الخامس ونحن نعبر من حقل إلى حقل آخر من هذه الأرض الباردة وسنابل القمح، حتى بلغنا القرية. ولاحظت العصافير التي تطير من أطراف البناية، بأسراب وجماعات محدودة العدد، كما كانت دائما. وقفت الجدة الصماء تحت الشرفات، وهي تلوح لي من مسافة بعيدة. وقفت هناك تنتظر لثلاثة أيام وثلاث ليال. وسألت كل العائدين من مدينة رونغتانغ عني. كان سؤالها يتكرر:”هل بكى آه يانغ؟”. وأتيت إلى جدتي محمولا على ظهر الخال الخامس. قلت في أذنها:”يا جدتي آه يانغ لم يعول. آه يانغ عاد الآن”.

وكان صوتي هامسا وناعما بالنسبة لي. وراقبت جدتي وهي تغطي عينيها فجأة وتبدأ بالنحيب. ونسيت أن تغطي فمها. كان فمها متعبا وفارغا، ثم فتحته، وأصبح كبيرا ومستديرا، أمامي. ولم يكن فما جميلا يستحق أن تنظر له. في الأيام التالية، حينما أصبحت مثقفا في لاوشينغ، بحثت عن طريقة لأكتب عن الكوخ الذي عشت فيه خلال طفولتي مع جدتي الصماء. كتابة بسيطة وصريحة. إن قمت بزيارة الريف المحيط ببلدة رونغتانغ الآن، لن تمر بأي كوخ بهذا الجمال. جدران البيت كانت بسمك قدمين ومصنوعة من التراب والطين. أو بالأحرى من التراب المطروق. والرجل الذي بنى البيت كان يستعمل الطين، ثم يطرقه بعصا قوية ويكومه. وما بين التكويم والطرق يستغرق الجدار الواحد عدة أيام ليكتمل.  واستمتعت بصوت العصا وهي تخبط التراب المبلول. ذلك الصوت كان يذكرني بالريف. كان السقف مصنوعا من بساط قصب مجدول، مغطى بأعواد القمح الذي يوفره حصاد موسم الخريف. كانت مكومة بطبقات ومهارة. واستعمل البناء حجرة مسطحة ليرتب كل طرف من حزم القش حتى يصبح متساويا. ثم شذب الطرف الآخر بمقص واستبعد بحرص الأعشاب والأجزاء المكسورة. حتى أن إضافة عيدان السقف كان بنظام مثالي، استمر القش أصفر وطازجا ولماعا لستة شهور وربما أكثر. وتذكرت العناية الخاصة التي التزم بها البناء وهو يوضب الأطراف، دون أن يشعر بالتخاذل أو تمام الرضا. وبعد أن انتهى، ألحق كوخ الجدة الصماء العار ببقية البيوت. كان له باب ونافذة في المطبخ. وأمام النافذة غراس شجرتي أكي دنيا، وحينما بلغت التاسعة من عمري كانتا قد أصبحتا طويلتين ومزدهرتين، وأطول من أفاريز البيت. 

وأنا أتكلم عن كوخ فارغ. وكما يعرف الجميع، عندما توفيت الجدة الصماء دفنت في حديقة الخضار أمام البيت. ومن ناحية أخرى تقدمت بعمري وتجاوزت التاسعة وفي النهاية ركبت القطار وسافرت إلى لاوشينغ وأسست بيتا. وفي الحقيقة أنا أتكلم عنه كبيت فارغ. لم يكن فيه أحد. فقد غادر كلانا أنا والجدة، ولكن غادرنا بطريقتين مختلفتين. وكلما واجهت الكوخ أشعر بالاضطراب. وكنت أشعر بضرورة ملء فراغه بأشياء ليس لها شكل محدد. ربما عبير الطعام يفيد بذلك. وربما رائحة لحم الخنزير المسلوق وكعك الذرة. وقبل أن أبلغ تسع سنوات، وكلما أنهكني المرض، أو سقطت في الماء، أو سقطت من شجرة صفصاف أو دراق طويلة، وكلما جرحت أو تلقيت ضربة، أو تفاديت الموت بصعوبة، كان مطبخ الكوخ يكفي بما فيه من روائح الأشياء الطيبة لأستعيد توازني. كنت ألتهم خنزير الجدة المسلوق كل عام تقريبا. وكعك الذرة المصنوع باليد كان رقيقا ولذيذا، طرف يشوبه لون بني، وطرف لونه أصفر شاحب. وعلامات اليدين على سطح الكعك كانت واضحة ومؤثرة.

في تلك الأيام المشحونة بالعبير، كانت البنت جوان الصغيرة تأتي دائما باكرا لنلعب حتى يحين وقت الطعام. وكانت جدتي تعزيني بقولها:”علينا جميعا أن نشارك آه يانغ”.

وقالت لي أيضا:”لو شاهدتك جوان وأنت تأكل كعكة الذرة، عليك أن تقدم لها قطعة. وكلما شاهدك شخص ما تأكل، عليك أن تدعوه ليشاركك طعامك”. وشرحت لي أن الطعام يصبح مر المذاق إن نظر إليه الناس لفترة طويلة، ويسبب بالتالي المغص. وأنا متأكد تماما أنه لم يراقب الجدة أحد وهي تجهز كعكة الذرة لآخر مرة. كانت تتلكأ في المطبخ، ومن الواضح دون رغبة بمغادرته. وأنفقت كل يومها فيه. وطيلة اليوم من الصباح حتى المساء، كان دخان الموقد يهب من المطبخ بشكل حلزوني. وفي ذلك اليوم صنعت الجدة خمسمائة وواحدا وستين كعكة ذرة. كل كعكة منها كانت لذيذة، وأفضل مما كانت تفعل في السابق.

ولأنني حرمت من المخدر خلال الجراحة، وهو ما ضاعف من آلامي، قدم الوالد غفارة متواضعة تدل على الندم. 

أحضر لي من بلدة رونغتانغ جرسا صغيرا نحاسيا، بحجم حافر ثور، مع مطرقة مصنوعة من خشب القصب، والطرف العريض ملفوف بالقماش بإحكام. وقدم لي الجرس والمطرقة، وهو يقول:”آه يانغ، لو أنك شعرت بأي ألم، فقط اقرع الجرس هذا بقدر ما يمكن”. 

سألته ولماذا أفعل ذلك.

رد الوالد:”إذا قرعت الجرس، سأسمعك، وسأحضر وأحملك إلى المستشفى”.

نظرت للجرس النحاسي الصغير، دون أن أتجرأ على لمسه. ولكن في ذلك اليوم، بعد أن جهزت كعكة الذرة، قالت الجدة فجأة لي:”اذهب يا آه يانغ إلى القرية في ظهيرة الغد واقرع جرسك”.

سألتها لماذا. فركت الجدة أذني وقالت:”فقط نفذ ما طلبته منك”. 

وراء الكوخ توجد أرض الخضار، وبعدها بركة البئر. وأمام البيت حقول القمح - حقل بإثر آخر. وفي الشتاء، لا توجد فاصولياء وراء البيت. ولن تجدها مهما حاولت. وكل شيء حول الكوخ يتبدل مع تبدل الفصول. وما يجب أن يتوفر هناك في الربيع تجده في الربيع. وما يجب أن يتوفر في الصيف تجده هناك في الصيف. وما يجب أن يتوفر في الخريف تجده في الخريف. وما يجب أن يتوفر في الشتاء تجده في الشتاء. وعليه لا تجد فاصولياء حمراء وبيضاء.

حينما بلغت التاسعة، أصبحت جذوري قوية. وحينما بلغت التاسعة، تركتني الجدة الصماء. كما لو أنه اخترقتها موجة، وماتت تقريبا بسبب الخزي والخجل. تركت ثيابها مغبرة ولم تغسلها. والجميع ذكروا أنها عندما كانت شابة أصغر بالعمر كانت شديدة النظافة وجذابة جدا. كانوا محقين. لم تتمكن من تحمل أحوالها، وفي آخر بضعة أيام غالبا ما كنت أسمعها تكلم نفسها وتقول:”أنا قذرة، يجب أن أموت”. وغابت الشمس، وسطعت من قرية بعيدة. أخرجت الجدة الصماء كعكة الذرة، وقدمتها للجميع تقريبا في القرية. وتمشت بهدوء، بخطوات ثابتة. ولم تلمس قدماها التراب إلا لمسا خفيفا وهي تقدم آخر هداياها للجميع. وطيلة الليل انتشر عبير كعك الذرة في كل أرجاء القرية. وربما كانت تلك الرائحة الثقيلة هي التي أبقتني مستيقظا في تلك الليلة.

ربتت الجدة على لحافي القطني وهي تقول:”نم”.

ولم أرغب أن أغضبها، وتظاهرت أنني نائم. ولكن وسط ظلمات طفولتي، وصلت لأذني أنعم الأصوات، وعيناي شاهدتا كل الأشياء المتحركة. وكان هذا النمر الفضي مختلفا. وربما كان هو نفس النمر الفضي، ولكنه بدل مجددا طبيعته. كانت حركاته بطيئة وحرة كلما اقترب.  وقف أمام باب الكوخ مثل مقعد حجري قديم. باردا وثقيلا. وفي تلك الساعة حين رأيت النمر الفضي لم أكن أعلم أنه نمر، ولم أحسن تفسير لونه، ولا سطوعه. وعبارة “النمر الفضي” شيء فاجأني لاحقا، حينما تقدمت بالعمر، وهي عبارة استعملتها لوصف خبرات أيام شبابي. كان “النمر الفضي” واحدا من البركات التي ضمنتها بعد سبعة عشر عاما من التعلم. وهو ما يعرف باسم “عبارة مركبة”، والعبارة المركبة، كانت ترتبط بكلمات وعبارات غيرها لإغناء كلامي. وفي نفس الوقت كصورة مرئية كانت تضيء مجال خبراتي. وقد استندت الجدة الصماء على شجرة الأكي دنيا الموجودة على يسار النافذة، ووقفت على حجرتين مكسورتين سقطتا من المدخنة، وجرت نفسها بصعوبة لتصعد على ظهر النمر الفضي. كان النمر مطيعا. ويبدو أنه أحنى رأسه وركبتيه. فصرخت “لا تذهبي يا جدة. لا يمكنك أن تسمحي له أن يحملك بعيدا. لا تذهبي. لا تدعيه يأخذك بعيدا”.

هكذا صرخت، وتابعت الصراخ حتى أول خيط من الفجر. وفي ظهيرة اليوم التالي، ذهبت إلى القرية لأقرع جرسي. وقرعته في كل أرجاء القرية، قرعت الجرس وأنا أعدو. وكلما أسرعت بخطواتي ارتفع رنينه، وكلما ارتفع رنينه تضاعفت سرعتي. كنت سريعا، وكنت عالي الصوت. وتمنيت أن أتوقف، وأن يحملني الخال الخامس إلى أمي وإلى أبي. وتمنيت أن أستلقي على ظهره الأحدب وأودع دونغ والخالة ما والبنت الصغيرة جوان التي ستلحق بي.

وسأقول:”لا تتبعيني. عودي أدراجك”.

***

..........................

* الترجمة من الصينية: إريك أبراهامسين بتمويل من مشروع نانجينغ للمواهب الأدبية الشابة.

لو يانغ Lu Yang كاتب صيني معاصر.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم