صحيفة المثقف

طارق بوحالة: القلق الوجودي في رواية جريمة في مسرح القباني لباسم سليمان

يتخذ الأديب السوري باسم سليمان من الكتابة "شعرا وقصة ورواية ومقالا صحفيا" مساحة للبوح يسجل فيها أهم مواقفه من الحاضر العربي عموما والسوري خصوصا.  وهو يملك في رصيده الإبداعي أعمالا كثيرة، يمكن أن نذكر منها: مجموعة قصصية بعنوان: تماما قبلة، صدرت عام 2009،  ورواية "نوكيا" الصادرة عام 2014، و"جريمة في مسرح القباني" وهي روايته الصادرة عن منشورات ميم الجزائرية عام 2020، وفيها حاول باسم سليمان المزج بين أساليب عديدة.

تستحضر هذه الرواية مدينة دمشق  لتجعل منها فضاء رحبا  تتمسرح عبره أحداثها المختلفة، ويلجأ باسم سليمان إلى استدعاء مجموعة من الأمكنة "الخاصة" التي لها علاقة عضوية بالخطاب العام المؤسس لتمفصلات الرواية. فمقر الشرطة، ومسرح القباني، وجسر الرئيس، ومزة الجبل، وحارة الخزان وغيرها هي الأمكنة التي تم توظيفها قصد رسم معالم الشخصيات الرئيسية التي تلعب دورا بارزا في تشكيل الأحداث الفاعلة فيها.

ونعثر على شخصيّات المحقق هشام والمساعد جميل وبائع الكتب المستعملة وعبد الله بن أمة الله الذي يعد بمثابة الخيط الجامع لخيوط العملية السردية، كونه "الضحية" التي تدور حولها التحقيقات بهدف كشف تفاصيل الجريمة.  كما يستدعي الروائي شخصية من الواقع السوري وهي المحامي السوري " هائل منيب اليوسفي" الذي كان يكتب نصوصا للتمثيلية الإذاعية "حكم العدالة" . وقد اقترضت الرواية من هذه التمثيلية شخصيتي المحقق هشام والمساعد جميل.

وتحاول رواية "جريمة في مسرح القباني" الغوص في العوالم الجوانية لأهم شخصياتها، ويتجلى ذلك من خلال البحث في مواطن الصراع النفسي الذي تعيشه شخصيات كل من المحقق هشام وأحدب جسر الرئيس وعبد الله ابن أمة الله. ونجد شخصية المحقق التي تتجسد في الرائد هشام، الذي يشرف على عملية التحقيق في جريمة مقتل عامل النظافة ومحرك الدمى "عبد الله بن أمة الله" يوم عيد الأضحى في مسرح القباني، ويتعرف هذا المحقق على أحدب جسر الرئيس بائع للكتب المستعملة، أين كان يزوره في بسطة الكتب لاقتناء  بعض الكتب.

أما شخصية أحدب جسر الرئيس فهي من الشخصيات المحورية التي تنبني عليها أحداث الرواية، فهو المتهم الرئيس في جريمة قتل عبد الله بن أمة الله الذي وجد جثة هامدة في مسرح القباني، خاصة وقد كانت بينهما علاقة صداقة. ولبائع الكتب المستعملة حكايته الخاصة التي ترسمها الرواية، فهو...القادم  من مدينة حلب عام 1979 إلى دمشق هربا من ثأر يطارد عائلته، كانت  انفجارت الأزبكية بدمشق عام 1981 سببا في إصابة ساقه مما خلف أيضا حدبة في ظهره ، كان يعمل حارسا ليليا في مسرح القباني، وبائعا للكتب المستعملة في، وهو الأمر الذي سهل عليه أن يعيش متنكرا عن الذين يطاردونه قصد الثأر منه...  (ص25)

ويتم اتهام أحدب جسر الرئيس بجريمة قتل عبد الله بن أمة الله، كونه كان حاضرا في مسرح القباني وقت الجريمة، صبيحة عيد الأضحى. غير إنه يدافع عن نفسه قائلا: " طلب مني زجاجة ماء، فهرعت إلى محرسي لأجلب له ما يروي عطشه، ولما عدت وجدته مستلقيا على خشبة المسرح. تحيط به الدمى ومن ضمنها دمية الجثة التي تمسك بخيط يلتف على رقبته، فيما تقبض الدمى الأخرى على ثلاثة خيوط. تنطلق من يده اليسرى وساقيه، بينما بقيت يده اليمنى حرة من قيد الخيط، ظننت أنها خدعة أو مزحة ثقيلة منه، إلا أن ذلك لم يدم طويلا ، فقد كان ميتا، لم أدر ماذا أفعل، فاتجهت كالمسرنم واتصلت بمخفر الشرطة مبلغا عن وجود جثة على مسرح القباني. (ص 30)

أما الشخصية الثالثة فيمثلها عبد الله بن أمة الله،  وهو  "للحقيقة لا يملك اسمه الأول، فكما نعرف، اللقيط لا يوضع على بطاقته الشخصية اسم الأب والأم والنسبة، هو من النازحين من تفجيرات الأزبكية في الثمانينات من القرن الماضي، لقد وجده أحد الجنود ملقى على الأرض بجانب الحطام الذي خلقه التفجير يلفه قماط قد اسود وأكلت النار بعض أطرافه، مما تسبب له بحرق كبير في وجهه وحروق متفاوتة في جسده، ليودع في الأخير في ميتم زيد بن حارثة...  (ص22)

وترتبط شخصية عبد الله بن أمة الله بلحظة حزينة من تاريخ سوريا تعود إلى عام 1981 على إثر تفجيرات   الأزبكية التي خلفت  حوالي 175 ضحية، السبب الذي جعل "عبد الله بن أمة" يعيش في ميتم زيد بن حارثة في دمشق، وبعد بلوغه السن التي تسمح له بمغادرته، يجد نفسه في الشارع مستقبلا حياته الجديدة التي يبدأها عامل نظافة يجوب شوارع وحارات دمشق.

يمتلك عبد الله بن أمة الله هواية جمع الصور وتحريك الدمى، فهو موهوب في هذا الفن، إذ يشكل بالدمى التي يمتلكها عالما موازيا للعالم الحقيقي الذي لم يمنحه إلى وجها مشوها وهوية مضطربة. ففي هذه الدمى يبحث عن هوية بديلة، هوية غير مجروحة، وذات متخففة قدر الإمكان من العنف والفوضى والمعاناة. كما تستمد هذه الشخصية وجودها من الواقع الخاص الذي تعيشه سوريا منذ سنوات عديدة.  ويجعل عبد الله بن أمة الله من عالم الدمى نوعا من التعويض عما تعيشه الذات المقهورة جراء ما تعيشه باستمرار. كما إنه كان يعول على جمع الصور أن يجد نصفه المشوه، باحثا فيها عن عائلته، وعن أهله، ولكن هيهات.

وتُظهر هذه الرواية على موقف وجودي خاص، حيث تؤخذ شخصياتها المحورية مهمة تبيان هذه الحالة، التي تتحول مع تنامي أحداث النص إلى نوع من القلق،  الذي ينسحب على كثير من الأفراد  في عالما العربي الجريح.  لهذا نقع على نوع من التداخل بين مصائر هذه الشخصيات، إذ يتجلى كل ذلك ضمن إطار نسيج سردي تتوزع فيه الأدوار وتتباين الأفق، رغم تشابه أسباب ومنطلقات رؤيتهم لهذا القلق الوجودي. وهو ما يتجسد بشكل لافت مع المحقق هشام وبائع الكتب المستعملة وعبد الله بن أمة الله.

ويتداخل في هذه الرواية أيضا عالم البشر بعالم الدمى، فهما يتقاسمان النظرة نفسها إلى المصير المشترك، فكل من شخصيات العالم البشري ودمى العالم الموازي تنطلق من رؤية فجائعية للعالم،  وهي خاصية لصيقة بهذه الرواية، مما يجعلنا نضعها ضمن "حساسية" خاصة تجمع بين المتناقضات، حيث نعثر على حالات الحدّ والشبهة، والشفقة والنقاء والتضحية والثواب والعقاب والتحول والخطيئة ...الخ، وهي الحالات التي  لا يمكن إلا أن تجتمع في الإنسان كونه كذلك.

تستمر أحداث الرواية ضمن مخطط سردي يطبعه طقس شعائري، تمتزج فيه مواقف عديدة تجاه الوجود الإنساني،  ومصيره المحتوم، كما يختلط الدنيوي بالمقدس، وذلك من خلال تمثيل سردي تتماثل فيه قصة الأضحية كما جاءت عند النبي إبراهيم عليه السلام، بحيثيات موت عبد الله بن أمة الله صبيحة عيد الأضحى، وما لهذه الحادثة من رمزية خاصة. وكذا حضور قصة قابيل وهابيل وعلاقتها بقتل الإنسان لأخيه الإنسان انطلاقا من فرضية الإزاحة من المكان.

أما "الجثة" فهو اسم "دمية" من عالم الدمى الذي يملكه عبد الله بن أمة، وهي بطلة مسرحيته التي وسمها بـ "مسرحية الجثة"، التي يحصل عليها المحقق هشام بعد زيارته لغرفة الضحية. وتدور أحداث المسرحية  بمناسبة الحوار الذي يدور بين الجثة ومنكر ونكير، لهذا هذه فإن هذه الفكرة تحيل على الصورة المتخيلة لما قد يقع للإنسان بعد موته.

تبقى رواية جريمة في مسرح القباني من الروايات المحفّزة في كل مرة على القراءة، والسبب في ذلك أنها تتمنع على الرؤية الوحيدة والقراءة النهائية، خاصة وقد ركزت على الأسلوب السردي البسيط. والطرح الفكري المركب؛ بمعنى إن الروائي باسم سليمان يسعى جاهدا إلى الاعتماد في تشكيل نظرته العامة على مخزونه الثقافي والمعرفي المتميز، مما يوفر للقارئ طبقتين؛ الأولى ترتبط بروح  شفافة سردا ولغة، والثانية طبقة معرفية وفكرية واسعة ومركبة. وقد تم له ذلك من خلال شخصيات عمله ومدى انخراطها في التعبير عن واقع قلق متوسلة بخطاب يحاول تفكيك جملة من الأسئلة الوجودية المتعلقة بمصير الإنسان الذي أصبح تائها.

 

د. طارق بوحالة - الجزائر

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم