صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الذاكرة والمصير.. قراءة في فكر فتحي التريكي (1)

محمود محمد عليتقديم: لا شك في أن الإنسان العظيم كالمحيط الواسع، في أي ناحية تنظر إليه تراه يعانق السماء، ويوحي لقاء الأفق هذا بالارتفاع، بكل مضمونات الرفعة المعنوية والرفعة المادية معاً، لأنك في كل ناحية ترسل نظرك فيها تجد جمالاً أو فضلاً، وتقتنع فوراً بأن العين لم تحط بعد بكل الجمال الذي فيه، ولم يدرك العقل بعد كل الخير الذي احتواه.

والأستاذ الدكتور فتحي التريكي (30 مايو 1947......... )، الأستاذ المتميّز في الفلسفة، وصاحب كرسي اليونسكو بالعالم العربي، ونشهد للمناضل الديمقراطي والمفكّر النّابه بانخراطه في القيم الكونية وخوضه لأعوص القضايا العقلانية، تحت مسميات متعددة " معقولية التنوع "،"فلسفة الحداثة "، " العقل والحرية"، " الحداثة وما بعد الحداثة" ؛ إضافة إلى دراساته بالفرنسية عن " الروح التاريخي عند العرب " و" استراتيجية الهوية"، والفلاسفة والحرب" (1).

وقد وجدت رؤية فتحي التريكي (مع حفظ الألقاب) اهتماما لدي عدد من الباحثين خاصة في تونس والحزائر، ممن تناولوا الموضوعات التي كتب فيها بالبحث والتعليق من تلاميذه المتكثرون في الجامعات العربية والذين يميلون إلى تأكيد الرؤية الفلسفية البديلة التي يطرحها، وهي روج النقد والمعقولية، والتعدد، والتفتح، الداعية للصداقة والغيرية والعيش سويا، وهو يمثل بالنسبة لهم رامزا رأسماليا وفق تعبير بورديو من كونه سلطة معرفية (2).

وهذا واضح من خلال كتابه الأخير الذي بين أيدينا، وهو كتاب "الذاكرة والمصير: محطات في سيرتي الذاتية"، التي صدرت عن الدار المتوسطية للنشر بتونس عام 2020م، حيث يطرح رؤيته الخاصة لما يسميه بالسيرة الذاتية الفلسفية، من خلال كتابته عن سيرة الفكرة في ولادتها وطفولتها ومراهقتها وشبابها وكهولتها وشيخوختها، وفي علاقتها الجدلية مع حياته الفردية والجماعية، مع الحميمي والسياسي، وتلك معادلة ليست يسيرة التحقيق ؛ خاصة وأن فن السيرة الذاتية الفلسفية عند فتحي التريكي فيه "نوع من الحكي الروائي الذي يستعين بجماليات الأسلوب، وبالقدرة على التخييل في تصوير عالم زماني مكاني. ومع ذلك، فإن السيرة الذاتية هنا في نظر فتحي التريكي تختلف عن الرواية في أن العالم الذي تصوره هو عالم الذات، أو هو العالم كما تراه الذات الساردة، بينما هناك في الرواية عوالم ورؤى مختلفة للذوات التي ينسجها المؤلف في إطار عمله" (3).

كذلك في هذا الكتاب أكد التريكي أن القارئ سيجد فيه نوعا من التقاطع بين الذكريات والمذكرات والسيرة الذاتيّة دون أن ألتزم بقواعد السيرة الذاتيّة وشروط سرد الذكريات ومتطلبات الكشف عن المذكرات... ليس ذلك بسبب عسر كشف الذات أو نتيجة تضخيمها... إنّما ليكون هذا التقاطع مؤشرا على موضوعيّة التّمشي وصدق المبتغى. فسرد مسيرتي الذاتية يتطلب تداخلا بين هذه الأجناس وبين أدبيّات أخرى كالرواية والتاريخ والفلسفة لذلك لم أتوخّ السرد فقط بل استعملت التفكير الفلسفي أحيانا والتحقّق التاريخي أحيانا أخرى كما استعدت زمن البدايات واستشرفت زمن المصير كاشفا ميولاتي وقناعاتي معلنا نجاحاتي وخيباتي مستحضرا صداقاتي وخصوماتي... وأنا الآن بصدد إعداد الجزء الثاني الذي سأتناول فيه بنفس الأسلوب مسيرتي الفلسفيّة بحثا وتدريسا في الجامعة وخارجها والتي لا تخلو هي أيضا من تجارب حملت لي صداقات وخصومات سأذكرها وأذكر أصحابها بالاسم أحيانا ومنهم من رحل عن هذه الدنيا لتكون هذه المسيرة مساهمة مني في إلقاء بعض الأضواء على فترة مهمّة من تاريخ الجامعة التونسية التي هي جزء من تاريخ تونس المعاصر المفترى عليه في كثير من أحداثه وشخصياته (4).

ولهذا يعد كتاب " الذاكرة والمصير " من الدراسات القليلة التي تناولت فلسفة السيرة الفلسفبة، وهو كتاب جديد في أسلوبه، ومتميز في ومنهجيه، ويعد إضافة معرفية نوعية من بابه ؛ نظراً لما يقدمه من رؤى وأفكار، وليس ثمة غرابة أو مغامرة في أن يخوض فتحي التريكي محطات في سيرته الذاتية"، ومن بين هذه المحطات : محطة مرحلة ثورة الياسمين ولحظة سقوط نظام "زين العابدين بن علي" وما بعدها وما رافق ذلك من خوف من صعود الإسلاميين واستحواذهم على السلطة والمؤسسات، وفي هذا ندرك كيف يُنْزِل الفيلسوف الفلسفة إلى الشارع ليرافق المتظاهرين وليصنع السؤال الفلسفي الذي يحاور ويفكك حلم التغيير الذي رفعته الآلاف التي أسقطت الديكتاتور، وكيف يسهم الفيلسوف في صناعة يوميات الثورة من خلال المشاركة في التظاهرات وأيضاً من خلال عضويته في "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"؛ وبهذه السيرة الذاتية التي قدمها لنا فتحي التريكي، ندرك بأن زمن الفيلسوف الذي يعيش في البرج العالي قد ولّى في نظر فتحي التريكي، وهذا زمن جديد قد حل حيث لا وجود للفلسفة والفيلسوف إلا في معترك الحياة اليومية، فالمفاهيم تنحت من مساهمة الفيلسوف في التغيير ومن حركية التاريخ الذي يصنعه اليومي في تفاصيله الغنية (5).

ومن عادتي عند قراءة كتاب لا أعرف محتواه، أن أخمِّن موضوعه من عنوانه، وغالباً ما يكون تخميني صحيحاً؛ فحسب علمي لم يكتب قبله كتاب في موضوع "فلسفة السيرة الذاتية "، وشرح أفكاره الفلسفية بطريقة نقديَّة، وهذا واضح من خلال التوجّه التي سار عليه " فتحي التريكي" في هذا الكتاب الذي بين أيدينا، حيث يقول :" المحطات المتعددة من مسيرتي الذاتية ستكون دون ترتيب زمني صارم، وقائمة على تنظيم له منطقيته الخاصة.. تجربتي في الحياة ثرية فيها خيبات مريرة وفيها نجاحات عديدة ولكنها مسار نضالي متعقل وجودي أحيانا واجتماعي أحيانا وسياسي لا محالة.. يسرني الكشف هنا عن بعض جوانيها خدمة لمبادئ ظلت تصاحبني في مسار حياتي وأعني التآنس والتآزر.. سيجد القارئ هنا نوعا من التقاطع بين الذكريات والمذكرات والسيرة الذاتية دون أن ألتزم بقواعد السيرة الذاتية وشروط سرد الذكريات، ومتطلبات الكشف عن المذكرات.. ليس ذلك نتيجة عسر كشف الذات أو نتيجة تضخيمها.. إنما بالنسبة إلى يكون هذا التقاطع مؤشرا على صدق التمشي وموضوعية المبتغي. فسرد مسيرتي الذاتية يتطلب تداخلا بين هذه الأجناس وبين أدبيات أخرى كالرواية والتاريخ والفلسفة لذلك لم أتوخ السرد فقط، بل استعملت التفكير الفلسفي أحيانا والتحقق التاريخي أحيانا أخرى كما استعدت زمن البدايات واستشرفت زمن المصير كاشفا ميولي وقناعاتي ذاكرا نجاحاتي وخيباتي مستحضرا صداقاتي وعداواتي (6).

2-أهمية الكتاب:

إن البحث الفلسفي في فكر " فتحي التريكي " تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث وليس مجرد مجموعة من النقول والشروح والتعليقات المفتعلة. وعلاوة علي ذلك فإن جدية " فتحي التريكي " وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكرية والسياسية، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربية عموما، والمجتمع المصري خصوصا، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرقه وخاصة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصلية.

ولهذا يعد " فتحي التريكي " واحداً من أبرز الوجوه الثقافية من أساتذتنا المعاصرين، وهو يمثل قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ ربع قرن باحثاً ومنقباً عن الحقيقة والحكمة. إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته فهو ينقب في ثنايا الفكر العربي الحديث والمعاصر، لكنه لا يسلم به من ما يكتب عنه من قبل زملائه الباحثين، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله هذا الفيلسوف أو ذاك من أعلام الفلسفة الشوامخ.

وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه الورقة، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في الفلسفة، وقد اخترت كتابه الذي بين يدي وهو بعنوان " الذاكرة والمصير: محطات في سيرتي الذاتية "، حيث يعد هذا الكتاب واحداً من تلك المؤلفات التي عني بها مؤلفها " فتحي التريكي " بالدفاع عن "فلسفة السيرة الذاتية".

وهنا " فتحي التريكي" أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلي مستوي علمي رفيع، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين :

الدافع الأول : نظري معرفي، يقوم علي ضم الفروع والجزئيات بعضها إلي بعض، والتماس الروابط بينها، وصياغتها في حبكة فلسفية ممزوجة بالأدب، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب، أو الدافع الظاهري أيضا.

الدافع الثاني : واقعي دعوي، يقوم كما يقول المؤلف :" من الصعب جدا كتابة السيرة الذاتية لأن ذلك يتطلب استنطاق الذاكرة واستحضارها لتتأقلم مع حاضر لم تكن فيه وتأول حاضرا غادرته... هناك توتر بين حاضر مضي وحاضر سيمضي.. وهو توتر بين نقطة الاستهراب التي تميز الإحداثيات ونقط التجذر التي تشد القول والفعل إلى سمات الماضي والأصل. ولأن الحياة ذاركة والحب ذاكرة و" الذاكرة " هي البرهان الأنقي " للحاضر".. وهنا أيضا تكون الذاكرة هي الحياة والذاكرة هب الحب، وهي المصير وهي الموت (7).

لقد استطاع " فتحي التريكي" الوصول إلي نتائج ترفع من مستوي القارئ، وتجعله يقترب بسهولة من الكتاب إلي درجة الألفة والاستئناس، ويمكن إيجاز هذه الجوانب الإيجابية من المؤلف ما يلي :

أولا: الجانب التعريفي : لقد جاء الكتاب مفعماً بالجانب التعريفي من حيث أن المؤلف إنصاع المؤلف في هذا الكتاب لمغامرة "سردية الذاكرة " بما فيها من "عواطف وشعور" وكذلك من "العقل وتدبير الحياة" وأيضا بالخصوص من " أخلاقيات التعامل مع البشر والحيوان والطبيعة ". هذه المحاور الأساسية الثلاثة هي التي تؤثّث كتابه الجديد "الذاكرة والمصير، محطّات في سيرتي الذاتية" (8).

ثانياً : التتبع الدقيق للمتعة النصية من خلال من خلال أسلوبه الشيق الذي يحلّق في محطات كثيرة إلى مرتبة "الكتابة الأدبية"، لغة وتصويراً وتخيلاً، ولكنه وفي الوقت ذاته يقلّب مواجع تونس وأحلامها متقاطعة ومتناغمة مع أحلام ومصاعب فتحي التريكي نفسه، حيث يقول فتحي التريكي :" ذاتيتي هي عصري الذي عشته بحوارحي وتعقلي بقوة وجداني وصبر معقولياتي.. نعم هويتي هي ذاكرتي، ولكنها أيضا مصيري صنعته بعقلي وممارساتي ونضالي وانصهاري في الهنا والآن.. فالممارسة التذكيرية تتراوح بين الاعتراف والتعريف والكشف والتعرية من ناحية وبين ضبط وحدود المباح والتستر وفاء أو تشفيا عن اللامعقول.. فلن يجد القارئ هنا كل ما هو حميمي خاص.. ولن أنغمس في طيات حياتي الخاصة.. ذلك شأني لا أتقاسمه إلا مع ذاتي.. كذلك لن أتعمق في مسيرتي الفلسفية لعل الظروف ستتيح لي يوما كتابتها بإطناب (9).

ثالثا: الإحاطة الجيدة لحدود الموضوع المدروس، لقد أبان فتحي التريكي عن حسن تبصر، وعن رؤية واضحة للموضوع المدروس، مما جعله متمكناً من المعلومات التي يعرضها، فلقد استطاع أن يوجهها لخدمة المرجعيات الأساسية التي شكلت المنطلق الأول لتكوين فكره الفلسفي بداية من "السندباد البحري"، مروراً بـ "حي بن يقظان"، وصولاً إلى كتابات كل من جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وطه حسين والعقاد من المكتبة العربية ومن المكتبة العالمية سيبدأ رحلة القراءة بألفونس دودي وفيكتور هوغو وألكسندر دوما وجان جاك روسو والبيان الشيوعي لماركس وإنغلز وفرويد... لكن فوق كل هذه القراءات، سيظل الشابي هو المسيطر على اهتمام فتحي التريكي الشاب، ليلتحق به لاحقاً بدر شاكر السياب. (10).

رايعا : ربط الفلسفة بالشعر، حيث يتضح لنا ذلك من خلال لغة فتحي التريكي الشعرية، حيث يقول : " لا أنكر أني قريب من ذاتي جدا.. اهتم بها واعتني بكل جوانبها.. أصقلها يوميا بالمعارف والبرهان.. أجملها بالفنون والعرفان.. أنقدها وأنقذها إن حادت.. أعاقبها إن شذت.. أعاتبها إن انتفخت أو تجبرت.. أسمو بها إلى المرفق لتسكن الحب السرمدي، عالم السكون الأبدي.. المطلق.. ولكني قريب أيضا من ذات الغير.. أحاورها وأزاحمها.. أصقلها بالعلم والوجدان.. أعاهدها الأمان.. أنسي أنها في الأصل ذئب للإنسان.. وأترك الزمن للزمان فإن صدقت وحسنت عشرتها نالت صداقتي ومحبتي.. وإن انحرفت وكشرت عن أنيابها ابتعدت عنها حافظا لكرامتي ولكرامتها.. والغير أيضا غير الإنسان.. هو الطبيعة والنبات والحيوان.. عشت في الطبيعة طفولتي وشبابي وشيخوختي كوجود لا كمكان.. أحتفي بها إن كانت حجارة وترابا أو ديكا وغرابا أو حيوانا مؤذيا كالعقرب والثعبان.. ذاتي قريبة جدا من الذات الأزلية.. ذات الوجود الربانية.. أسمو بسموها.. تفتح لي باب مغادرة التفاهة ومعانقة النقاهة.. فالذات الإلهية منبع الحب والعشق والوله.. تمنحك الوجود السرمدي ليمسي وجودك الوجود.. فالذات إن قربت من ذاتيتها ومن ذاتية غيرها حلت في الذات الإلهية واكتملت (11).. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.............................

الهوامش

1- د. أحمد عبد الحليم : الفيلسوف حارس المدينة، منشور ضمن كتاب العيش سويا قراءات في فكر فتحي التريكي، أوراق فلسفية (15)، دار الثقافة العربية، القاهرةن 2006، ص 13.

2- نفس المرجع، ص 14.

3-فتحي التريكي : الذاكرة والمصير محطات في سيرتي الذاتية، الدار الموصلية للعلم، تونس، 2020، ص 17.

4- المصدر نفسه، ص 18.

5- أمين الزواوي : فتحي التريكي في سيرته الذاتية: من أبي القاسم الشابي إلى ميشال فوكو، مقال بالاندبندنت العربية، الخميس 9 ديسمبر 2021 0:52

6- فتحي التريكي : المصدر نفسه، ص 20.

7- المصدر نفسه، ص 17,

8- المصدر نفسه، ص 18,

9- المصدر نفسه، ص 21.

10- أمين الزواوي : نفس المرجع.

11- فتحي التريكي : المصدر نفسه، ص 21.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم