صحيفة المثقف

عبد الوهاب البراهمي: قراءة في قصّة آدم ورمزيّة البدايات المقدّسة

عبد الوهاب البراهميبداية "القصّة" غواية وإغراء، ثمّ كان ما كان.. فيما يروى من حديث السّماء أنّ الأصل في الإنسان نقصان التّمام. هو آدم، مفضّل الكائنات والمعظّم في الخلق سجودا، لم يمنعه عقله وعلمه بالأسماء من "السقوط". ترصّده الشيطان بمكرَ الحاسد فأغواه، وأغراه أن يكون مَلِكَا متحكّما وأن يقيم في الخلد، في اللذّة الدائمة للنّعيم، فنسي الكلمات ولم يكن له عزما، فانساق نهمًا للحياة: إغراء السلطة وغلبة الموت. أكل من المحظور ثمرة، ظاهرها الجنّة وباطنها العذاب، فانكشف له الضعف والنقصان. لتبدأ رحلة كائن قلق، من نفسه وعن نفسه. لقد ولد الشرّ مكثّفا، في شخصيّة رمزية هي "الشيطان" وتأسّست عداوته للإنسان، أوّل علاقة تهدّد الإنسانيّ في " نزوعه إلى الألوهيّ، في براءته ونقاءه الفطريّ. لقد أعلنت العداوة في فعل الغواية والمكر. وتأسّس الوجود مع "آخر" شيطاني، في أفق صراع أبديّ. أو لم يلازم خلق الإنسان "جدلا" وتحفّظا بل وعصيانا؟ !!. وكان خلق آدم "حدثا سماويّا" أعاد ترتيب المقامات والعلاقات بين الموجودات. وكان "الأمر الإلهي بالسجود" لهذا المخلوق الجديد، قولا تأسيسيّا فارقا للخير والشر، ولثنائيات: النّعيم والجحيم، والملائكة والشياطين، والثواب والعقاب... لقد وقف آدم/ الإنسان أمام مسؤوليته، حينما شهد " الأمر بالسجود له" وما تبع ذلك من حوار سماوي بين الإله والملائكة والشيطان وما أفضى إليه من طاعة وعصيان.. لقد شهد آدم / الإنسان في هذا الحوار حدّ هويّته ومنزلته، وتعرّف على عدوّه ومنازعيه في مقام " التفضيل"، وانكشفت له السبل متفرّقة، في امتحان الإرادة، في القدرة على الطاعة والعصيان. لقد أُريد للإنسان أن يريد، في علم الإله التام أن يقع في "الغواية" لينكشف لذاته قدرة على الاختيار، قدرة على" الطاعة أو العصيان"، عصيان الأمر الإلهي أو امتثالا له. لقد نشأت الحريّة في امتحان "الغواية"، وحمّل مسؤولية  الأمر بالطاعة والنهي عن " تلكم الشجرة" . امتحن الإنسان في " نقصانه"، في الرغبة والنزوع إلى اللذة وفيما يملك من " أسباب القوّة " عقله وعلمه بالأسماء. ووضع آدم/الإنسان في مواجهة أمام نفسه وأمام " شرّ شيطانيّ". إنّ بداية الإنساني حقّا في الحريّة، في مواجهة مصيره أمام "الشيطان" حدّا من حدود الحرّية، من علاقة العداوة معه أو "الولاية " والطاعة. ويجد فيه الإنسان أيضا حدّا لإنسانيته ولا إنسانيته أيضا. يقف الإنسان قبالة" الشيطان" بموجب أمر إلهي: أن يكون الإنسان وأن يكون الشيطان، وبحكم " قرار شيطاني": إعلان الحرب على الإنسان وانتزاع الاعتراف بأفضليته عليه لا بحكم المنزلة من الإله فحسب بل بحكم الأصل أيضا: النّار أو الطين. لقد "أدرك" الشيطان أو "أحيط بعلمه" مواضع الضعف في الإنسان، كونه من طين وللطين شغف بالماء، فكان امتحان " الرغبة" بوصفها شغفا أو نقصانا. وجسّد " الشيطان" هذه الدلالة القصوى للشرّ في التمرّد على الأمر الإلهي واعتراضه على "تفضيل"الإنسان ورفضه الاعتراف به. ليخطّ "لنفسه" وجودا موازيا للوجود الإنساني" ذاتا شيطانية " قبالة " الذات الإنسانية" ، آخر نقيضا، مدشّنا بذلك بعدا للصراع الإنساني مع القوى الخارجية، الخفيّة. غير أن الشيطان بإغوائه الإنسان مكرا وعداوة كشف له تناقضه معه وتناقضه مع الطبيعة أيضا حينما دفعه "بميل الرغبة" على أن يتّجه إلى الأشياء، إلى ورق يلبسه، وطفق يحجب عريه خجلا من جسدانيّة لم يلق لها آدم من قبل بالا. انبجس لديه الوعي بجسدانيته، قلِقٌا خائفا وبدأ يتولّد وعيه بإنيته في التجربة وبها؛ في تجربة الحسّي والغريزيّ، أكل التفاحة والتغذّي من الأشياء.. وكشفت "التفاحة" عالم الأشياء حوله وأدرك اختلافه عنها "شيئا " لا كالأشياء. اكتشف الإنسان قدرته على الأشياء وأثر الأشياء عليه: "التفاحة" موضوعا يغريه بوصفه كائنا جسدا حاجيّا، وجسدا شهوانيّا، جنسانيّا، في وعي قلق "بالسوءة"، مسكنا للرغبة، وفي وعي بالآخر موضوعا شهوانيا وموضوعا للمتعة: حوّاء بوصفها آخر،"غيره"، كائنا "جسدا آخر". لقد انكشفت حوّاء وهي بعض منه، شبيها، ونقيضا. وولد التناقض من رحم الوحدة، ونشأ الاختلاف. لينشأ منه وبه جدل الوجود الإنساني سماويا، أوّلا في تجربة الخجل من الآخر شبيها ومختلفا، خجل آدم من نفسه، ومن غيره، حوّاء (إنكشاف " السوءة" وفعل "سترها "بورق الجنة")، ثمّ في صراع آدم / الإنسان مع نفسه، مع رغبته وهواه وفي صراعه مع "الشيطان".. ليدشّن بذلك ربما مسار تجربة أخلاقية ستفضي إلى " فعل التوبة"، إلى العفو والغفران الإلهي ، ولينكشف " الإلهي بذلك " أفقا " للخلاص" ، للراحة الأبدية، وللسعادة. لقد تبيّن آدم الإنسان، في القول الإلهي (أمرا ونهيا) " الرشد" من " الغيّ" وانكشف له سبيل الخير والشرّ، قيمة مطلقة، لتنشأ لديه " المسؤولية الأخلاقية" للفعل ، بوصفه " فعلا حرّا" يقوم على وعي بذاته، كائنا متميّزا " بالعقل" أساسا للعلم بالأسماء ، " مخلوقا" قائما بذاته ، مدركا لمنزلته كموجود، قادرا على " العقل " ،قدرته على " الجنون" ، على الطاعة والعصيان ، " مسؤولا " و"هشّا" في آن واحد. يتراوح وجوده بين "الألوهي والحيواني"، بين نوازع الخير ونوازع الشرّ، بين الواجب والرغبة ، وفي هذا التراوح يكمن أساس الصراع الأخلاقي مقوما للتجربة الأخلاقية. إنّ وعي آدم/ الإنسان بـ " التناقض" القائم في بنية وجوده وفي وجود العالم حوله، قد ولّد لديه وعيا " بكوجيتو" أوّلي، تأسيسي تجسّد  لغويا في قول "الشهادة"، في صيغة المتكلّم الفرد الكوني" (أنا) أشهد ". " شهادة" تعني الاعتراف " بالوحدانية"، بالألوهية، وبالتالي تثبيتا وتأكيدا "للإنسانية" كذات قبالة الآخر " المطلق" ؛ إعترافا بالمقدّس، مطلق المعرفة والقدرة، فوق ـ إنساني، قبالة " إنسان" محدود، يدرك كمال إنسانيته ومنتهاها بالسعي والكدح إلى هذا المقدّس؛ إعترافا يترجمه "عمليا " في" التجربة الدينية" بوصفها "تجربة عبادة" لا استعباد، فيها إقرار بالعبودية للربّ الواحد، وترجمته في ممارسة "الطقس" الديني، رمزا لهذه  العبودية لإله يدين له آدم / المخلوق بالوجود وبالتميّز بل وبالـ"تكريم" على سائر الخلق. ولقد حمّل " آدم/ الإنسان" " أمانة" العقل، و" سلطة اللغة"،  بالعلم بالأسماء، علما هو أصل كل علم، فالاسم بيت الموجود، ولا شيء خارجه بالنسبة إلى الإنسان، حتى الإله ذاته. إذ سمّى نفسه بأسماء عديدة تفصح عن " شيء " من حقيقته بالنسبة إلى الإنسان. وذلك من أجل أن يدرك هذا الإنسان أنّ الطريق إلى المعرفة بكل شيء، بالإنسان بالعالم وبالإله، تمرّ عبر اللغة وسيطا بوصفها نظاما رمزيا متنوّعا تنوّع الوجود الإنساني. لقد تفوّق الإنسان بامتلاكه العلم بالأسماء، باللغة، على نفسه وعلى الطبيعة والعالم حوله، بل وصار سيدا عليها بقدرته على التمثّل والترميز ومن ثمّ التعبير عن كل شيء. بنا لنفسه عالما موازيا للعالم الكوسمولوجي، عالما رمزيا يسكنه ويقيم فيه كائنا حاملا لوجوده المتذهّن، والمُمَعّن. إنّ أصل الاعتراف السماوي بالإنسان كائنا متميّزا والأصل في تفضيله هو امتلاكه اللغة. ألم تسجد الملائكة لآدم حينما شهدت قدرته على "أن ينبئها بأسماء " ما عرض عليها من المسمّيات، وكشف آدم / الإنسان عن قدرة على "التعلّم"، على الحفظ والتمثّل والتصوّر والتذكّر..، وعلى المعرفة. لقد حمّل الإنسان دون سائر الخلق مسؤولية المعرفة بوصفها أداة تحرّر، ومواجهة لكل ما من شأنه أن يعيق الإنسان عن الفهم وإدراك المعنى.. وبالتالي تحقيق إنسانيته كائنا عاقلا أو ذو عقل. وبقدر ما تميّز الإنسان في البدء بقدرته على " التعقلّ" والفهم وبالتالي على المعرفة، تميّز أيضا بالجهل والنسيان. وذلك حتى يدرك منزلته الإنسانية " كنقصان"، قبالة الإله كامل المعرفة والقدرة. وحتّى يكون في وضع "امتحان" التذكّر، وامتحان النسيان استكمالا لحريته ومسؤوليته. ذلك أن النسيان باب للشيطان في غواية الإنسان. ولكنّه باب للرحمة والغفران. من حيث هو ضعف وقدرة في آن واحد: ضعف يعني محدودية الإنسان وقدرة تعني إرادة المواجهة لهذا الضعف بالذات.  فليس الإنسان شرّيرا مطلقا ، بل هو الشرّير غوايةً . يشهد حضور " الحية" في "تجربة الغواية " لآدم، في دلالتها الرمزية الإلغازية،  بذلك . كان هناك إذن ما يدعو إلى " السقوط" ، إلى الخطأ، أي ما يبيّن هشاشة المنزلة الإنسانية ، وضعف الإنسان وجدانيا وما يكشف عن " مشهد للخلق " لم يكن لآدم قدرة على فهمه.

لقد خلق الإنسان على " أفضل تقويم" أريد له كإنسان. واستخلف في الأرض ليصنع جنّته التي أخرج منها بما حمّل من أسباب القوّة والضعف أيضا. لقد كان آدم / الإنسان الأصل والبداية وبه تكون النهاية. فلا معنى لوجود لا يحمل الإنسان معناه ، ولا "مفرّ من المعنى مادام الإنسان حاضرا في العالم".

 

عبد الوهاب البراهمي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم