صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: نقد كانط للميتافيزيقا

حاتم حميد محسنحفل تاريخ الفلسفة بالتوضيحات الميتافيزيقية الخلاّقة للعالم الذي حولنا. تلك التوضيحات هي حلول ملائمة للمشاكل المستعصية، كي تضيف اطارا لتجاربنا المجزأة. لكن الميتافيزيقا تخاطر بكونها تشبه الخيال العلمي السيء، فهي مع انها تراعي أدق التفاصيل للكينونات الغريبة، لكننا لا يمكننا دائما الايمان بها. وهكذا، يجادل النقاد، انه بينما نحن نلجأ للتخمينات الميتافيزيقية، لكننا لابد ان نقاوم ذلك الإغواء. سوف ننظر في الانتقادات لمختلف الادّعاءات الميتافيزيقية، وخاصة مبدأ البساطة simplicity الذي يعلن عن رفضها. وبشكل عام، مبدأ البساطة يفضل التوضيحات غير الميتافيزيقية للأشياء على تلك الميتافيزيقية. نحن سلفا نعتقد بالعالم المادي، ونحن نستطيع ان نقصر توضيحاتنا على ذلك العالم، وبهذا فان التوضيحات الميتافيزيقية تصبح غير ضرورية . البساطة اذاً تحاول كبح جماح الجهود الميتافيزيقية واستبدالها بخيارات اكثر محسوسية. الفلاسفة اساسا يلجأون الى البساطة التي تركز بشكل ضيق على ادّعاءات ميتافيزيقية محددة، مثل وجود الاشياء الكونية المجردة. لكن البساطة هي أقل اقناعا كنقد شامل للواقع الميتافيزيقي، طالما، في مرحلتنا الحالية للمعرفة، نحن لانعرف ما يكفي حول الواقع لنستبعد أي توضيح آخر ربما جدير بالقبول. نحن نرى هذا في الفيزياء المعاصرة مع نظرياتها المعقدة عن الأكوان المتعددة الأبعاد، والتي تمتلك شعورا ميتافيزيقيا قويا. اننا نعرف، ان تعددية الأبعاد ربما صحيحة، و لا نريد ان نرفض قبل الاوان هذا النوع من التأمل الميتافيزيقي فقط على اساس مبدأ البساطة. هناك، مع ذلك، انتقادات اخرى للميتافيزيقا تحاول فعلا دفن المشروع الميتافيزيقي بأكمله. سوف ننظر بثلاثة انتقادات عالمية مضادة للميتافيزيقا وهي:

1- الكانطية، 2- الوضعية المنطقية، 3- العلموية scientism. سنعرض هنا للنقد الاول فقط .

نقد كانط

يؤكد كانط ان الذهن الانساني لايستطيع الوصول الى الواقع الميتافيزيقي، ان أذهاننا الانسانية مصممة للقيام ببعض الاشياء بأفضل صورة. نحن نستطيع تحسس الاشياء في بيئتنا المباشرة، مثل السيارات التي نحاول تجنبها عند عبور الطريق . في حشود آلاف من الغرباء، انا استطيع البحث وتمييز أفراد العائلة والاصدقاء. وهناك اشياء اخرى لم تُصمم اذهاننا للعمل فيها على افضل حال. عند رمي العملة على الارض، لا يستطيع ذهني الإستنتاج بواسطة الصوت فقط حول المكان الذي ستستقر به العملة في النهاية، وانا عليّ الزحف على الارض كالحيوان لكي أجدها. عندما ينفجر نجم في الجانب الآخر من المجرة، انا ليس لدي تصوّر عنه حتى عندما احدّق مباشرة في تلك النقطة في الفضاء. ولهذا، هناك قيود واضحة لما يمكن ان يفهمه ذهننا عن العالم المادي. الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط (1724-1804) جادل بان المسألة اكثر سوءا عندما نأتي لمقدرتنا الذهنية لفهم العالم الميتافيزيقي، نحن لا نستطيع القيام بذلك ابدا. أذهاننا بطبيعتها تكوّن تصورات تساعدنا في ايجاد معنى للعالم مثلما حين أبتكر فكرة مجردة عن الإخضرار الذي يسمح لي بتجميع عدة اشياء خضراء مع بعضها. لكن الوجود المجرد للاخضرار غير موجود في الحقيقة وبدلا من ذلك هو خلق لذهني. كل الافكار الميتافيزيقية حسب كانط هي نفس الشيء، هي بناءات ذهنية ربما لها او ليس لها علاقة بالعالم الحقيقي. نحن رأينا سلفا النقد المفاهيمي للاشياء المجردة، وكانط فقط يمدد هذا لنطاق كامل للأفكار الميتافيزيقية.

هناك جزءان من نقد كانط، الاول هو تفريقه بين العالمين: العالم الخارجي او ما يبدو لنا والعالم الميتافيزيقي او "العالم في ذاته"، من الواضح ان هناك حواجز توجد بين اذهاننا والعالم الخارجي، حيث ان اذهاننا تخلق صورة للواقع تتأثر بالاشياء الخارجية، ولكن في نفس الوقت، نحن ليس لدينا مدخل مباشر لذلك الواقع الخارجي ولا نعرف ماذا يشبه حقا. هذا، حسب كانط، هو الحاجز بين الظاهري والعالم في ذاته. اي ان العالم الظاهري يتألف من أشياء كما تبدو لحواسنا، والتي بالنهاية تعتمد على آلاتنا الذهنية. العالم في ذاته، بالمقابل، يتألف من اشياء غير معروفة عبر حواسنا وتُغلق بشكل دائم عن أذهاننا. هذه الحقائق غير المعروفة يسميها "اشياء في ذاتها": هي "متجاوزة" بمعنى انها خارج كل المعرفة الانسانية الممكنة، ومستقلة عن الملاحظة الانسانية. بالنسبة لكانط، هذه الاشياء المتجاوزة تتضمن عدة وجودات ميتافيزيقية مفترضة نوقشت من جانب الفلاسفة، مثل الذات الموحدة، الله، الرغبة الحرة، والارواح الخالدة.

الجزء الثاني من نظرية كانط هي توضيحه لماكنتنا الذهنية التي تمكننا من بناء العالم الظاهري بطريقة هادفة. كل هذا يتم اوتوماتيكيا. فمثلا، عندما أخرج من منزلي في الصباح، انا أغرق بوابل من المعلومات المتصورة حول الفناء الأمامي للدار، والتي تتألف من مزيج فوضوي من الالوان والاصوات والروائح والمظاهر. الشيء الاول الذي يقوم به ذهني هو تنظيمها ضمن موقعي الحالي في المكان، ولحظتي الحالية في الزمان. انا ارى الرصيف بثلاثة ابعاد من المكان ويتغير سريعا في الزمن عندما اسير فيه. هو يسمي تلك "الحدس" للزمان والمكان. بعد ذلك، يفرض فهمي نموذجا مفاهيميا على ما امارس والذي يمكّنني من عمل أحكام حوله، وتلك النماذج هو يسميها مبادئ او افكار"categories". انا انظر للجريدة على الرصيف، ومن خلال فكرة الوحدة، انا أحكم بان هناك صحيفة واحدة تستقر هناك. حين انظر للفناء الاخضر في المنطقة المجاورة، ومن خلال فكرة الكلية، انا أحكم بان كل العشب هو أخضر. حين أرى ان عشبي مفرط النمو، من خلال فكرة الإمكانية، أحكم بانه، بالاستعانة بآلة قطع الخشب، فان عشبي قد يبدو أفضل حالا. يعرض كانط 12 فكرة تعمل على فلترة كل شيء نتصوره. هي ضرورية جدا لفهم العالم ولدرجة يسميها "مانح القانون للطبيعة" (نقد العقل الخالص، 1.2.1) اي ان، الطبيعة لا توجد في العالم في ذاته المتعذر بلوغه، وانما بدلا من ذلك توجد ضمن مبادئنا العقلية التي تنظم بياناتنا الحسية. طبقا لكانط، الميتافيزيقا التقليدية ذهبت خطأ بتلمّس طريقة عشوائية للأشياء ضمن عالم ميتافيزيقي لايمكن الوصول اليه. "الميتافيزيقا" الصحيحة لو كنا نرغب بتسميتها بذلك، هي في الحقيقة علم النفس ودراسته لأفكارنا العقلية، التي بالنهاية سوف توضح الحدود الضيقة للذهن الانساني.

كيف يستجيب المدافعون عن الميتافيزيقا لكانط؟ حتى لو ان أحكامنا حول العالم تتقيد بمبادئنا الذهنية، هذا لا يستبعد كليا الاستنتاجات حول الحقائق الميتافيزيقية في العالم الميتافيزيقي. كانط ذاته حاول القيام بهذا بالجدال اننا مؤهلون لافتراض وجود الله، والرغبة الحرة والارواح الخالدة لأن هذه الحقائق الميتافيزيقية ضرورية للأخلاق. ذلك، لكي تكون الأخلاق ذات معنى، نحتاج لعمل خيارات حرة، ونحتاج لنكون مسؤولين عن خياراتنا في الحياة بعد الموت من قبل حاكم الهي. بعض اتباع كانط وبنفس الطريقة اعتقدوا ان تجربة الجمال الفني تسمح لنا للصعود فوق الحاجز الى عالم ميتافيزيقي ونأخذ لمحة عن الأشياء بذاتها.

هذا التكتيك، مع ذلك، يبدو مناسبا جدا، وأي فيلسوف يمكن ان يأتي ويصر على الحاجة للوصول الى العالم الميتافيزيقي لسبب مفضل، سواء كان دين، او اخلاق او فن. مع ذلك، الرسالة الاساسية لنظرية كانط هي ان لا استشراف فوق الحاجز، وبينما فهمه لسايكولوجيا الانسان بقي معتمدا على حقائق عصره، لكن هذه هي النقطة الاساسية لنظريته التي تستمر بالوجود. التعبير الشهير ضمن فلسفة ما بعد الحداثة هو ان "لا شيء هناك خارج النص" بما يعني اننا لا نستطيع النظر الى العالم من خارج اطارنا المفاهيمي، وهذه أخبار ليست جيدة للميتافيزيقيين التقليديين.

 

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم