صحيفة المثقف

صالح الرزوق: حديد السيوف

صالح الرزوقلم يكن ملحيس مرتاحا لشريكه في السيارة. كان يضعها أمام البناية في الحر اللاهب، وخلال ربع ساعة تتحول لفرن، ومهما نصحه باستعمال المرآب لا يتجاوب.  يقول: نسيت. أو استدعوني لمهمة عاجلة..

واليوم بالذات طاف الكيل. عندما فتح الباب وجد كومة من الصحف الرخيصة على مقعد السائق. بمعنى أنها هابطة وليس قليلة الثمن. صحف ومجلات سخيفة مثل “عين الراصد” و”عدسة المجهر” و”شمس الفن”.

قلب فيها ملحيس باشمئزاز، ورأى أسماء محرجة مثل اسمه. مع ذلك لم تكن تجلب عليهم السخرية. وصعدت المرارة من داخله لتغطي وجهه. ألقى كومة الورق الأصفر على المقعد الخلفي، وهو يفكر ببرنامج هذا اليوم.

الآن لديه سائحة أوروبية. وسينقلها من القرية التراثية في أبو ظبي إلى اللوفر على طريق دبي.  وتمنى من ربه أن لا تكون مثل سابقتها، كثيرة التشكي والتذمر.

دار المحرك. ونفخ المكيف نسمة لطيفة. وبدأ مزاجه يعتدل. لكن بقيت بعض الرواسب في قلبه. كل شيء له بقايا. لا شيء يذهب دون أثر. الجرح يترك ندبة. والدولاب يرسم خطا على الأرض. كيف يمكنه أن ينسى السخرية أثناء خدمة العلم؟. كان المدرب يناديه يا ملحوس وهو ينفجر من الضحك. ولكن ما ذنبه؟. مرت أيام الجيش وهو مثل قوس مشدود أو بالونة منفوخة. ولم يكن أمامه أحد يمكن أن يعاتبه. كان الجاني هو الوالد، وقد مات بحادث سير. مع ذلك كلما اشتد ألمه يرفع صوته ويلومه.

يقول له: لماذا هذا الظلم يا أبتي. الأسماء بالمجان. لماذا اخترت لي هذا العذاب؟؟!.

وطبعا لم يكن يرد أحد. اللهم إلا صوت أغصان شجرة في باحة الثكنة. الميت مثل الأصم والأبكم، حتى لو سمع لا يستطيع أن ينطق. وهذه لعنة إضافية.

ولم يخفف هذا العذاب غير الغربة. حينما هرب إلى اليونان، بعد الحرب،  وقبل السفر إلى أبو ظبي. هناك كان اسم ملحيس سهلا على اللسان، وربما أسهل من عمر أو عبده أو قاسم...

وصل ملحيس لجوار عين أبو ظبي، ولاحت أمامه أسوار القرية بلونها البني، والأبراج العملاقة والمضلعة التي تتخللها. وتحركت مشاعره. كانت حياته تبدو له مثل دواليب هذه السيارة. فقد تحول بسبب الحرب من أستاذ تاريخ إلى دليل سياحي.

وهذه صفة مهذبة لسائق. لكنه وخلال أي مشوار يتبرع بشرح تاريخ الإمارات، وتقديم فكرة عنه. مثلا معنى وأصل البرجين التوأم. أو أهمية قصر الإمارات وعلاقته بقصر فرساي. والفرق بين منتجع القرم وأبراج القرية وهكذا. وطبعا يضيف تفاصيل للتشويق، وحسب مزاج كل زائر.. للسائح الرومنسي يخترع مغامرات خيالية، ويناقش مع رجل الأعمال معجزة التصنيع، إلخ...

***

أخذ ملحيس نظرة أخيرة من المرآة المعلقة أمامه. ولكن ما أهمية أن ينظر لنفسه. كان وجهه مجرد قناع،  ويبدله حسب الحاجة. لكل حالة وجه. شكل بلا مضمون. حياة قائمة على المداهنة والنفاق. الإنسان أحيانا يغش نفسه. ولم يجد ضيرا في ذلك. فهو بالنسبة للآخرين غير موجود. وعبارة عن وسيلة للتنقل. يمكن أن تقول هو مثل هذا الإسفلت الممتد أمامه. شيء يعبر عليه الآخرون.

أمام باب القرية وقف بالسيارة حائرا. كيف يمكنه أن يتعرف على السائحة؟.

نقل نظراته بين زرافات الأجانب. كانت كوكبة تدخل، ومقابلها ثلاثة أو أربعة أفواج تخرج. ترك المحرك يدور، وغادر المركبة، واختلط بالحشود. ثم دخل من البوابة. وفي الداخل شاهد أمامه صفحة مياه الخليج. كانت ممدودة بشكل بساط فضي، وتوهم أنه يسمع بأذنه نداء السياب وهو يبكي، ويقول:

وعلى الرمال، على الخليج

جلس الغريب، يسرح البصر المحير في الخليج

ويهد أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج.

وهنا انتبه لانعكاس أشعة الشمس كأنها تسقط على صفائح من الحديد المطروق الذي تصنع منه السيوف. وجمد لحظة أمام هذا المشهد. ثم تلفت حوله. ولمح محمية الهجن. وكانت محاصرة بأسلاك شائكة لها لون الملح أو الجليد، وخلفها جمل مد رقبته الطويلة على الأرض،  وحمل سنامه على ظهره. وهناك وقفت سائحة بثياب أوروبية. وأمل أنها هي. لكن كيف السبيل للتأكد من ذلك؟.

ويبدو أن الجمل انتبه لحيرته، فرفع رأسه، ونظر إليه بعينيه الدعجاوين، وبدأ يحرك فكيه كأنه يمضغ لقمة وهمية...

***

صالح الرزوق

آذار 2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم