صحيفة المثقف

محمود محمد علي: سليمان حزين.. أيقونة الجغرافيين العرب ومؤسس جامعة أسيوط

محمود محمد علييعد الأستاذ الدكتور سليمان حزين واحداً من أهم العلماء الذين أنجبتهم مصر، ، كان رمزا من رموز المعرفة الموسوعية الفريدة وواحدا من أصحاب الرؤية الفكرية والثقافية الشاملة، جنبا إلى جنب مع القدرة على الإدارة الحازمة واتخاذ القرار الحاسم بعيدا عن الروتين (1)، كما كان عاشقًا للغته العربية ومداومًا على إثبات ذلك العشق يومًا بعد يوم طوال حياته المديدة حتى على مستوى الحديث الأسري اليومي مع الأبناء، وعلى الرغم من سيطرته التامة على لغات أجنبية متعددة.

تعلم تلامذته منه الاعتزاز بالكرامة دون مبالغة والتواضع دون مذلة .. حتى يكون الإنسان مقبولاً عند الله وعند الناس.. كما تعلموا على يديه الجدية في العمل والإخلاص فيه والتفاني في طلب العلم والتركيز على تسخيره لخدمة الإنسان و البشرية.. وتعلموا أن حل المشكلات يأتي بالتعاطف والحب والتفاهم والموعظة الحسنة .. وليس بالغلظة والاحتداد.

ولعل استعراض تاريخه الدراسى يقدم لنا صورة عن ملامح شخصيته الشغوفة بالمعرفة، وقدراته النادرة على امتلاكها، فقد التحق سليمان حزين بقسمين فى نفس الوقت من أقسام كلية الآداب جامعة فؤاد الأول هما:  قسم الجغرافيا والعلوم السياسية، وقسم الاجتماع والدراسات الفلسفية، وحصل عام 1929 على الليسانس في القسمين معاً، ولكنه قبل تخرجه كان شديد الحرص على حضور معظم المحاضرات بقسم اللغة العربية في الكلية ذاتها، حتى أصبح صديقاً مقرباً من عميد الكلية آنذاك الدكتور طه حسين، الذى أوفده في بعثة علمية إلى جامعة ليفربول بإنجلترا، ثم إلى جامعة مانشستر، فحصل على الماجستير من الأولى عام 1933 وعلى الدكتوراه من الثانية عام 1935 (2).

المهم في هذا العالم المصري المرموق، أنه كان مهموماً برسالة بدت للكثيرين آنذاك غير منطقية تماماً، فقد كان يحلم بأن ينقل مشاعل التنوير من جامعة القاهرة في العاصمة إلى كل ربوع مصر، خصوصاً إلى قلب الصعيد والدلتا، في وقت كانت فيه هذه "الربوع" مجرد إقطاعيات شاسعة تملكها فئة قليلة تعيش في القاهرة ولا تغادرها إلا إلى باريس ولندن وتركيا لـ"الاصطياف" والعلاج، وكانت قرى مصر ونجوعها وكفورها ترسف فى أغلال الفقر والمرض والجهل والاستعباد المهين للكرامة الإنسانية، وفى نهاية الأربعينات كان الدكتور "حزين" مشغولاً في إنشاء العديد من مراكز الدراسات والهيئات الثقافية العربية والدولية "مثل اليونيسكو"، ورغم ذلك لم يفارقه حلمه بأن ينقل مشاعل التنوير إلى الأقاليم، حتى واتته فرصة إنشاء قسم الجغرافيا بآداب الإسكندرية، وحاول فيه أن يضع علم الجغرافيا البشرية باعتبارها أهم ثروات الدنيا فوق كل فروع الجغرافيا الأخرى (3).

وكان حُزين ينظر الى الجغرافيا بمفهوم شامل، فهي عنده لا تقتصر على دراسة الطبيعة والبيئة، بقدر ما أصبحت علم التأمل في صلة الانسان بالطبيعة، وصلة التاريخ بالجغرافيا، وصلة الجغرافيا بالسياسة، وهو المفهوم الذي سار عليه حزين في دراسات لأكثر من نصف قرن، وجعله يلتمس طريقه العلمي الي اختيار مواضيع تتصل بماضي الأمة العربية من جهة، ثم بمستقبلها المأمول من جهة أخرى (4).

وقد اختار حُزين منهج "الجغرافية الحضارية" وهو منهج يختلف عن المنهج الجغرافي المعتاد الذي يهتم بتناول البيئة والطبيعة من أرض ومناخ ونباتات وموارد طبيعية، ثم ينتقل الى تناول الإنسان وحياته واستخدامه للأرض والموقع؛   أما منهج الجغرافيا الحضارية فهو امتداد لمنهج ما يسمى بـ"الجغرافية التاريخية" الذي يدرس العلاقة المتطورة بين الإنسان والبيئة على امتداد الحقب والعصور. فالجغرافيا الحضارية تختص بتصوير حضارة الإنسان في تتابعها الزمني، وتشمل الحضارة بشقيها المادي والمعنوي. فالجانب المادي يتمثل في مظاهر النشاط البشري وإبداع الإنسان في استغلال موارد الطبيعة، والجانب المعنوي يمثل الابداع الفكري والثقافي والأدبي والفني الخالص للقريحة البشرية ومن مجموع العملين "المدني" و"الثقافي" يأتلف العمل الحضاري العام (5).

وقد أثرى الدكتور حزين المكتبةَ العلمية بالعديد من المؤلفات التي زادت على مئة مؤلفٍ علمي باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية منشورةً في العديد من المجلات والدوريات والمؤتمرات العلمية الدولية في مصر والخارج والتي بلغت نحو مئة مؤتمر – ودلت هذه البحوث والمؤلفات على المدى الذي ذهب إليه رحمه الله في خدمة العلم وطلابه وقدم من خلالها ربطًا فريدًا بين الدراسات الجغرافية الطبيعية والدراساتِ الجغرافية البشرية وحقق بأسلوبه هذا تكاملا علميًّا وبروزًا حضاريًّا وخدماتٍ مثلى للدارسين – وهو صاحبُ مدرسةٍ في البحوث والدراسات الجغرافية بدأ نشرها منذ عام 1936 وعلى مدى ستين عامًا. هذا عدا المئات من الأحاديث والمقالات والمحاضرات التي نشرها أو ألقاها وأثرى بها حياتَنا الفكرية وعالج فيها الكثيَر من مشكلاتنا القومية وقضايانا العلمية والاجتماعية والثقافية. عالجها بحكمته البالغة وفكره المستنير.

ومن أبرز مؤلفاته: نشأةُ الحضارة في مصر (1939(وكتاب مكانة مصر في حضارات عصر ما قبل التاريخ (1941) وهو مؤلف ضخم يقع في 500 صفحة ويعد من كتب العيون بالنسبة للباحثين والدارسين، وكان لهذا الكتاب أثرهُ الواضحُ في أن يحتل صاحبُه مكانتَه البارزةَ بين علماء ما قبل التاريخ وكان الفقيد قد ضمّن هذا المؤلفَ ما توصل إليه من نتائج عندما قام بحفائرِ للكشف عن آثار ما قبل التاريخ في الفيوم (1937 : 1939، وكتاب بحثٌ عن تطورات المناخ في شبه جزيرة سيناء، وبحثٌ عن نهر النيل وتطوره الفيزيوغرافي – ذلك النهر الخالد الذي عشقه وكتب عنه الكثير وعن أثرِه في الحضارة المصرية ، حضارة مصر – أرض الكنانة ويقع في 327 صفحة (1991)،  وأرض العروبة : رؤيةٌ تاريخيةٌ في الزمان والمكان ويقع في402 صفحة (1993)، ومؤلفٌ آخر ضخم عن مستقبل الثقافةِ في مصر العربية ويقع في 532 صفحة (1994).

هذا عدا العديد من مؤلفات وبحوث أخرى جغرافيةٍ وتاريخيةٍ لها قيمتُها العلميةُ البالغة أورد منها سبعة وعشرين مؤلفًا في سيرتِه الذاتية العطرة .

ولبحوثه وإنجازاته الرائدة ولمكانته العلمية البارزة نال العديدَ من الجوائز أبرزُها جائزةُ الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1971وعلى أوسمةٍ من مصر والأردن وسوريا والعراق وفرنسا إذ تجاوز في آثاره ونظرياته الجديدة نطاقَ وطنهِ فنال تقديرَ الهيئات العلمية العالمية وارتفع بعلمه إلى مصاف العلماء الأفذاذ.

وكان حُزين من أشد المتحمسين لقضية مصر وانتمائها الى محيطها العربي، ودلل على ذلك بحقائق جغرافية وبراهين تاريخية لا تقبل الجدل وتقطع الشك باليقين، أوردها في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر العربية" الذي حاز به على جائزة أحسن كتاب ثقافي للعام 1994  (6)، وخالف حُزين بذلك رؤية استاذه طه حسين التي قدمها في كتابه الشهير "مستقبل الثقافة في مصر" الذي اثار زوبعة واسعة حين صدوره في ثلاثينات القرن العشرين، وحاول من خلاله أن يحول دفة الفكر واتجاه الثقافة من الاتجاه التقليدي لتلمس منابع تراثنا الفكري والثقافي، الى اتجاه الغرب ونهضته الحديثة وكان يريد من ذلك القطع مع الثقافة العربية لحساب ثقافة الغرب، وعلى النقيض من ذلك، كان حُزين يرى أن ارتباط مصر بالثقافة العربية هو ارتباط عضوي لا سبيل الى الفكاك منه، لجهة أنه رباط قديم يستند الى العرق والنسب، كما يستند الى الفكر والثقافة واللسان (7).

وبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 سارع الدكتور حزين بوضع رؤيته وحلمه تحت تصرف الثورة رغم أنه ظل على مسافة محسوبة من رموزها، ولم يطرق باب مسئول أو ضابط كبير بحثاً عن دور أو منصب، وعندما فكرت ثورة يوليو فى إنشاء أول جامعة بصعيد مصر لم تجد غير سليمان حزين، فذهب إلى أسيوط وأنشأ جامعتها عام 1955 وبدأ الدراسة بها عام  1956 (8) ، وعندما تولى سليمان حزين موقع مدير (أي رئيس) جامعة أسيوط تبنى رؤية فريدة شعارها: جامعة بلا أسوار!، حيث أصر على عدم إقامة أسوار تفصل الجامعة عن المحيط الاجتماعي لمدينة أسيوط، بحيث تكون شوارع الجامعة مجرد امتداد جغرافي لشوارع المدينة! وقد ظلت هذه الرؤية هى السمة الفريدة المميزة لجامعة أسيوط حتى عام 1981 وهو العام الذى كانت الجماعة الإسلامية فيه قد بلغت قدرا كبيرا من النمو فى الجامعة بتمويل ودعم من محافظ أسيوط الأسبق محمد عثمان إسماعيل الذى كان يرى فيها وسيلة فعالة للتصدي للطلاب اليساريين والناصريين المناوئين لحكم الرئيس أنور السادات، فقد كان أعضاء تلك الجماعة مسلحين بالجنازير التي يستخدمونها في "تأديب" أي معارض يساري أو حتى ليبرالي دون خوف من أي مساءلة من الجهات الأمنية!. وقد انتهت هذه السياسة الحمقاء بكارثة هي اغتيال الرئيس السادات نفسه على أيدى تلك الجماعات التي أراد لها عثمان إسماعيل أن توطد أركان حكمه!.. ما يعنينا هنا هو أن نشير إلى أن عام 1981 كان هو عام النهاية لسياسة: «جامعة بلا أسوار»، حيث قامت الجامعة في أعقاب الاغتيال ببناء الأسوار التى تعزلها عن الكتلة السكنية، والتي مازالت قائمة إلى الآن (9).

ومن المتواتر عن الدكتور سليمان حزين أنه أطلق آنذاك مقولته الشهيرة: «لو كان الأمر بيدي لما وليت أحداً أية مسئولية سياسية أو علمية أو إدارية في مصر إلا إذا كان من أصول ريفية، أو على الأقل عاش بين الناس في الريف واطلع على أدق تفاصيل حياتهم وظروفهم وعملهم". صحيح أن الرئيس الراحل أنور السادات أوعز -بعد ذلك بسنوات- لمحافظ أسيوط الشهير محمد عثمان، بأن يستخدم الجماعات التكفيرية ويمولها للتصدي للمد اليساري والناصري لطلبة جامعة أسيوط، حتى تحولت هذه المنارة العلمية المفتوحة على بيوت وشوارع وحقول أسيوط إلى معقل للإرهاب خرجت منه بعد ذلك جحافل جاهلة قتلت السادات نفسه وهو يحتفل بنصر أكتوبر عام 1981، واضطر الأمن إلى إحاطة كليات جامعة أسيوط بأسوار وبوابات رهيبة دفنت العلم خلفها  (10).

ولكن -رغم ذلك- تظل رؤية سليمان حزين للخروج بالعلم والمعرفة والإدارة من العاصمة إلى ربوع مصر كلها هي الفريضة الغائبة فى كل ما نفعل الآن، ودون هذا الخروج ستظل العاصمة المتخمة بالبشر والمراكز البحثية وضجيج النخبة، مجرد رأس ضخم لجسد هزيل، كما وصفها الرائع جمال حمدان، أحد تلاميذ الدكتور سليمان حزين، رحمهما الله، ورحمنا جميعاً من بؤس وغباء التركيز فى كل مشروعاتنا على العاصمة (11).

فتحية طيبة للدكتور سليمان حزين الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للعالم الجغرافي والإداري البارع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الدكتور سليمان حزين الإنسان والأستاذ وإن كان جسده قد فارقنا، فإن فكره سيظل باقيا  ما بقيت الحياة علي وجه الأرض .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..................................

المراجع:

1- نصار عبد الله : سليمان حزين: «جامعة بلا أسوار»، جريدة المصري اليوم بتاريخ السبت 07-10-2017 21:19.

2-محمد البرغوثى: «سليمان حزين».. والفريضة الغائبة، جريدة الوطن المصرين ، منشور بتاريخ 10:20 م | الجمعة 02 مايو 2014.

3-نفس المرجع .

4- عاطف مظهر: رحيل سليمان حزين عميد الجغرافيين العرب ومؤسس جامعة أسيوط ، منشور 3 فبراير 2000 .

5- نفس المرجع .

6- نفس المرجع .

7- نفس المرجع .

8-نصار عبد الله:  نفس المرجع .

9- محمد البرغوثى :  نفس المرجع .

10-  نفس المرجع .

11- نفس المرجع .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم