صحيفة المثقف

محمود محمد علي: جمال حمدان وسيمفونيته الجغرافية (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن جمال حمدان فيلسوف الجغرافيا ورائعته وهنا في هذا المقال نركز علي أشهر مؤلفات جمال حمدان وهو كتاب "شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان"، ففي عام 1967 وضع الصياغة الأولى لهذا الكتاب لمكون من أربع أجزاء، فكانت شراراته الأولى هي هزيمة 1967. فقد صدمته الهزيمة، ورأى أن من واجبه في هذه الفترة توعية الشعب المصري، فقال:" إننا في هذه المرحلة في حاجة ماسة إلى فهم كامل لوجهنا ولوجهتنا لكياننا ومكانتنا، لإمكاناتنا وملكتنا، لنقائضنا ونقائصنا، وكل أولئك بلا تحرج أو تحيز، ولا هروب، فليس كتابي هذا دفاعاً عن مصر، ولا هو محاولة للتمجيد، إنما هو تشريح علمي موضوعي يقرن المحاسن بالعيوب على حد سواء، ويشخِّص نقاط الضعف والقوة".

إن الدكتور جمال حمدان بذل جهداً كبيراً فى كتابه "شخصية مصر"، الذى يتناول دراسة لمصر بكل أبعادها الإقليمية والبشرية والزمانية والتكاملية، مؤكداً أنه أهم كتبه ويضعه إلى جوار الدراسات المهمة التى تناولت دراسة مصر للدكتور حسين مؤنس ورفاعة الطهطاوى.

إن كتاب "شخصية مصر" يعتبر من الكتب التى تناولت دراسة فلسفة الزمان والمكان"التاريخ والجغرافيا" بالنسبة لمصر، وقدمه بأسلوب راقٍ، وهو واحد من أمهات الكتب القابلة للقراءة على ضوء الحاضر، وقد صدرت النسخة الأولى في 318 صفحة عام 1967؛ ثم أعاد كتابته بشكل أكثر توسعاً في ثلاثة كتب متوسطة الحجم، وأخيراً أعاد كتابتها في أربعة أجزاء كبيرة، تقترب من أربعة آلاف صفحة، صدرت مجلداتها الأربعة بين عامي 1980 و1984؛ ولم يتحدث حمدان في موسوعته عن مصر على أنها مجرد موقع جغرافي متميز، فلم يدرس الجغرافيا بمعزل عن التاريخ، ومن خلال هذا التفاعل حلَّل ملامح شخصية مصر من خلال تاريخها وجغرافيتها النابضة بكل المتناقضات.

ففي الجزء الأول من الموسوعة يشير حمدان ببراعة إلى جغرافيا مصر، مؤكداً أنها شديدة البساطة، ثم قام بمزج بساطة الجغرافيا بتعقيد التاريخ. واستطاع حمدان تقديم أصعب أجزاء الجغرافيا في شكل وإطار درامي مُبهر، فيما عُرف بـ «الجدل في الطبيعة»، حيث تخيل أن كل هذه المتناقضات الطبيعية تدخل مع بعضها في حوار؛ وأمَّا في الجزء الثاني، فنلمح شخصية مصر الحضارية، وهو هنا يشير إلى صلة الفكر الأوروبي في القرن الـ 19 بتطور الحياة، ثم تناول مصر من خلال السلطة الدائمة لنهر النيل ودوره في التطور الحضاري. وكيف خلق النيل تجانساً وتناغماً حضارياً بين كل أقاليم مصر من شمالها لجنوبها؛ وفي الجزء الثالث، يركِّز حمدان على شخصية مصر الاقتصادية، وهنا طرح فكرة الانتقال من اقتصاد المعيشة إلى اقتصاد الفائض الهامشي، وهي قائمة على الابتعاد عن العقلية القانعة التي ترضى بالخضوع والقليل والواقع والمقسوم، وضرورة الطموح في الوصول إلى مجتمع الرفاه والمعيشة الأفضل.

أمَّا في الجزء الرابع، فقد قدَّم مفاتيح الشخصية المصرية، وهذه المفاتيح هي ملكة الحد الأوسط وملكة الامتصاص، حيث إن المصري يمتص كل ما يرد إليه من ثقافات ويصهر كل ما يمتصه ويُخرِج ذلك في إطار وسطي، يُمكِّنه من الاستمرار من دون أن يتأثر بأي ثقافة بعينها، أو بأي تيار عقائدي، لذلك يقول إن الشعب المصري رغم تعدد حضاراته وثقافاته من فرعوني إلى قبطي إلى إسلامي، بقي صامداً، وله ثقافته المستمرة، التي ربما تتغير في شكلها لكنها ثابتة في جوهرها.

وفي هذه الموسوعة رأي جمال حمدان أن مصر تحتل مكاناً وسطاً، سواء من حيث الموضع أو الموقع، وسطاً بين خطوط الطول والعرض وبين القارات والمحيطات، حتى بين الأجناس والسلالات والحضارات والثقافات، وليس معنى هذا أن المصريين أمة نصف، ولكن بمعنى أمة وسط، متعددة الجوانب والأبعاد والآفاق والثقافات، مما يُثري الشخصية القومية والتاريخية ويبرز عبقرية المكان، من حيث الموضع: فإن التربة المصرية كبيئتها منقولة من منابع النيل في قلب أفريقيا إلى عتبة البحر المتوسط، وتداخلت فيها خطوط العرض المتباعدة والمتفاوتة، وهي تُمثل في النهاية حالة نادرة من تراكب البيئات. كما أن الإيراد المائي لمصر يأتي معظمه من نهر النيل، وهكذا أخذت مصر مائية الموسميات دون أن تأخذ منها مناخها القاسي أو رطوبتها. وتتميز مصر بمحاصيلها الزراعية المعتدلة، حيث تجمع بين محاصيل البحر المتوسط والمدارية، ويمكن القول إن زراعتها الشتوية تجعلها في نطاق البحر المتوسط، بينما الصيفية تنقلها إلى النطاق الموسمي. أمَّا مناخها، فيلخصه المقريزي في «مصر متوسطة الدنيا، سَلِمت من حر الأقاليم الأول والثاني، ومن برد الأقاليم السادس والسابع، ووقعت في الإقليم الثالث، فطاب هواؤها وضعف حرها وخف بردها وسلم أهلها من مشاتي الأهواز ومصايف عمان وصواعق تهامة ودماميل الجزيرة العربية وجرب اليمن وطواعين الشام وحمى خبير».

وتحدث حمدان بتوسع عمَّا يُسمى بـ "جغرافية مصر الاجتماعية"، وربط بين الطبيعة النهرية لمصر وحضارتها، بفكرة المركزية السياسية بها، ومن ثَمَّ شيوع "الطغيان السياسي"، وكانت البداية بتأكيده الحقائق الطبيعية غير الخلافية، وهي أن مصر بيئة فيضية لا تعتمد على المطر الطبيعي في حياتها وإنما على ماء النهر، ومن هنا يبدأ كل الفرق في حياة المجتمع النهري وطبيعته. ففي البلاد التي تعيش على الأمطار مباشرة يختزل المجهود البشرى إلى حده الأدنى، فبعد قليل من إعداد الأرض والبذر يتوقف العمل أو يكاد حتى الحصاد. أما في بيئة الري، فليس هناك زراعة ولا تعمير إلا بعد إعداد مصارف المياه ومجاريها، أي لا بد من تأسيس شبكة غطائية كثيفة من الترع من كل مقياس ابتداءً من قنوات الحمل وقنوات التغذية إلى مساقي الحقول، فحتى تزرع إذن لا بد لك أولاً من أن تعيد خلق الطبيعة.

وفي معرض حديث حمدان عن المركزية السياسية في تاريخ مصر وجغرافيتها، كان لا بد من الحديث عن فكرة "الطغيان السياسي". حيث أشار إلى أن الدولة المركزية، والمركزية العارمة ملمح مُلح وظاهرة جوهرية في شخصية مصر، وبالتالي فرضت المركزية السياسية والإدارية ثم الحضارية نفسها فرضاً، وذلك في شكل حكومة طاغية الدور، فائقة الخطر، وبيروقراطية متضخمة متوسعة أبداً، وعاصمة كبرى صاعدة إلى أعلى صاروخياً وشامخة فوق البلد غالباً. يصدق هذا منذ الفرعونية حتى اليوم وبلا استثناء تقريباً؛ على أن السمة الأكثر سلبية والمرض المدمر حقاً إنما هو تردي المركزية إلى الاستبداد والطغيان، ومهما اختلفت التسميات بين الطغيان الفرعوني أو الإقطاعي، وسواء عُدَّ هذا قطاعاً عادياً من الاستبداد الشرقي بنمطه المعروف أو عُدَّ قمته وأعتى صوره كما يرى الكثيرون، وأياً كانت النظريات المطروحة في التفسير، فإن الطغيان والاستبداد الغاشم الباطش هو من أسف حقيقة واقعة في تاريخ مصر من بدايته إلى اليوم، مهما تبدلت أو تعصرت الواجهات والشكليات.

وكان جمال حمدان يرى أن نهر النيل الذى بدأت الحياة المصرية على ضفافه هو مفتاح الشخصية المصرية، ذلك أن ضبط النهر من طغيان فيضانه هو الذى أنجب خصلة الطغيان فى الشخصية المصرية لأنه بغير ضبط النهر يتحول هذا النيل الوادع الجميل إلى شلال جارف يدمر كل شىء أمامه، وبغير ضبط الناس يتحول توزيع الماء إلى عملية دموية تسود فيها شريعة الغاب، ومن هذه البيئة النهرية الفيضية تبلور العقد الاجتماعى بين الحاكم الذى يملك الماء والمحكوم الذى يزرع بالماء وقوام هذا العقد «أعطنى أرضك وجهدك أعطك مياهى"،  كان يرى أن مصر تحولت من مصنع للحضارة إلى مجرد متحف للحضارة حينما بدأت تستورد الحضارة من الغرب ولا تصدرها. وكان يرى أن الموقع الجغرافى لمصر رأس مال طبيعى وسياسى دفين ومورد أصيل من موارد الثروة القومية، كان مؤمناً بعبقرية وإمكانيات مصر، وكتب قبل هزيمة 1967 عدة مقالات عن كيفية هزيمة إسرائيل بشطرها نصفين عند الجزء الضيق القريب من القدس، لكن هزيمة 5 يونيو أصابته باكتئاب شديد وشك دفين فى مقولاته، حتى جاء نصر أكتوبر فأعاد له الثقة فى مصر وكفاءتها مرة أخرى

وعندما نرصد الكتب التى حاولت رصد مصر نجد أن كتاب "شخصية مصر" واحد من هذه الكتب، التى منها أيضاً كتابا حسين فوزى "مصر ورسالتها"، و"سندباد مصرى"، قبلهما زمنياً كتاب "مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية" لرفاعة الطهطاوى، وهو كان أول كتاب يكتب عن الشخصية المصرية فى العصر الحديث، وكتاب صبحى وحيدة "فى أصول المسألة المصرية"، وإن كان حمدان يتميز بكتابه، الذى يركز على الجغرافيا، وجميع هذه الكتب تبقى فى الذاكرة وتدرس، حتى لو أبدينا عليها مآخذ فذلك لا ينفى أهميتها.

تبقي نقطة أخري نود الإشارة إليها وهي أن إبداعات جمال حمدان لم تقتصر على كتابه الموسوعى، ولكنه قدم عدداً آخر من الكتب المهمة التى لا تقل قيمة عن"شخصية مصر" منها "استراتيجية الاستعمار والتحرير"، وكتاب مهم جداً هو "6 أكتوبر فى الاستراتيجية العالمية"، الذى قدم من خلاله تحليلاً استراتيجياً للحرب ونتائجها، مؤكداً أنه كان مثقفاً واسع الاطلاع على مصادر المعرفة فى العالم لأنه كان يجيد الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، ومشتركاً فى كل الوكالات الأجنبية وأوقف حياته للعلم، ومن ثم فإن المنتج الثقافى الذى قدمه جمال حمدان" سيبقى تراثاً للأجيال القادمة تنهل منه لأن الكتابة العلمية الرصينة لا يدركها القِدم.

واكتفي بهذا القدر وفي نهاية حديثي عن حمدان حمدان أقول تحية لهذا المفكر المصري الكبير، الذي أوقف حياته للعلم، وقدم إسهامه الكبير فى كتابه المشهور شخصية مصر .. وتحية لجمال حمدان الذي قدم إضافات كثيرة للثقافة المصرية أولها أنه خرج من نطاق عمله الأكاديمى الضيق داخل أسوار الجامعة وبدأ ينفتح على الثقافة العامة فجعل من تخصصه الضيق ثقافة كبيرة للناس، وجعل الجغرافيا -رغم أنها مادة صعبة- مادة جميلة يقرأها غير المتخصصين.. وتحية لجمال حمدان الذي تناول شخصية مصر فأعطى لها أبعاداً لم تكن مألوفة لها ولم يكن يهتم بها أحد، في وقت كنا مجرد باحثين نهتم بالبعد التاريخى فقط، بينما قدم جمال حمدان البعد الجغرافى المهم لشخصية مصر.. وتحية لجمال حمدان الذي كان من أوائل المفكرين الذين نبهوا للبعد الأفريقى لمصر".. وتحية لجمال حمدان الذي أبدع بتعريفه للجغرافيا حين قال إنها علم بمادته فن بمعالجته، فلسفة بنظرتها.. وتحية لجمال حمدان الذي قدم العلم الذى يراه البعض جافاً، فى خلطة فريدة تربط الجغرافيا بالتاريخ بالسياسة بالاقتصاد ويجعل منها المحور الذى تدور حوله هذه الميادين بأسلوب بديع وتحليل رائع ونظرة فلسفية وصياغة أدبية من طراز فريد، وسيقف الباحثون والمحللون في المستقبل طويلاً أمام تراثه الكبير.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.........................

هوامش المقال

- محمد محمود السيد: عبقرية جمال حمدان: كيف نسجت الجغرافيا «شخصية مصر»؟، الوطن المصرية، نشرت بتاريخ 25/01/2020.

- خالد بيومي: جمال حمدان عاشق مصر، الوطن المصرية، نشرت بتاريخ  الإثنين 23 أبريل 2018.

- هانم الشربينى: أسرار المملكة الخاصة لـ«جمال حمدان»، مقال منشور بمجلة الإذاعة والتفزيون، ٢٠٢١/٠٢/٠٨

- جمال حمدان وآخرون: جمال حمدان في "عبقرية المكان" عن القناة: "نبض مصر"، البوابة نيوز، نشر بتاريخ الجمعة 07/أغسطس/2015 - 04:58 ص.

- محمد محمود السيد: عبقرية جمال حمدان: كيف نسجت الجغرافيا «شخصية مصر»؟، اضاءات، 25/01/2020.

- ناجح إبراهيم: جمال حمدان.. وسيمفونية الجغرافيا، الوطن المصرية، نشرت بتاريخ 10:05 م | الإثنين 20 أبريل 2020.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم