صحيفة المثقف

سعد ياسين يوسف: اللامرئيّ في مرآة قاسم محمد مجيد

سعد ياسين يوسفقراءة نقديّة في مجموعة (مرآة ونصف وجه)

حينما يكون الشّعر مرآة الشّاعر ووجهه وانعكاساً لروحه المتوهجة فلماذا يسعى إلى إخفاء نصف وجهه عبر مواربة ٍ إبداعيّة كتلك التي سعى إليها الشّاعر قاسم محمد مجيد في مجموعته الخامسة (مرآة ونصف وجه)؟.(1)

عبر العصورعمد الشّعراء إلى اعتماد المرآة في صورهم الشّعرية بحثا ًعن ذواتهم ووسيلة للدخول لأعماقهم والتعبير عنها عبر ثنائيّة الرَّائيّ والمرئيّ، ولمناجاة الآخر الذي يبدو أمامه كقرين قد يعرفة أو يتنكر له الرَّائيّ .

وبالرغم من وجود هذا النمط من الأشتغال في الشِّعر الغربيّ والشِّعر العربيّ قديمه وحديثه إلا أنَّ الكتابات النقديّة التي تناولته لم تكن كثيرة .فقد ظهر بشكل أو بآخر هذا الأسلوب من الكتابة الإبداعيّة في الفكر الصوفي كما عند ابن عربيّ وابن البسطاميّ وكذلك في الأدب الأسطوريّ.

" وتحمل المرآة في دلالتها الأسطوريّة جذراً رمزياً يربطها برغبة نرسيس في رؤية وجهه منعكساًعلى صفحة الماء،والفنيّة بكونها دالا ً شعريّاً وأدبيّاً عاماً يمكن أن يحمل معه تقنيات خاصة ترتبط بالانعكاس وتشويه الانعكاس معاً أو التشظية والتناثر .." (2)

كما وظهرت تقنية استخدام المرآة في الأدب الشعبيّ قبل أن يطورها شعراء الحداثة ليعبروا عن ذواتهم بحرية أكبر وهي تنشطر إلى ظلٍّ وآخر وقرين . يقول الناقد جابر عصفور:

"إن رمزيّة المرآة هي رمزيّة قديمة، تضرب بجذورها في الميراث الإنسانيّ الأسطوريّ والفولكلوريّ والإبداعيّ على السَّواء، وهو ميراث ظلَّ مصدر إلهام، في بعض جوانبه، لإبداعات حديثة، من مثل ما كتبه لويس كارول عن "أليس في المرآة" أو ما ظل مصدر إلهام الكتّاب الذين استغلوا العلاقة الرمزيّة بين المرآة والأشباح، أو المرايا السّحريّة التي نعبر منها إلى عوالم أخرى، أو حتى المرايا التي هي القاسم المشترك في الفنون التي أناب عنها شكسبير (1564 - 1616) التمثيل، كي يجعل غايته أشبه (بإقامة المرآة أمام الطبيعة، لكي تعكس للفضيلة محيّاها، ولجسد العصر والمجتمع شكله وأثره) "(3).

كما برز أسلوب المرآة في شعر البياتي ونازك الملائكة والسَّياب وصلاح عبد الصّبور ومحمد عفيفي مطر لما تتيحه لهم المرآة من تحرر في الوصول إلى أعماق ذواتهم وهواجسهم ومخاوفهم، ويشير الباحثون والمختصون في مجال النقد الأدبيّ الحديث إلى أن دخول المرآة إلى الشِّعر الحداثيّ العربيّ كان على يدي أدونيس من خلال ديوانه (المسرح والمرايا)

يقول الناقد أ .د . حاتم الصكر في كتابه مرايا نرسيس: " لقد برز اهتمام أدونيس بالمرايا كرمز من رموز الشخصية قبل أن يتخذها تقنية سرديّة يقف أمامها ليرصد ما يترآى في أعماقها، وقد تعقبنا ورودها في شعره فوجدنا أنها تزداد تردداً وتكرراً وذكراً كلما أوغل أودنيس في مغامرة التحديث وأمتد بشعره الزمن .فقد كان القناع الرمزيّ والأسطوريّ يغلب على تقنية شعره الأول مع ذكر المرآة كوجود خارجي .(4)

وإذ يتخفى شاعرنا قاسم محمد مجيد خلف مرآته فهو يريد أن يظهر مالم يستطيع البوح به بشكل مباشر. وتتعدد أشكال البوح في قصائد الديوان وتأخذ أشكالاً متعددة ترسم نصف الوجه المخفي عن المرآة إذا ما افترضنا أنَّ النصف الظاهر هو ما نعرفه عن الشَّاعر .

"إن المرايا توهمنا بأنها حياديّة تعكس ما ينطبع عليها أو يترآى أمامها أو يُعرض عليها . وفي حقيقة الأمر تكمن وظيفة المرآة في كونها (تُضاعِف) وعبر فعل المضاعفة هذا تعطينا تعزيمة  القرين "(5)

وعبر تحليل النصوص التي وردت في مجموعة (مرآة ونصف وجه) يمكننا أن نرسم ملامح الوجه المخفي عن المرآة عبر ما يوحيه النصف الظاهر لنكمل صورة وجه الشَّاعر وذاته ورؤيته للعديد من القضايا الحياتيّة الجوهريّة ومحاولة الحصول على أجوبة للأسئلة المتعلقة بالذات والحياة والموت والمرأة والحبّ والوطن والغربة والعودة إلى الطفولة ومفردات الحياة اليوميّة التي أثرّت في بناء شخصية الشَّاعر فسعى إلى البحث عنها عبر مراياه والتي يمكن أن نصنفها عبر المسارات التالية:

1 - البحث عن الذات:

تُظهر لنا قصائد المجموعة أن الشَّاعر يسعى - عبر المرآة - للبحث عن ذاته التي أثقلتها صعوبات الحياة وانتكاساتها وهو بحث عن الهوية والوجود في ظل التشتت والضياع الذي يعيشه الشاعر الحداثيّ اليوم وهذا ما وجدناه في أغلب نصوص الشَّاعر قاسم محمد مجيد ويتجلى ذلك في قصيدة (تنويعات) هارمونيّة هاربة والتي تظهر فيها ملامح الوجه الآخر  في المرآة حينما يسبغ عليه الرَّفض وكأنَّه هو من يريد الهروب من نصف وجهه الموارب:

" هذا الشخص أعرفهُ

أو ...  لست متأكدا "

قد أكون انا ....

أو أحداً أخرَ

يشِبهُني ....

أين اجد روحي التائهة  ؟

والأيام  مَلأَتِ  رأسي

بالأكاذيِب " (6)

ويتجلى هنا نكران ملامحه التي قد لاتتطابق مع ما يشعر به من ضياع وغربة روحه التي تتلظى في خِضمِّ هذا الصراع الوجودي للذات وهي تصطدم بالكثير مما حولها من زيف وأكاذيب في مسيرة البحث عن روحه، ولذا تتحول صورته في المرآة هنا إلى صورة مغايرة قد تكون هي القرين التي يبث من خلالها هواجسه ومخاوفه في الحوار بين الرائي والمرئي عبر العنصر الثالث (المرآة)، وهو هنا بعد أن يشك بما يراه مشيراً إلى أنَّه قد يكون شخصاً آخر يعود إلى السُّؤال الصعب (أين أجد روحي)؟

وهذا السُّؤال الذي يطرحه الشَّاعر هنا يحيلنا إلى سبب النكران لما يراه والذي لايعدو مجرد رأس مليء بالأكاذيب، ولذا فالهروب الذي يمارسه في رحلة البحث عن الذات هو بسبب ذلك التشظي الذي يعيشه وأنعكس على روحه التي يبحث عنها بعد أن أدرك أكذوبة الحياة ولاجدواها في ظلِّ غياب الروح عنها ..ولذا فهو يخفي نصف وجهه الذي شوهته محبطات الحياة , وأحزانها في عملية رفض وتجاهل لأكاذيبها . والرفض هنا لا يأتي وفق الثنائية التي نحن بصددها أي  بينه وبين نفسه فحسب،بل تتعداها إلى الآخرين  حتى حينما يكون بينهم فينكر وجوده ليعيش غربة الذات مع الآخر الذي لا يحفل به ولا بأسئلته الكونية ولا بأحزانه شاعراً وإنساناً.

"فِي شَظايَا الدَّمْعِ المُكَدَّسَةِ فِي الْمِرآةِ

ثَمَّة آخَرُونَ

لَا أَعْرفُ نَفسِي بَيْنهُم

وَالعالمُ لَا يَحْفل بِأَسْئِلتِي

بلْ يَظُنُّ...  أَنَّني أهْذِي" (7)

وهنا تتجسد حالة الاغتراب بكامل ثقلها وهي تضغط على روح الشَّاعر، والاغتراب حالة لازمت الإنسان منذ أن طُرد من الجنة لينزل إلى الأرض، وبايولوجيا يتجسد بمغادرة الإنسان رحم أمه وقطع حبل المشيمة الذي يربطه بها، وللاغتراب مسبباته النفسيّة والفكريّة والاجتماعيّة، وهنا يحيلنا الشاعر قاسم محمد مجيد إلى التناص مع المتنبي في غربة الشَّاعر عما حوله والتي تجسدت في أكثر من موضع وقصيدة  في  شعره لكنَّها كانت هنا الأكثر وضوحاً:

" وهكَذا كُنتُ في أهلي وفي وَطَني    إنّ النّفِيسَ غَريبٌ حَيثُمَا كَانَا "(8)

ويصل الاغتراب عن الذات أعلى مراحله حينما ينكر الإنسان نفسه ووجوده كما في هذه المقطع:

"ماذا؟  .... لوَ يُمهِلنِي

حَتَّى  أَعْرِفَ

مَن أَنَا؟

مَتى وُلِدتُ؟

أَينَ أَسْكُنُ؟ "(9)3263 قاسم محمد مجيد

2- عبثية الحياة:

تلح نصوص الشاعر في بعض مضامينها على تصوير لاجدوى الحياة وعبثيّتها، ويُعد (البير كامو) من أبرز منظري العبثيّة لكنه يحاول أن يوظِّف العبثيّة للوصول لحياة فاضلةٍ تحملُ معنى حقيقيًّا، وعند ذلك يجب على الإنسان أن يحياها بالقيم السّاميّة التي لا غنى له عنها، فلم تكن عبثيّة الكون هي سبب نشوء مذهب (كامو) بل قصور هذا الكون عن المعايير العقلانيّة هو ما سبب ذلك النشوء، ومن الأفكار التي نصّت عليها فلسفة (ألبير كامو): "إنَّ عدم الوصول إلى الرضى الكامل في الفهم يسرع في عملية المخاض"، (10).

ولعلَّ الحروب العبثيّة التي عاشها العراق قد أنعكست على منجزشاعرنا قاسم محمد مجيد  مثلما تسببت الحروب التي شهدتها أوروبا في ظهور مفهوم العبثيّة وانتشاره في الأدب الأوربيّ  وخصوصا بعد ظهور رواية الفيلسوف الفرنسي (البير كامو) (أسطورة سيزيف).

ولو تأملنا منجز الشَّاعر قاسم محمد مجيد لظهر لنا بوضوح ذلك الإحساس عنده كما في عنونة قصيدته (العزف على كمان أخرس) والذي يؤكد لاجدوى الحياة وعبثيّتها ويتأكد ذلك في متن القصيدة:

" مادام  القلب

كَهْفُ تصفرُ فيه الريح

لا ضير أن يعلق شريطا" أسودا"

على صورة معلقة للحياة فوق جدار" (11)

وهنا يرثي الشَّاعر نفسه وحياته بعد أن وضع شريطاً أسود على صورتها  مؤكداً افتقاده لمعنى الحياة وسرّ وجودها المتمثل بالحبّ بمعناه الأوسع، والصُّورة التي علقها قد تكون شكلاً أخر للمرآة وتقنية مقاربة لها وأعود هنا إلى مقولة (البير كامو) في الحبّ بمعناه الوجوديّ إذ يقول:

" لا بد لنا من حبّ، حبّ واحد عظيم في حياتنا، حيث أن ذلك يعطينا فرصة للهروب من جميع اللحظات التي تمتلىء فيها باليأس المميت." (12)

ويترادف الحبّ عند الشَّاعر بالحلم، ولكن حتى الحلم عنده غير متشكل ويخفيه ضباب الوجود الخانق لذلك فأحلامه هاربة عن التحقق وهو غير قادر على الإمساك بها مما تجلعه موغلاً في عبثيّة الحياة، لأنه كلما حاول أن يفتح عقدة الحياة بالحبّ هربت الأحلام ليضعنا وحالته هذه في تناص مع عذابات سيزيف وصخرته التي تسقط كلما رفعها إلى القمة .

" ما .. أن تفتحَ عُقدةَ الخيطِ

حتى تجلِس أحلامُك

على  سَرِيرٍ من الضباِب

و تهرُب  " (13)

3- الذّهاب إلى المجهول:

يعد الذّهاب إلى المجهول وتحولاته في مرآة الشَّاعر قاسم محمد مجيد مرادفاً ومجاوراً لعبثيّة الحياة التي يحياها في خِضَمّ صراعه العنيف مع مقوضات الحياة التي تدفعه لتجاوز أهم الأسئلة التي تواجهه بعد أن تيقن أن أجوبتها لا تورثه سوى الإحباط والحزن ولذا فهو يشيح بوجهه عنها ويعبر عن رفضه لواقعه ولشكل الحياة التي يحياها تحت ظلّ زمن (وقت) لا شكل له حتى في المرآة .

والسُّؤال الذي يلح علينا هو  هل كان الشّاعر يرى زمنه في المرآة كقرين له في تحولاته وعدم ثباته فيجابهه بالرفض؟ وهنا طبعا أصبحت المرآة هي الثابت التي يقيس بها الشّاعر الرائيّ ثبات الأشياء ومصداقيتها، وأن عدم ثباتها هي شكل من أشكال التحول إلى المجهول الذي يهدد حياة الشّاعر ووجوده وكيانه.

"مثلما تمشي الايام بدلالٍ الى المجهوِل

لا  تبرَّر للهَفْوات

ولا لأسئلة تجلبُ الغَمّ

فما لا يغتفر

أنك على قيد وقت

لا وجُه ثابت له حتى في المرآةِ " (14)

وفي نصّ من قصيدة (كما يحدث دائماً) يعبر عن مرارة الحزن وبلغة تهكمية لا يعيها إلا العراقيّ المهموم والموجع بما يلاقيه دائما من نتائج محبطة  وهو يرى في مرآة وجهه الآخر كل تلك الخسارات التي تقوده إلى اللاشيء  سيّما حين لا يجد لما يقدمه للحياة سوى الجحود الذي جوبهت به (شمهودة) الشخصيّة الشعبيّة التي تلطم مع الكبار ولا ينالها إلا الفتات مع الصّغار، ومأساة (جبر) الذي لم يرَ من حياته شيئاً بين رحلتة من الولادة وحتى القبر ...وكأنه وُلد للمجهول واللاجدوى من تحولات الحياة .

وما جملة (فما الذي تريدهُ أكثر) التي يختتم بها الشَّاعر هذا المقطع إلا تعبيرٌ ساخرٌ عما تمنحه الحياة ورفضٌ لمآلاتها بهذا السُّؤال الذي يواجه به الشَّاعر نفسه ...

"صَعبٌ

أَنْ نَخْسِرَ دَائِماً

وَيقْذِفُنا الحُزنُ لِحُزْنٍ

وَلَا نُقلدُ

إِلَّا نَياشينَ شِهْمودَة

وَوسَامَ صَبْر جَبْر

فَما الذِي نُريدُهُ أَكْثَر؟!!" (15)

وتأتي جملة (وَيقْذِفُنا الحُزنُ لِحُزْنٍ ..) لتؤكد إطباق دوامة المجهول ولا نهائية الخسارات التي يعيشها الشَّاعر وقد عمد إلى استخدام كلمة (يقذفُنا) ليؤكد القوة الهائلة لفعل الحزن وديمومته واستمراره وقد جاء بصيغة المضارع، فيما تظلّ إرادة الشَّاعر هنا مسلوبة وهو يتطلع إلى صبرٍ لن يوصله إلا إلى القبر وكأنه هنا يجترح مواجهة من نوع آخر بسخريته مما هو فيه .

ويشكل الاحساس بالخسارة واللاجدوى شكلاً من أشكال  عدم يقينيّة تحقق الحلم وبُعد مناله رغم الثمن (النول) الذي يدفعه الشَّاعر وأبناء الوطن الفقراء والذي من الممكن أن يتجسد  بتضحيات الشُّهداء وأعَمار الكادحين ومستقبل أجيال بأكملها مما يدفعهم إلى الإحساس القاتم بأنهم ذاهبون إلى المجهول:

" دفعنا غاليا" (نول) الأوهام

لذا لم تمطر السَّماء

أرغفة

ولا أسماكا ولا حتى  ... جرادا" (16)

وهنا تبرز بوضوح المرارة التي تكتنف قسمات الوجه المخفي في مرآة الشَّاعر والتي يحيلها تهكما وسخرية من الأوضاع التي يعيشها شعبٌ بأكمله تحت وطأة الوعود الزائفة وسرقة قوته ومستقبله وتدمير حضارته، فإذا كان الرغيف حلم الشَّعب فقد أصبح هنا مجرد كذبة دفعت الشَّاعر إلى أن يتمنى أن تمطر السَّماء جراداً وهو يعرف أن الجراد آفة الحقول وعنوان موتها وفنائها وهو المضاد للرَّغيف بمعنى الحياة، ولكن في الحقيقة أراد الشَّاعر هنا أن يشير إلى المجهول وسرابيّة الحياة ويقرنه بالموت .

"من السَّابِقِ لأوانِه

أن  تعْترفَ !

أَنك  تَائِهٌ  في بيْداء

فلا الرَّمل عَضّ  أَنْياب  العاصِفة

ولَا نَبَتَت  زَنْابقُ الماء ,

في  قلبِ السَّرَابِ  " (17)

4- الشَّاعر في مرآة الطّفولة :

وحينما يستشعر الشَّاعر بهول الفجيعة ووطأة المجهول الذي يحيطه فأنه يلوذ بمرآة طفولته ويبحث في مخزوناتها عمّا يعيد النور لملامح وجهه المخفي،ففيها من المخزون العاطفيّ والوجدانيّ ما يمنح الإنسان شعوراً بالصَّفاء والطَّمأنينة ولذا فاستدعاء الطّفولة يعبر عن خصب ذاكرة الشَّاعر وقدرته على المواجهه، إذ يرى غاستون باشلار" أن تاملات الإنسان الشّاردة تتجه إلى مرحلة الطّفولة حيث جمال الصّور المحفوظة منذ الطّفولة في الذّاكرة ".(18)

ولذا فأن شاعرنا بعد فزعه من الوجوه المتحجرة التي واجهها في حياته والتي لا تعكس سوى العدائيّة القاتلة يلوذ بالوجوه التي عرفها في الصّغر وهي وجوه أقرب النّاس إليه .. وهذا استرجاع للحظات الجمال والوجوه بوصفها ذكريات لحياة يسودها الصّفاء والأمان والنّقاء وهو هنا قوة وليس نكوصاً، " فإذا كان مصطلح (النّكوص) كما يراه علماء النّفس  يعكس إرتداداً لمرحلة الطّفولة فإنه في الأدب يكتسب بعداً إبداعيّاً يستحق التأمل وخصوصاً حينما يوظف الشّاعر الذاتيّ بالموضوعيّ .

" حَفِيدَتي  , طيبة

خَطَّتْ عَلَى الْبابِ

بطَبْشورٍ اَبيَض

نِصفَ جَدول الضَّرْب

وَنصفَ خَريطَةٍ لِلبلَاد (19)

وإذ يستدعي الشَّاعر طفولته بما تكتنزه من رموزعذبة وتوق لعوالم الضَّوء وحرية الرؤية وحرية التطواف وهو يلبس بدلة بحار، وهذا ما يندرج في خزانة أمنياته يوم كان طفلاً، فإنما ليواجه بطفولته سؤالاً مهما وهو كيف يهرب ليتخلص من الظّلم والمجرمين والأشباح الذين يحاصرونه ويسلبونه الحياة .

"ما زلتُ الطِفْلَ

بِبدْلةِ بَحارٍ

لمْ أَظفَرْ بِجوابٍ قَط

كَيف؟

أَهْرُبُ

منَ الَّليلِ

المَمْلُوءِ غِيلاناً وأشْباحاً (20)

فالبحث هنا في لامرئيّ الشَّاعر قاسم محمد مجيد  قادنا إلى وجه رسمته غضون الألم والحزن والفقد والإحساس بلا جدوى الحياة وعبثيّتها وإنحدارها إلى مآلات مجهولة أفقدته كينونته وأحرقته بنيران الفجائع التي حلّت بالبلاد والعباد فما عاد يجرؤ أن يُظهره إلا من خلال سِتار كي لا ينكأ جراح قلبه المثكول،فيما يسعى إلى مداواة تلك الجراح بحلم الطّفولة وكنوز مباهجها التي نحملها في ذواتنا حتى الرَّمق الأخير .

أما المرئيّ في مجموعته فلا يتحاج إلى تحليل وتفصيل فهو يؤكد أن قاسم محمد السَّاعدي شاعر وطن بإمتياز يستمد رموزه من عمق حضارته ليعود لنا سامقاً بكل قسمات وجهه البهيّ  .

أَمْسُكُ بالفُرشاةِ

أُرَافِقُ كلكامش وَخِلِّهِ إِلَى غَابَاتِ الأَرْز

وَأَطْلِقُ عنوةً سَرَاحَ

رَجُلٍ يَشْبَهُ نَفْسَهُ مَحْبُوسٌ فِي مِرْآةٍ (21)

وهكذا يتغلب النّور على الظّلام على عتمة نفس الشَّاعرالمتعبة بالبحث عن ذاته وكينونته  كاسراً المرآة  لتعلو أغاني الضِّياء التي كتبها الشُّهداء في سفر محبتهم للوطن وبناء مجده، وهنا ينتصر الشَّاعر للحياة في مواجهة المجهول والظَّلام .

 

د. سعد ياسين يوسف

.............................

(1) قاسم محمد مجيد، مرآة ونصف وجه، مجموعة شعريّة،   2021

(2) ينظر د. حاتم الصكر، مرايا نرسيس الأنماط النوعية والتشكيلات

البنائية لقصيدة السرد الحديثة، (دراسة) دار خطوط وظلال،عمان

2021ص78

(3) ينظر جابر عصفور، رمزية المرآة.. قراءة في الدواوين الأخيرة

لمحمود درويش، مجلة العربي العدد (587)،صفحة  أدب ونقد .

(4) ينظر د. حاتم الصكر، المصدر السابق ص83

(5) د . حاتم الصكر، المصدر السابق ص79

(6) مرآة ونصف وجه ص19

(7) المصدر نفسه ص71

(8)   ديوان المتنبي، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت 2008

ص182.

(9) مرآة ونصف وجه ص38

(10) تمام طعمة، العبثية في أدب البير كامو، مقال، موقع جريدة

النهار82- مارس -2019

(11)   مرآة ونصف وجه ص24

(12) من أقوال المشاهير، ما قاله البير كامو عن الحب موقع حكم نت.

(13)  مرآة ونصف وجه،  نفسه ص51

(14) نفسه ص 57

(15) نفسه ص67

(16)  نفسه ص64

(17) نفسه ص 50

(18) غاستون باشلار،علم شاعرية الأحلام الشاردة، المؤسسة الجامعية

للدراسات والنشر، بيروت 1991ط1، ص22

(19) مرآة نصف وجه، ص54

(20) نفسه ص 62

(21) نفسه  ص65

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم