صحيفة المثقف

عبد السلام فاروق: صدمة "أصحاب ولا أعز"!!

عبد السلام فاروقللأسف تعمل السينما والفنون المنحطة بكل جد واجتهاد على تعزيز القيم الفردية، القائمة على الاستهلاك، وذلك لتعزيز الجانب الأناني الذي ينزع لقطع أواصر الترابط مع الآخر، والدفع باتجاه الانكفاء على الذات، والتمحور حولها وعدم الاعتبار لكل ما هو اجتماعي، والعزوف عن كل ما يصب في المصلحة العامة باعتبار أن المصلحة الخاصة هي الأهم، وأن مصلحة الذات أهم ما بالوجود، مما تساهم هذه الميول إلى حالة خطيرة من التفكك الاجتماعي.

وللأسف أيضا، إن غياب النقد السينمائي الجاد الواعي المهني يؤدي إلى انتشار الجهل والفوضى .. لأن السينما علم واسع ومهم، لكن لسوء الحظ لا يتحدث عنه سوى الأغبياء الذين لا يتقنون أدوات النقد السينمائي.

مثل تلك الأفلام، وفيلم (أصحاب ولا أعز) علي وجه الخصوص، تعزز فكرة ماكرة بأن القيم المادية هي القيم الحقيقية العملية، أما القيم المعنوية فلا قيمة حقيقية لها وتمثل بعداً مثالياً لا قيمه له بالواقع الفعلي والعملي .

الأمر لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه الى العمل على تحطيم الهوية الوطنية والثقافية من خلال التشكيك بمرتكزاتها الأساسية، وتهوين عناصرها الأساسية، وإظهارها بمظهر العاجز في نظر مريديها، وأنها غير صالحة للعصر، وعاجزة عن الإيفاء بمتطلباته.

هكذا يعمل الطابور السادس والسابع من الكتاب والمثقفين والمخرجين على تسريع خطى العالم نحو التسليم للنظام العالمي الجديد باعتباره النموذج الأمثل للعالم الأكثر تحضراً، وهو ما يمثل منتهَى ما سيصل له تاريخ الحضارات، كما يري فوكوياما في كتابه:( نهاية التاريخ).

السينما إذن كانت هى المسرح الذى تم من خلاله إحداث التغيير السريع للأذواق والأمزجة وبث الفُرقة العاطفية والأيدولوجية وغرس قيم التباين الفكرى الواهية، مما كان له أكبر الأثر على تشكيل العلاقات العابرة السطحية السريعة والمؤقتة وذلك بفعل الإيقاع السريع لنمط الحياة الحديثة التي هي فى الأصل من صناعتهم.

من جراء ذلك كله بات الأمر كما نراه اليوم: لا صداقة دائمة، ولا زواج دائم، ولا سكن مستقر، ولا قيم ثابتة. ما خلَق حالة من الإجهاد والشعور بعدم الأمان، مما سبب حالة من الفزع الشديد والشعور بالكآبة المميتة، وكل ذلك يلقي بتبعياته الخطيرة على الحالة المزاجية للإنسان وتجعله حاد المزاج، لا يطيق أي احتكاك بالآخر، ولا يملك القدرة على تحمله . لذا يفضل الابتعاد عن الآخرين بغية تجنب الاصطدام معهم، وهذه هي البوابة الرئيسية لتفكيك المجتمع وشرذمته إلى جزر صغيرة شاردة لا يربطها أي رابط إلا رقعة من الأرض تجمعهم .

إن الاقتصاد المهيمن اليوم وبفعل وتخطيط قوى دولية، هو اقتصاد السوق القائم على مباديء السوق الحر ذى النمط الاستهلاكى المفروض فرضاً على الجميع. مثل ذلك السوق هو من يخلق الذوق العام للمجتمعات بحكم هيمنته عليها، وبالتالى يفرض نفوذه بالإطاحة بقيَم أصيلة قديمة وتشجيع غيرها، بما يقرره من موضة أو ذوق جديد غريب مهما كان لا يتوافق مع قيم المجتمع ومنظومته الأخلاقية.

موضة لاتستهدف الحشمة بل تركز على إثارة الجانب الحسي والغرائزي، وخرق المباديء والقواعد الأخلاقية. ومثل هذا الشكل للسوق الاستهلاكية القائم على الغريزة يخلق سعاراً مادياً نحو اقتناء سلع لا يمكن اقتناؤها إلا بتوفر سيولة نقدية تعز على الأغلبية العظمى من الطبقات المتوسطة وما دونها، ويظل اللهاث قائماً لإرضاء هذا المزاج المتغير .

من هنا تنشأ تحولات سيكولوجية وسوسيوجية غاية في الخطورة هي ضرورة تحصيل المال بكل السبل الممكنة مما يغري المستهلك بسلوك كل الطرق المشروعة وغير المشروعة لإشباع هذا النهم المتعاظم باقتناء كل ما يعرضه السوق. هذه الحالة وما تشكله من ضغط كبير على المستهلك المستسلم لها من شأنها خلق نوع من الاقتصاد الأسود الناشئ من سعار السعى نحو كسب ونهب المال من أى طريق.. بمحاولة الاستحواذ على مال الغير قريباً كان أو غريباً، ثم بالتفكير فقط بالمصلحة الخاصة مع التنازل عن الكثير من القيم مما يخلق قابلية لدى الفرد تجعله يتنازل عن الكثير من الثوابت الوطنية والأخلاقية مقابل كل من يلبي له ذوقه المتجدد ويُشبع له رغباته المتزايدة التي خلقتها سياسات السوق المبرمَجة من مراكزها العالمية.

إن ما نشهده اليوم من تدهور المنظومة القيمية تسبب فى إحداث هزة عنيفة للذات المجتمعية في جو مشحون بالتناقضات والضياع. ما يؤدي فى النهاية لحالة سلبية انهزامية لهذه المجتمعات والشعوب تؤدى بالتالي لإذعانها بسهوله لكل ما يُطلب منها من قِبَل القوى المهيمنة.

 

عبد السلام فاروق

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم