صحيفة المثقف

"تلحيم المنقسم" في شعر سلمى بلحاج مبروك (3)

"و................و.................و

والآن

ها أنك تكتبين بقلم الأحزان

بيان

نعيهم الأخير

وتقرئين على موتهم

فاتحة الكتاب"

إنه عقد قران بين صيغة التشاؤم والتفاؤل التي عودتني الشاعرة سلمى على سرعة التأرجح بينهما من خلال التذبذب الذي رأيناه في قصيدتها "شقائق القمر" بين المواسم على سبيل المثال. حتى تلك الواوات التي تفصل بينها النقاط في هذا المقطع تشير إلى الانتقال من مرحلة إلى أخرى. ولقد صرحت الشاعرة بعد ذلك بقولها " والآن" كأنها كانت على وعي تام بأن صيغة المشهد التفاؤلية، التي قامت بها من خلال المقطع السابق، كانت بعيدة عن "الآن" أي في المستقبل. إن رصد مبدأ تلحيم المنقسم في شعر سلمى يجعلنا قادرين على تفسير حتى سرعة تذبذبها بين صيغة وأخرى بغض النظر عن حمولات هذه الصيغ.  ومن هنا يمكن القول بأن مبدأ توحيد المنقسم لدى الشاعرة يمكن تصفحه حتى في قصر المسافة النصية بين صيغة التفاؤل والتشاؤم نفسيهما. نعم، إن الشاعرة تشتغل هنا على نوع من  التوحيد بين الإحساسين (التشاؤم والتفاؤل)  إتماما لعكس الصورة المرجعية التي تفتقد لأحد الأطراف (وهو موضوع التفاؤل) مما أنتج شغورا (واقعيا) يستحق أن تملأه في قصيدتها (فنيا) كما سبق الحديث عن ذلك. وللمزيد من تأكيد هذا المبدأ ها هي الشاعرة تدخل مرحلة مضادة مباشرة بعد هذا المقطع فتقول:

"غزة ...

يا مدينة السماء

في نهر

يرقص بدمائك الخضراء

يتحول شلاله

إلى سجاد من عطر زكي

يصلي عليه كل الأنبياء"

أليست هذه صيغة متفائلة جاءت بعد صيغة متشائمة؟ لا بد من القول بأن مبدأ تلحيم المنقسم في شعر سلمى بلحاج مبروك ليس دائما لفظيا كما أنه ليس دائما معنويا، وإنما قد يأتي لفظيا وقد يأتي معنويا، مظهرا أو مضمرا، كما أنه قد يأتي شعوريا وقد يأتي لا شعوريا. ومن أجل توضيخ ذلك أكثر سندخل إلى بعده اللفظي من خلال المقطع التالي:

"يا مدينة أتخمها الجوع

ورواها العطش

وكساها العراء

وتكدست آلامها"

ها هو تلحيم المنقسم أصبح بإمكاننا أن  نرصد بعده اللفظي إضافة إلى ما تقدم . لنتأمل كيف تجمع الشاعرة  بين الري والعطش، بحيث أصبح العطش يروي بدل الماء، ملغية بذلك مبدأ التضاد القائم بين الاثنين على الصعيد المرجعي. هنا يضطمر إلغاء الفرق بين العطشان والريان مادام السائد هو العطشان والبائد هو الريان. وهذا يعني أن الشاعرة توحد بين الاثنين في شعرها. وأن السبب، كما قلت سالفا، هو الشغور الذي تتركه أحد أطراف المنقسم على المستوى المرجعي. بعبارة أوضح : لو كان هناك ري في الواقع ما انعكس توحيده مع نقيضه العطش في قصيدة سلمى. وقس على ذلك فيما تقدم وتأخر من استخراج مظاهر تلحيم المنقسم في شعرها. إنها توحد هنا لفظيا وبوضوح بين النقيضين، لأن طرف الري غائب عن ساحة الواقع وبالتالي انعكس ذلك في نفسية الشاعرة سعيا منها لإيجاد ضالتها شبه الهستيرية في المضاد المرفوض والمكرس للأسف الشديد. عندما تختزل المتضادين في ضد واحد فهي  تعبر عن انعدام الماء القادر على  إخماد عطش أهل غزة تماما كما أن العراء (في القصيدة) قد ملأ فراغ الكساء (في الواقع) للسبب ذاته. وهذا يتطابق أيضا مع ما جاء في قولها بعد ذلك : 

"في 

صومعة تؤذن الوجع

ولا من مستجيب

أهرامات وجع وأنين

ولا من مستجيب"

لماذا ندعو إلى ترك الشاعر يسجل ما يشعر به دون أن نفرض عليه تدخلا ميكانيكيا؟ لأنه قد يعطينا أصدق صورة عن تفاعله مع القائم المعيش عندما يفقد وعيه السيطرة على تفاصيل ما يقول. أما عندما نملي عليه ما يجب أن يقوله، سواء بدعوى التناغم مع مدرسة نقدية كذا أو مذهب كذا، فهذا سيؤدي بنا إلى الدوران في حلقة مفرغة. نحن لا نريد من الشاعر أن يعرض ما يكتب على محكمة العقل نهائيا. فلو كان هناك مستجيب لهذا الآذان وذاك الوجع والأنين لعاد العطش إلى حالته الطبيعية داخل القصيدة بحيث يمكن ريه بالماء وليس بالعطش نفسه، ومن ثم ينسحب الأمر نفسه على العراء الذي أصبح يحل محل الكساء نتيجة عدم الاستجابة للأذان والوجع والأنين. إن فهم مثل هذه المسألة في شعر سلمى يجعلنا نهضم بسرعة أكثر مبدأ انزياح القصيدة بين يديها. إذا تأملنا جيدا وضعية الجمع بين العطش ونقيضه والكساء ونقيضه في هذا المقطع  فسنجد أن ذلك من جنس العلة التي أدت إلى تبادل الأدوار بين السماء والأرض في المقطع الأول من هذه القصيدة. فبما أن القدرة على تخطي الحاضر المرير نحو المستقبل المتمنى لغزة يعتبر مستحيلا فهو يتطابق مع استجابة الأذان في هذا المقطع التي أصبحت مستحيلة. وإذا أدي الأول إلى إفراز التوحيد بين المنفصل المتمثل في الأرض والسماء فإن الثاني أيضا قد أفرز توحيدا بين العطش والري. كل هذا يقودنا إلى الكشف عن التماسك البياني للقصيدة الذي لا يظهر من خلال القراءة الأولى والعادية طبعا. ها هي تكمل هذا النوع من التوحيد المنفصل الذي يقابل، من خلال القصيدة، تفريق المتصل على مستوى الواقع فتقول:

 

"غزة ...يا أسطورة تراود العذاب

وتروض الأحزان

يا مدينة

بلون غضب السماء"

بعد انتفاء الخيار الثاني أمام غزة ولم يبق سوى الانخراط الكامل في حياة العذاب، لم يعد هناك مناص من التوجه إلى هذا العذاب نفسه ومراودته (داخل القصيدة) وكأنها تمارسه نوعا ما. وما ذلك إلا توحيد بين الخلاص المتطلع إليه والظلم القائم حاليا. إن غزة، في القصيدة، تراود العذاب وتروض الحزن بما يساوي تماما ترويض الشاعرة للمستقبل المتطلع إليه من خلال صياغة المقطع المذكور آنفا صياغة تفاؤلية. وبالتالي فهو يساوي أيضا ترويضها للسماء وجعلها تحل محل الأرض كما قلت. إذا كان ترويض غزة للحزن، في هذا المقطع، ومراودتها العذاب قد جاء نتيجة العجز عن تحقيق السلام هناك فإن ترويض السماء، كما قلت سابقا، جاء نتيجة عدم القدرة الطبيعية على تخطي الحاضر المرير نحو المستقبل المأمول. وبهذا نفهم أن التوحيد بين المنفصلين في قصيدة سلمى يعبر عن التفريق بين المتصلين خارج القصيدة، أي في الواقع المرجعي.

........................

يال مصابنا ....في موتنا

يأخذنا في سنة من غفلة لا تنتهي

يخجلنا....

أن لا نكون جرحك وأنينك

يخجلنا رنين فحش

متسع الأحداق

في وطن البعير والعبيد

يعلقون براءة الشمس

في مشانق الغبار"

بعد هذه النقاط المتتالية التي تعبر عن الانتقال من مرحلة  إلى أخرى انتقلت  الشاعرة إلى مخاطبة الذات في شكل تعليق على ما حدث وقد نزلت  من برجها العاجي للحظة كعادتها في وقفة استراحة من عناء النقش البلاغي على جلاميد الذات الشاعرة. بما أن النص لا يتضمن أية إمكانية لعكس الاستجابة المرجعية لآذان الوجع ولا لمشروع التسريع من حركة الزمان نحو مستقبل الخلاص ولا إيجاد الماء القادر على إخماد عطش غزة، كان من الأبلغ أن تنسج الشاعرة تعليقها، على لغتها العاجية، بمخاطبة الذات وهي تدرك بأن من لم يؤثر في مسامعه صراخ الأطفال والشيوخ والنساء للعشرات من السنين، بل ولم يؤثر فيه زعيق الميركافا ولا زئير الإف ستة عشر الحائمة حول أعناق العزل، هو أبعد ما يكون عن مجال تأثير القصيدة. وها  هي تسائل نفسها وتوبخها متستنكرة عليها برودة الموقف عساها تصيب شيئا من حكاكة الموضوع المهترئ في مكنون الذات الجريحة. ولكن لغة التعليق والاستراحة هذه لم تخلوا من مظاهر التوحيد بين المنقسم كما رأينا طوال هذه الدراسة. لاحظ أن الشاعرة تتمنى لو كانت جرحا من جراح غزة. وهذا يعني أنها وحدت بين الجرح واندماله كما وحدت بين العطش والري الخ !  ولقد تحدثت عن العلة وراء ذلك مكررا الآن بالقول أن التوحيد بين الجرح واندماله (في القصيدة) يعبر عن الفصل بين الجرح وإمكانية اندماله (في الواقع) !

 

"يشوهون دم القرنفل

بعار لا يغسله نار

يبذّرون شهداءك الأحياء

ذات اليمين وذات اليسار

يبعثرون

ملحمة الشرف

على صك بياض الذل"

ها هي النار (في القصيدة) تحل محل الماء (في الواقع المرجعي) مستغلة عدمه طبعا. والمعلوم أن الماء ضد النار ولهذا فإن مبدأ جعله يحل محل الماء هو نفس المبدأ الذي تم الخضوع له كما قلت سالفا سواء من الناحية الفنية أو العلية. يبعثرون ملحمة الشرف على صك بياض الذل. إنها فعلة البعير والعبيد من المروجين الداخليين للفتك الخارجي. فهم يوقعون على اتفاقيات وهدنات سلام مزيفة مخادعة هي بمثابة بياض الذل، أي أن اللون مغر لكن الذل يبقى ذلا مهما تعددت الألوان والأشكال. ولكن التصوير يأخذ حدة فنية جمالية أمامنا أكثر عندما نلاحظ بأن الملحمة، التي يتم بعثرتها على هذا الصك، هي ملحمة مجانسة للصك من ناحية الفضاء الورقي للنص لأن الشاعرة لم تكتف باستشعار مضمون الملحمة البطولي كمتن حكائي فحسب وإنما كمبنى حكائي أيضا والمتمثل في الفضاء الورقي والمدادي لهذه الملحمة. نحن إذن أمام نصين (الصك والملحمة)  كيلاهما يحمل بعدا مداديا وبعدا ورقيا وكأن حروف نص الملحمة قد تم بعثرتها  وصهرها في حروف الصك. من هنا تعكس المهزلة المرجعية التي يتم من خلالها الاستهتار بدماء الشهداء وجحودها عن طريق الاستسلام لشروط معينة يفترض أنهم استشهدوا من أجل رفعها عن كواهلهم.

"وعند انتشار العتمة

يهرعون

هنيئا

مريئا

إلى مخدع

" إن عصيتم فاستتروا"

يطمسون

ماء براق العزة

يكتمون بريق وميض الأمل

وينامون نومة الأنعام"

 إن البعير والعبيد قد ساهموا في انتشار العتمة من خلال إثارتهم حروف الصك على حروف الملحمة. وفي هذا المقطع يأخذ التصوير البلاغي وجهة ترتيبية تتمثل في ترتب الهرع، إلى المخدع، على نزول العتمة. فالوقت الطبيعي للنوم هو الليل. والعتمة طبيعة الليل. ولقد استغلت الشاعرة العتمة وهي مستعدة لإشباع ما يترتب عنها  من النوم وغير ذلك. عندما تنزل العتمة المعنوية، التي تستدعي تسجيل موقف حازم إزاء الكوارث الإنسانية المتهاطلة على غزة، يهرع هذا القطيع (من العبيد الذي لا ضير أن يترأسه البعير أو الحمار إن شئت فكيلا اللعنتين سيان) إلى مخادعهم ليمارسوا نوما بعيريا معنويا وفق سنة ملفقة اخترعوها هم، وليس سواهم، لوقت الحاجة. وشعار هذه السنة كالتالي "إن عصيتم فاستتروا" والتستر هنا عن اليقظة يكون بتسليط النوم على الوعي. بيد أنهم مشاركون في إنزال العتمة أيضا وذلك لأنهم يكتمون بريق الأمل عنهم وعن غيرهم من ذويهم. إذن فالعتمة هي وسيلة لتسترهم أمام الغير والتي تقابل النوم الذي يستر وعيهم عن ضمائرهم. لهذا فهم ينامون كالأنعام بل هم أضل. عندما يطمسون ماء براق العزة فإن ورود  الماء هنا يفسر لنا أكثر العلة الواقفة وراء توحيد الشاعرة بين المنفصلين. لأن طمس الماء البراق هنا يبرر جعل النار مكان الماء المفقود، في مقطها أعلاه، عندما قالت (يشوهون دم القرنفل بعار لا تغسله نار) فهذه العبارة، كما قلت سالفا، تدل على ملء النار مكان (فراغ) الماء، وبالتالي فهي خاضعة لمبدأ تلحيم المنقسم داخل النص الذي يعكس تفريقه السائد خارج النص. إذا كان العبيد بقيادة البعير قد شاركوا في الفعلة على النحو الذي رأينا، فلقد شاركوا أيضا في إعدام الماء الذي أدى بالنار إلى أن تحل محله في المقطع السابق. ولا عجب ما داموا قد أثاروا هراء صك الذل على عبارات نص الملحمة الشريفة.

ننتقل إلى قصيدة أخرى للشاعرة سلمى  بعنوان "ندى قمر مربع الاستدارة" (4). عندما نقرأ ما سلف من القصائد ونفهم بأن المبدأ الأساسي، الذي يشكل آلية الإنتاج لدى سلمى، هو ما سميته تلحيم المنقسم، لن نستغرب ولن نستبهم كثيرا الوضعية الفنية التي أخذها عنوان هذه القصيدة. فالحق أني لو لم أتربص من بعيد بتأن حتى أدركت رأس خيط النظم لهذه الشاعرة العنيدة، من خلال المواطن الأقل كثافة في شعرها، لكان من الصعب علي فهم وتفكيك مثل هذه القصيدة  وعلى رأس عناصرها العنوان" ندى قمر مربع الاستدارة" فعندما تقول "مربع الاستدارة" فهي تؤكد عنادها الانزياحي وتؤكد استفزازها لكل قراءة كسولة يتخللها التثاؤب. لقد كان عليها أن تقول " قمر مربع" وكفى من أجل أن تريح القارئ، لكنها أرادت أن تنسجم مع مبدئها الشاعري الفني القائم على توحيد المنفصل وفق العلة التي ذكرتها. الآن، بعد أن ترصدنا هذه المظاهر شيئا فشيئا من خلال قصائدها السالفة أصبح  بإمكاننا القول بأن الشاعرة، من خلال هذا العنوان، تقوم بتوحيد (تلحيم) المنفصل (المنقسم) الهندسي، أي الجمع بين التربيع والاستدارة. وإذا كان في هذا ما يقتضي فصلا مفهوميا بين القمر وشكله الهندسي، فلا ننسى أن الشاعرة قد سبق لها أن فصلت بين الصحراء والكثبان على سبيل المثال الخ. فهي تفصل مفهوميا بين المتصل الطبيعي من أجل وصل المنفصل الاكتسابي. بوضوح أقول بأن شعر سلمى خاضع لمنهجية عميقة متناسقة ودقيقة تستدعي دراسة عميقة جادة وطويلة. إن مبدأ تلحيم المنقسم هو الذي فرض عليها تلحيم (توحيد) بين التربيع والاستدارة وفق نسق فني وسيكولوجي أيضا وهي ترمز بذلك إلى مواصلتها السير على نفس المبدأ حتى في تأملها المحايد الحمولات على مستوى الوعي.

"تذهب إلينا الأمكنة

يرحل في اتجاهنا

الوقت

أنا وأنت

يصير الزمن مرئيا

مع قافلة الأحلام"

هنا تتركز مادة التكثيف الشعري بمختلف صوره. فإذا كان القمر مربع الاستدارة= (تلحيم المنقسم الهندسي) فإن الأمكنة أيضا أصبحت تتحرك بطريقة بشرية =(تلحيم المنقسم الفيزيائي). هنا نجد تلحيم المنقسم كامنا في سكون المكان الذي تقابله حركة الإنسان. وإذا تحرك المكان (داخل القصيدة) يلغى مبدأ الفصل الفيزيائي القائم بينه وبين المتحرك= الإنسان (خارج القصيدة). وهذا يعني توحيد ذلك المنفصل عن طريق تبادل الأدوار بين الإنسان والمكان. وبالتالي توحيدها بين الإنسان والزمان بقولها

" يرحل في اتجاهنا

الوقت "

 كما تم تبادل الأدوار بين النار والماء/ الجرح والاندمال/ الظمأ والري/ الحاضر والمستقبل/ السماء والأرض من خلال القصائد السابق ذكرها. وما يثير الذوق الجمالي في نفوسنا أكثر هو أننا يمكننا استعراض كل تلك العناصر فنجد ما ينطبق عليها ينطبق تماما على ما يحدث هنا من تبادل الأدوار بين الإنسان والمكان والزمان والأحلام الخ. تستطرد في مخاطبة بقايا الموضوع في خبيئة الذات بقولها:

"نشد الرحال إلى مكان محفوف بضجيج العزلة

نسد رمق السؤال

بخرقة من قماش أجوبة بالية

تسير في بركة العدم

قوافل ليل منبلج

أشتعل رأسه نجوما

في زحام قحط الضياء"

عندما انتقلت بؤرة اللعبة إلى العزلة أصبح بإمكاننا شد الرحال إلى المكان بدل أن يقوم هو بذلك نيابة عنا، وهذا نتيجة دخول الشاعرة في المرحلة المضادة للمرحلة السابقة إتماما للتزاوج المعتاد لديها والقائم على التأرجح بين القطبين في كل شيء، ولكن الفخ يكمن في الجمع بين منفصل العزلة والضجيج. فمن المعلوم أن العزلة يمكن أن تكون نقيض الضجيج لأنها ببساطة تعني البعد عن مصادر هذا الضجيج. لكن الشاعرة قد جمعت هنا بين المنفصلين وفق المبدأ المفصل فيه أعلاه. وهكذا تناغما مع هذا المبدأ لم نعد نسد رمق السؤال بشيء يؤكل بل بشيء يلبس بالإضافة إلى أن السؤال شيء مجرد ثم إن القوافل التي تسير في بركة العدم هي قوافل ليل منبلج وليس مظلما. لقد انبلح بفضل النجوم. وإنني أعتبر هذا التصوير لمن يكاد يملك السيطرة على ناصية البلاغة. فهي تشخص الليل باستيحاء الآية القرآنية التي ورد فيها كلام النبي زكرياء عن الذرية والإرث الخ(5) وكأن مسؤولية الليل عن القوافل تشكل نصف التشخيص الذي يكتمل باشتعال رأسه شيبا.

"في

حديقة من دمع متموج

خيمة ريح

تشدّها أوتاد وهم"

 

لاحظ أن الخيمة جاءت باعتبارها خيمة للريح مع العلم أن الخيمة يتم شدها بالحبال والأوتاد لكي لا يأخذها الريح وليس العكس كما جاء في القصيدة. ولكن بفهمنا للمبدأ الذي تقوم عليه هذه القراءة كما فصلت أنفا يصبح بإمكاننا التناغم مع وجهة البوصلة الفنية التي تسير عليها القصيدة. ومن ثم نفهم أنه حتى أوتاد الوهم، الوارد ذكرها في المقطع الأخير، تؤكد عزف الشاعرة على وتر التوحيد بين المنفصلين. فهي تؤسس كونا واحتمالا مقلوبين بشكل منهجي. وهذا القلب، كما قلت، جاء تعبيرا عن غياب فرص الاتصال على مستوى مرجع القصيدة (الواقع). بيد أن الشاعرة تؤسس لقلب الكون رأسا على عقب، من خلال نصها الشعري، وفق المبدأ ذاته بحيث يصبح معيار الهدم الفني داخل القصيدة على صلة عكسية بمعيار البناء المزعوم خارجها. إنها كمن يضطر لتكسير وقطع الصخور من أجل أن يبني بها بيتا بعد أن وجد نفسه في العراء. ولهذا يمكن القول بأن عناصر التلحيم بقدر ما تؤثر هدما على صورة المرجع المرسومة في القصيدة، فهي تبني صيغة فنية سيكولوجية للهدم الخارجي المرفوض.

 

الخلاصة:

 

من خلال هذه القصائد الأربعة للشاعرة سلمى بلحاج مبروك نجد أنها تعكس وضعية الموضوع المكتوب عنه بإغراق الحضور الفني في الغياب الواقعي. وذلك من خلال ما تعكسه القصيدة من عناصر المحيط بأوسع معنى. فالشاعرة كلما استشعرت غيابا لمظهر من مظاهر الموضوع سعت لتعويضه بحضور ذاتي بحيث تملأ فراغ الواقع بشحنة الفن داخل القصيدة. وبما أنها تستشعر ما يترتب عن ذلك الغياب من عواقب سلبية مرفوضة أو غير ذلك، فهي تعبر عن الحاصل بقدها الحضور، المتحدث عنه، من الغائب نفسه وذلك عن طريق إلغاء نقيضه والإبقاء عليه بحيث تسند إلى هذا النقيض أدوارا لا يمكن أن يلعبها بشكل طبيعي على مستوى الواقع إلا النقيض الغائب مثل إسناد خاصية الري إلى الظمأ كما رأينا أنفا على سبيل المثال، والذي جاء نتيجة غياب (الماء) الكافي لري أهل غزة كما قلت. إن الغائب المرجعي إذن يتجسد في نقيضه الطبيعي من خلال القصيدة. وهذا التجسد في النقيض يعني الاندماج الكلي في هذا النقيض من خلال إسناد أدوار الغائب المرجعي إليه. وإذا كان الغائب المرجعي يعني انعدام أحد أطراف العناصر المطلوبة لممارسة الحياة الطبيعية، فهذا ما يمكن أن نسميه انفصال المتصل، أي أن أحد الضدين قد انعدم من الساحة وبقي الأخر على قيد الحياة. وبما أن هذا الانفصال أصبح معجوزا عن تلحيمه على مستوى الواقع، نظرا لانعدام أحد الأطراف، فإن الشاعرة تقوم بتلحيمه  من خلال شعرها ولكن بطريقتها الفنية الخاصة كما رأينا سالفا، أي أنها تقوم بتوحيد أدوار وصفات وأفعال الطرف الفاني عن طريق إسنادها إلى الطرف الباقي مضيفة إياها إلى صلاحيات هذا الأخير مثل إلغاء الفرق بين الجرح واندماله (توحيد معنوي) أو التربيع والاستدارة (توحيد هندسي) كما رأينا الخ. وهذا ميكانيزم أساسي في تعميق شعرها بحيث يمتد عبر المعنوي واللفظي والمضمر والمظهر والشعوري واللاشعوري في مختلف أصقاع القصيدة مما يجعل هذه الأخيرة غارقة في الترميز عميقة الغور. إذن فإن الشاعرة، من خلال هذه القصائد، تسعى لتحقيق رتق فني لفتق واقعي ملموس وبالطريقة التي فصلت فيها سالفا من خلال هذه القراءة. 

 

سعيد بودبوز

 

..................... 

http://www.doroob.com/?p=41339  (1)

http://www.doroob.com/?p=40708        (2)

(3)

http://www.facebook.com/#/notes/selma-bel-haj-mabrouk/gz-y-rws-lsm/273902709992

(4)

http://www.facebook.com/#/notes/selma-bel-haj-mabrouk/ndy-qmr-mrb-lstdr/280425114992 

   (5) الآية 3 من سورة مريم

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1287 الخميس 14/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم