صحيفة المثقف

"تلحيم المنقسم" في شعر سلمى بلحاج مبروك

الفلاحين عبر مختلف أصقاع البساتين. ومن تلك الكينونة والحينونة تنطلق الشاعرة سلمى بلحاج مبروك في تسجيل نزهتها الشعرية التي لا تلبث أن تتحول إلى متاهة في سراديب كينونية وحينونية مقفرة مظلمة حيث تكفي رؤية القمر لتأخذ فكرة عما يتواطس تحته من موبقات الحضور المتشظي عبر أطلال ذلك الكون الزهيد المحيط بجميع أجرام وأنام القصيد. هي إذن شاعرة الوجود والعدم والكون والفساد والخصب والرماد والحيوان والجماد. شاعرة عابرة لحواجز المقولات ومستعدة لتباغتك بشعرنة السماء الدنيا حول حضورك الساذج أمام تلك القصيدة قبل أن تتساءل عن ماهية التحليق المناسب لمجاراة ما يطوف حولك من العناصر دون أن ترى لها أجنحة. ولكن اللغز سينحل أمامك عندما تدرك بأن تلك العناصر ليست هي التي تطير وتطوف حولك، بل أنت الذي تشعر بالدوار. وإلى أن تستعد للغوص في سراديب الممكن الفني الشعري من هذا الطراز عليك أن تأخذ قسطا من الراحة أولا. عندما تستعد الشاعرة سلمى بلحاج مبروك  لكتابة القصيدة فهي لا تترك من التشكل النمطي للكون إلا باسمك اللهم، إذ تأتي على أخضر المحيط، المشعور به، ويابسه كالنار الموقدة من أجل أن تعيد صياغته كاملا من مبتدأ الجذور إلى منتهى الأغصان. وعندها فحسب تطمئن لتحقق الشروط الانطباعية اللازمة لإلقاء القصيدة. إنها تفكك المحيط برمته وبقدر ما تركب القصيدة. بيد أن جنس التركيب الشعري من جنس التفكيك الكوني بالنسبة للشاعرة سلمى. إنها تمهد الطريق بإحداث انفجارات وانهيارات رهيبة في البنية التحتية للكون. وكل هذا من أجل أن تستبق التقاط الصورة لأنقاضه وتقول لنا: هنا منتهى التشاؤم، هنا إيسكاتولوجيا الخوف والذعر فتعالوا معي أعطيكم لمحة حول طبيعة الأنقاض التي قد يخلفها الانهيار الكوني على رؤوس من فيه. ولا ننسى أن هذه الرؤوس يجب أن تتحول بشكل قبلي إلى جلاميد صالحة لشتى أصناف الاختبارات التخريبية من أجل الوصول إلى إنتاج إنسان من الحجر فإذا به تمثال يُعبد هناك في أسفل سافلين بين ظهران بني أخياف والسفهاء في مدينة ما تقع في وسط قارة الشمس. وبالتالي تأنيب العابدين بشكل تم إضماره في تأنيب هذه الأوثان نفسها عن طريق التحقير والسخرية والاشمئزاز من حجريتها المقيتة مستنكرة عليها التحجر والامتثال لهذا التصميم التمثالي رغم أن الوجود حول هذه التماثيل مهدد بانهيار كاريكاتوري باعث على المهزلة ومثير لسفساف أقصى آيات التسخيف والتسفيه. لا يمكن تأويل قصيدة للشاعرة سلمى بلحاج والكون حي يرزق. لا يمكن الوصول إلى شيء ما لم نتطلع إلى استخراج السياق الوجداني للقصيدة من أنقاض الماهية والهوية والوجود. الوصول إلى حافة التأويلات يجب أن يتم عبر كم هائل من الشظايا والغبارات والدخانات والخذلانات  والطغيانات التي انصهرت في سديم واحد وتم إنتاجها في لاماهية واحدة من حيث نقضها  لمبدأ الوحدة نفسها. إنها الشاعرة التي تدخل إلى نفسك لتقول عن نفسها، من خلال اللانفسك، ما تريد. تتحدث بلغة مثقلة بإيحاءات ما قبل استقلال الإحيائي عن الجماد. لغة أنثروبوفيزيائية Anthropophysical تنم عن عكس حينونة  ما قبل تشكل الخلية الحية. حين كان الحيوي مضمرا في الفيزيائي وموجودا بالقوة في مادة الصخر والنار ككائن فيزيائي ثم كيميائي ثم بيولوجي. من هنا تستوحي نفسية الشاعرة حملات مفرداتها الدلالية. الإنسان في قصيدتها كائن آثاري نياندرتالي لا فرق بينه وبين صخرة بركانية سوى فيما يخص الشكل الهندسي الذي يجعله مرسوما على جبين الصخرة. ولا بأس من تطوره إلى مرحلة العظام على أن تبقى رميمة. لكن الفرق الجوهري بين هذه الحقيقة وما يعكسه منها شعر سلمى هو أن كليهما يحمل ما يكفي من المخرجات عن فلك التاريخ بحيث يضعف القول بانطباقه على الماضي دون الحاضر أو المستقبل. وهذا لعمري نتيجة كونها قد أجهزت على عجوز النحس هذا التاريخ أيضا وألحقته بالوجود الذي صار فعلا عبارة عن عجين من مادة الممكن بين أناملها بحيث لا تفتأ تصوغ منه صورة ما تلتقطه نفسيتها الشاعرة. لا وقت للشاعرة سلمى يكفي لتراقب أو تراعي مدارك القارئ المفترض. فهي متمكنة من الأصول الفنية للشعر وتدرك بأن هوية هذا الأخير فنية قبل كل شيء وأن استهداف الفهم العام البديهي من خلال القصيدة (المفترض أن تكون كلاما فنيا وليس مباشرا عاديا) هو من قبيل عدم القدرة على الغوص اللغوي مجاراة للغوص الإحساسي، هذا إذا لم نقل ناتج عن عدم القدرة الكافية على الحس الدقيق بما هو دقيق وهو الفصل الذي يتقرر فيه الفرق بين الشاعر وغيره. وبناء عليه فإن الشاعرة سلمى بلحاج مبروك لا تحاول التنازل عن التقاط تفاصيل بعض المشعورات من أجل التخفيف عن القارئ(الباحث في بستان الشعر عن أسماك الصحف اليومية) وهذا جانب يستحق المباركة والتشجيع في شعرها. لأن هذا يعني أن المتلقي لشعرها يتلقى شعرا حقيقيا بكل المقاييس ولا مجال للتصنع الذي يؤدي، لا محالة، إلى خلق المشكوكية الأدبية الفنية على مستوى التلقي بقدر ما يتعرض للتخاذل الذاتي الشاعري المؤدي إلى إعطاء صورة يطغى عليها التكلف والتصنع. لا رحمة في قصيدة سلمى ولا شفقة. فالويل لمن يشترط فهما على النص الشعري كشرط سابق للذوق. ولا مجال له بين هذه القصائد إلا أن يغرب عن وجهها غروبا واحدا وكاملا. عندما نقرأ قصيدة للتونسية سلمى فهي تستدعي منا وفينا غريزة احتضان لا مشروط للجمال. الغريزة التي لا تتورع عن ذبح العرف والتقليد والعقل والنقل من أجل الحسن البلاغي الفني المكتوب و من أجل السحر الذي لم يسموه سحرا حتى كان خاطفا للصواب. فلو عرضنا جمال النساء مثلا على محكمة المنطق ما بقي لنا وقت يكفي للزواج بإحداهن. إذا كان لا بد من إعمال غريزة الفهم فيجب أن تعمل لفهم الذي أحدثه هذا الفن في نفوسنا بدل إعماله في فهم ما قاله أو لم يقله القصيد كما قالت الشاعرة التونسية الأخرى "فاطمة بن محمود". هنا الأدب، هنا الثروة الإبداعية في حقيبة هذه السلمى الوعرة الهضاب والأخاذة المناظر التي يتقاسم تلالها بياض الثلوج وفسيفساء ما شئت من الأزهار والفراشات. هي أرضها الشاعرية التي تجري من تحتها أنهار الفن والجمال بعد تخطيك القرائي لكل الأنقاض والانهيارات التي أحدثتها هذه المرأة. ولا ننسى أن الرجم العظيم قد كان المسؤول الأول عن هطول المطر إبان الزمن الجيولوجي بفضل الدخانات التي أحدثها في أرجاء المعمورة التي كانت مخروبة آنذاك. تقول في قصيدة بعنوان "شقائق القمر" (1)

"على سواعد الآلهة

أزهرت شقائق القمر

جدائل المرح

من قلب مروج الثلج الأخضر"

اخضرار القلب يبرر، بقدر ما يلائم،  أزدهار شقائق القمر التي انبثقت منه أصلا. وبالتالي فقد مهد لهذا الازدهار نسقيا حتى وإن تأخر من حيث ترتيب المفردات في النص. ثم حتى وإن كان القلب يحمل خاصيتين إلا أن الشاعرة أشبعت به التصوير. فمن الملاحظ أن هذا القلب، من حيث علاقته بالمروج، يلعب دور اللب الوسط. لكن على مستوى علاقته بالثلج يعطينا صورة جانبية تشير إلى برودة ما في موقف ما. وانطلاقا من هذه البرودة، التي هي صفة الماء كما أن الثلج أصله ماء، تفرع هذا القلب كالنبتة لتصبح الإشارة إلى الآلهة انطلاقا من علاقتها به، تلك العلاقة التي أزهرت شقائق القمر بفضلها، منحصرة في التدليل على الدور الفلاحي لهذه الآلهة أكثر من دورها الألو هي أو الربوبي، وبالتالي توجت التصوير بازدهار شقائق القمر. لقد صورت الآلهة وكأنها لا تعدو أن تكون مجموعة من الفلاحين في بستان تمت الإشارة إليه بنفس التجزيء الذي تم عن طريق  الإشارة إلى القلب  والمنشطرة بين البذرة وبرودة موقف قد يكون ذا صبغة عاطفية. وسرعان ما تنتصر الشاعرة لجانب البرودة من خلال علاقته بالإفضاء إلى العبث فتقول:

"تناثرت في بيداء الروح

أخاديد فجر فسيح متمرد"

الشاعرة تجعل من العناصر الكونية المشعرنة موقفا يحاكي فعل الطبيعة خاصة ما يتعلق بدورة المواسم. وتقوم بقزيم الزمان وحرق المراحل تسريعا من إيقاعها النصي بحيث تعطينا فرصة للكشف عن آلية هامة من آليات بنائها للقصيدة. وهذه الطريقة أيضا تساعد على تعميق خطابها الشعري. لكن في القراءة التحليلية ينبغي أن نعكس الصورة، أي مادام العمق جاء على هذا النحو نتيجة حرق المراحل وتقزيم الزمان، لنستخرج الحادث كما لو أن ما يفصل بين هذه الفصول وقت طويل بما يكفي لملاحظة التغيرات الطارئة. ومن هنا نجد، على سبيل المثال وبفضل افتراضنا القرائي، بأن هناك وقتا كافيا للفصل بين المرحلة التي أزهرت فيها شقائق القمر ومرحلة تناثر هذه الشقائق في بيداء الروح. وباستخدامنا معيار التجزيء السائد  الذي عودتنا عليه الشاعرة نتوصل إلى محاكاة التعاقب القائم بين المواسم. وأن المقطع الأول يتضمن الإشارة إلى فصل الربيع بينما تشير، من خلال هذا المقطع، إلى فصل الخريف حيث تناثرت الشقائق في بيداء الروح. عندما ردت الشاعرة على إشارتها إلى فصل الربيع، من خلال المقطع السابق، بالإشارة إلى الخريف في هذا المقطع فإن ردها يتضمن ردا فرعيا على القمر أيضا. فالفجر فسيح لكنه متمرد. وبهذا يصلح أن يكون الحديث عنه ردا على الاستمتاع بالقمر في  جو دلالي يضم الأزهار وفصل الربيع والاخضرار. إذن فهذا الرد يوازي ردها، من خلال تمرد الفجر، على القمر وتناثر الشقائق في بيداء الروح. بعد ذلك تواصل السير على نفس الإيقاع الاختزالي لنظام الزمان من خلال حرق المراحل الموسمية بغية استثمار سرعة التعاقب القائم بينها في التعبير عن أحوال وجدانها مشكلة بذلك أبجديات فنية منها تتكون روح اللغة الشعرية الظاهرة للعيان. فعندما ينتهي فصل الخريف يأتي فصل الشتاء. لنتابع مظاهر هذا الأخير في مقطعها الثالث من نفس القصيدة حيث تقول:

"هطل الصبح

على مفترق سناء ضوء فاحش

أريج نبض ندى مترف

زاد شتات هائم

منعش…طري …عبق …مبهم"

الهطول والندى والإنعاش كلها مفردات تشير إلى استحياء موسم  الشتاء  إتماما لمسلسل أبجديات الفصول التي تعزف الشاعرة، من خلال استيحائها، على الوتر الفلكي لمبدأ التضاد الحاكم لصيرورة القصيدة إضافة إلى العناصر الأخرى. وبهذا تثري عناصر التعبير الفني عن مشاعرها وفي نفس الوقت تستعرض هذا التضاد في إطار موحد على عكس وضعيته من الناحية المرجعية لأسباب سآتي على ذكرها لاحقا. ولكن هذا التصوير يقتضي من الشاعرة اتخاذ موقع ملائم من خلال زخرفة حضورها داخل حرم القصيدة بحيث لا تكون مخاطبة هذه الصور من فوق النص ولهذا تقول:

 

"في نهم المنظر

أسندت ظهري للزمن العاري

خلطت ذاتي بنسغ الشفق البري

في كوخ الجسد

تركت الروح

تتزلج"

إن حضور الشاعرة بين عناصرها الفنية التي تشكل الموضوع اقتضى منها التحلي بحلة فانطازية من أجل ملائمة ما تكتب عنه، ولهذا نراها تسند ظهرها إلى الزمن العاري بدل الزمن النمطي  وتخلط ذاتها بنسغ الشفق البري في كوخ الجسد عملا على ربط صلة التناغم الصوري بين حضورها داخل القصيدة وعناصر الموضوع. في نهم المنظر لم تسند ظهرها للزمن النمطي بل لذلك الزمن العاري الذي من شأن عورته أن تتناغم أكثر مع تحول الجسد إلى كوخ تختبئ فيه الروح.  الملاحظ أن تحويل الجسد إلى كوخ يعني قابلية المشهد لخروج ودخول الروح  في الوقت الذي تريد( الشاعرة) هذه الروح. وأن ما أرادت هو تزلج الروح في مشهدها الذي عملت جاهدة على تليينه وتعجينه بحيث يصبح قابلا لتمثل مختلجات الشاعرة بأكبر قدر ممكن من المرونة. قد يكون الحديث عن خروج الروح من الجسد حديثا عاديا يفيد الإخبار بالموت، ولكن عندما تصنع الشاعر ة مشهدها الفني الشعري في فضاء الإمكان بدل فضاء الوجود، محولة من خلاله الجسد إلى كوخ، تصبح الروح ساكنة فيه بعد أن تم تشخيصها وإقالتها من مؤسسة الجسد كبعد لا يمكن الاستغناء عنه في عالم الحياة الطبيعية. وهكذا خرجت الروح من الجسد (الكوخ) للتزلج:

"على قارة شمس جعدها

ديكور حزن مستورد

تعزف وشم الماضي

على أكورديون ذكرى نرجسية

في مدينة

نصف سكانها تماثيل

تنبض شهوة رخامية"

عندما يتعلق الأمر بالحديث عن نصف المدينة الذي يتشكل من معاشر التماثيل فلا حرج من الحديث عن شهوة رخامية بالمعنى الحجري وليس بمعني ريح هادئة. لأن التمثال يفترض أن يكون عادة من الحجارة أو ما شابه. ولهذا نرى أنه حتى تلك الشهوة، المشتعلة في أبدان هؤلاء، ليست شهوة حقيقية بل منحوتة فقط وبالتالي فهي رخامية مادامت متعلقة بقوم حجري. وبهذا فإن الشاعرة لا تستهدف، من خلال القصيدة، أي حديث عن النصف البيولوجي السليم من هذه المدينة. وأن كل ما في الأمر هو أنها تعطينا صورة شعرية لذلك النصف اللافائدة ترجى منه. بيد أن حجرية هؤلاء هي المسؤولة عن هذا التحويل السريع للشمس من الجمادية إلى التشخيص. أي من كونها قارة (أو بالأحرى تغطي قارة)  إلى عزوفها  لوشم الماضي على أكورديون الذكرى النرجسية. حتى الحديث عن الحزن وعلاقته بالتجاعيد يجعلنا نتصفح تشخيصا للشمس قبل مرحلة العزف، لأن الحزن من بين الأسباب المؤدية إلى ظهور التجاعيد في وجه الإنسان. نصف الشمس الواردة مشخصا كما أن نصف المدينة محجرا وكأنها تقيم تضادا موازيا للتضاد المعجمي على هذا الأساس أيضا. تتحول الشمس إلى شخص عازف لوشم الماضي على الأكورديون. لأن النصف المستهدف من سكان المدينة يحتاج إلى إعادة التأنيس والتشخيص. والفرق بين النصفين هو أن الأول مضمر والثاني مظهر. كما أن الأول معنوي والثاني لفظي. إن النصف الحجري لأهل المدينة لا يملك إحساسا بطبيعة الحال، وهذا يعني أن الحزن المفترض إسناده إلى حضرتهم حزن مزيف مثل الشهوة الرخامية أو لنقل كما قالت الشاعرة (حزن مستورد) فهو مستورد إذن لم يتجل أثره إلا في الشمس أثناء مرحلة تشخيصها. أي من خلال النصف الزمني الذي تمت فيه أنسنتها. وبالتالي فهو مستورد عليهم لعدم وعيهم بما يدور حول الديار بنفس ما هو مستورد على الشمس التي تأسفت نيابة عنهم لما هم فيه يعمهون. هناك هرمية بيانية توفقت فيها الشاعرة. وهي أننا نجد عالم الألوهة على قمة الهرم. وهذا العالم يقابل عالم التماثيل في قاعدته. لقد تم عرض هذه الألوهة بصيغة الاستخفاف والاستسذاج، لأن الشاعرة مشغولة بتسجيل أكبر قدر ممكن من الاستسذاج لهذا الجانب المهجور المقفر من الكون وليس من العدل الجمالي الحديث عن الله في مقابل أناس ليسوا بشرا أصلا وإنما هم مجرد تماثيل. ثانيا هناك توافق فني آخر ترتب عن السابق وهو التزييف السماوي المتمثل في انتشال الآلهة من أسفل الطبقات الجيولوجية للذهن البشري بعد أن كانت هذه الظاهرة قد أكل عليها الدهر وشرب. هذا التزييف السماوي الميتافيزيقي  الذي حدث على قمة الهرم قد أنتج تزييفا أرضيا فيزيقيا في قاعدة هذا الهرم. وهو تزييف نصف سكان المدينة المتمثل في التماثيل. مع العلم أن الباطل لا ينتج عنه إلا باطل. ولهذا فإن التزييف السماوي في أعلى القصيدة ( هرم النص) لا يبشر بخير في قاعدتها. وها نحن نجد أن الحديث عن الآلهة يناسب النصف المستهدف من سكان المدينة أو التماثيل الكرام. بيد أنه حتى البرودة المشار إليها في المقطع الأول بالثلج قد تبلورت في تلك الشهوة الرخامية في قاع القصيدة. وكأن الشاعرة فتحت شاشة الوجود على الآلهة وما يفترض أنها خلقته من التماثيل المضحوك على أمرها ثم حاولت جاهدة أن تجد في هذه الشاشة ما يعكس حالتها الوجدانية قبل أن تأتي على الأخضر واليابس بأن أنهت الثلج في الرخام و أجهزت على قدرة الآلهة الهندسية بحيث حرصت على زرع ما تيسر من الشك حتى في القوى العقلية لهذه الآلهة. لم لا مادامت هذه الآلهة قد فشلت في إنجاز فعلها الألوهي المؤدي إلى خلق نصف المدينة على هيئة الآدميين الحقيقيين في حين نجحت في لعب دور الفلاح وهو دور يقع في حضيض الوظائف البشرية وإن كان ذا أهمية أساسية في الحياة طبعا. بهذا تستعرض الآلهة من أجل الإجهاز البلاغي عليها ومن أجل تتفيه حتى ما أشير إليه من الاستمتاع بمشهد شقائق القمر والذي نتصفحه في قاعدة الهرم بشكل أوضح. لقد بدأت هذه الآلهة نشاطها في فصل الشتاء لتفصح عن خرفها في فصل الخريف حيث امتزج تخريفها الربوبي بخرف الشقائق التي نجحت في فلاحتها. النقطة الإضافية هي أن التماثيل المتحدث عنها في هذه القصيدة ليست تلك التماثيل البريئة المصممة للديكور، بل إنها تشير إلى دور إشراكي شركي ومظهر من مظاهر الزنقدة في وجه الواحد الأحد. وهذا يعني أن تجريد نصف المدينة من أدميته معوض بشكل أسوأ. ألا وهو أن نصف المدينة الأخر المعترف بآدميته يفترض أنه قائم على عبادتها والطواف حول زيفها تقربا إلى تخريف الآلهة المتعددة الجنسيات والتي قلنا أنها قد تم تجريدها من قواها الألوهية والعقلية وبالتالي تقزيمها إلى مجرد جماعة من الفلاحين في إحدى البساتين السماوية هناك على مقربة من كوكب القمر. بهذا تجبرنا القصيدة على الانعطاف نحو المستهدف المضمر من خلال المستهدف المظهر. فما دامت التماثيل لا تقدم ولا تؤخر في الأمر مثقال خردلة فإن المخاطب المضمر هو النصف الآدمي الحي من هذه المدينة. وهكذا تنزل القصيدة تأويليا إلى مستوى الخطاب المباشر لتقل بأن هناك نخبة من المعبودين يجب التخلص من عبادتهم الباطلة. فهم وما يقربونكم إليه زلفى باطلون أجمعون. فلا هؤلاء المعبودون والمسجود لهم من دون الله حقيقيون ولا تلك الآلهة، المتقرب إليها زلفى، من خلال هؤلاء التماثيل، تستحق عبادة. لأنها لم يتبق من دورها الألوهي، بعد أن تم  تقزيمه إلى دركة الدور الفلاحي، إلا باسمك اللهم. وبهذا تدور القصيدة حول موضوع يتجسد في بطلان وراء بطلان إلى ما لا نهاية. تسير القصيدة في منحى تنازلي، من حيث استغلال عناصر المحيط،  كالتالي:

1.   على المستوى الطوبوغرافي:

الألهة

?

القمر

?

البيداء ?المدينة

2.   على المستوى المعنوي:

الآلهة

?

المرح

?

الروح

?

شهوة/ رخامية

تماثيل/ إنسان.

هذا ما دفعني لأتفحص الوضعية التي وردت فيها الشمس لأكتشف أنها لا تشير إلى قرص هذه الأخيرة، رغم الانزياحات المغرقة لدى الشاعرة التي لا يستبعد معها القول بأنها تقصد ذات الشمس، بل تشير إلى القارة ( يجوز أن تكون الإفريقية) التي أحرقتها الشمس. عندما قالت "قارة الشمس" فإن الشاعرة لم تصور هذه الشمس كما لو أنها كوكب مقسم الجهات على القارات. بل تقصد القارة التي أكلتها الشمس. ومن المعلوم أن القارة الإفريقية، على سبيل المثال والتبسيط، تقع معظم أراضيها تحت رحمة الشمس (الحر المفرط). وبالتالي فإن القصيدة، انطلاقا من هذه الإشارة، يجوز أن تصب جام استهدافها على هذه القارة التي تسمى القارة الكسولة، والتي لا عجب أن تحتضن مدينة منشطرة  بين  الأوثان وغيرها ممن بعبدونها من دون خالقهم. في هذه القصيدة يمكن رصد مبدأ تلحيم المنقسم في حرق المراحل بين المواسم المستوحاة. لقد تمكنت الشاعرة من تعميق خطابها الفني في هذه القصيدة من خلال هذا الحرق المتجلي في تسريع الذبذبات الزمنية في النص مما أنتج انزياحا واضحا في التصوير والذي يظهر بأن القصيدة غارقة في الغموض. عندما نوحد بين فصل وأخر مثل الربيع والخريف على سبيل التوضيح  يتبين لنا بأننا أوصلنا في القصيدة بين منفصلين على مستوى المرجع. وإذا لعب هذا التصوير دورا أساسيا في خلق الجملة الفنية من حيث انزياحها عن الجملة العادية فإن ما سيأتي يتفق تماما مع هذه النقطة. إذا بحثنا عن سبب تسريع ذبذبات الزمن النصي، في هذه القصيدة، نجد أنه  يكمن في عكس حالة الشاعرة النفسية  لبطء الزمن المرجعي (الحقيقي) الذي تتكرس فيه الأوضاع المرفوضة لدى الشاعرة. ولهذا يمكن القول بأن تسريع ذبذبات الزمن المؤدي إلى فرز الصورة الفنية في هذه القصيدة يعكس عدم حصول ذلك في الواقع بحيث يؤدي إلى تغيير الأوضاع المملة والمرفوضة. ومع ذلك فقد جاءت الإشارة اللفظية إلى هذا المبدأ من خلال قولها مثلا:

"في مدينة

نصف سكانها تماثيل

تنبض شهوة رخامية"

ففي هذا المقطع نرصد جمعا بين الحيوي والجماد. وهذا يوافق باقي الإشارات المماثلة في قصائدها الأخرى. في قصيدة بعنوان " صلاة الحب الغائب" (2) تقول:

"أراك في وجه القمر

قلادة من نور في جيد العمر"

أثناء الليل حين يشتد السكون والسكينة يكون للشاعر فرصة ليرى ما لم تتيسر رؤيته خلال غبار النهار وجعجعاته . الشاعرة ترى ما ترى في وجه القمر الفارض نفسه على قبة السماء، نتيجة قربه من الأرض والمشاهد المناجي الليلي لكائنات عالمه الخاص. تلك الكائنات التي تحول إليها الإنسان المعتاد عن طريق استبطان محاسنه أو مفاسده إن اقتضى الأمر. بيد أن الشاعرة تنظر إلى القمر لكنها ترى العمر شاخصا مشخصا شامخا وقد استكمل زينة هندامه بقلادة نورانية صارها المخاطب بنفس القدر الذي صار به القدر بشرا. فلولا غاية إعادة التكوين الأمثل للمخاطب في ذات العمر المؤنسن ما تم اختزاله في قلادة حتى وإن كانت نورانية. وفيما يتصل بالجوهر الذي تقوم عليه هذه الدراسة نجد أن تشييء المخاطب عن طريق اختزاله في القلادة النورانية يقابل تأنيس العمر وهذا يعني أن الشاعرة قد جمعت بين المعين والمجرد في هذه الصورة وهما الإنسان والعمر. وهو جمع يعكس ما تستشعره الشاعرة من المرجع الواقعي من شبه العجز عن حسن استغلال هذا العمر.

"تحتسي خمر القدر

تمشط عشب السحاب الأخضر"

كأن الدور الوجداني المتوقع من المخاطب أن يلعبه فيما يأتي غير مسموح بإتمامه على أكمل وجه مادام القدر مادة غير مؤدية إلى الثمالة. ولهذا توجب عليه أن يصبح نبيذا أو منتجا للنبيذ الذي ترى الشاعرة مخاطبها يشربه لكي تصبح خوارقه الشعرنية مبررة أمام جنازير القدر المهيمن على مملكة الواقع المعيش خارج القلب. أصبح المخاطب عمرا كاملا من الفن الشعري بعد أن كان مجرد قلادة قبل إدراجة ضمن القصيدة، فلا ضير أن يصبح شخصية خارج القيد الحيوي لتنفتح على الهوية التشكلية الأوسع للوجود فإذا نحن أمام كائن ذي جنسية كونية واللاكونية معا. هو مواطن للوجود بقدر ما تعكسه  العناصر المشكلة لذاته المشعرنة. وها هي عناصر الكون تتشخصن وتتأنسن أمامه حسب ما يقتضي مقياس الشاعرة الخيالي الفني الذي هو استجابة لماهيات المشعورات الناتجة عن احتكاك العنصر الكوني بالعنصر الوجداني. المخاطب يمشط عشب السحاب (الأخر) بدل أن يمشط شعره استكمالا لترتيب الهندام وقد صار عمرا للشاعرة في هذا الليل المقمر، ولكن ما كان من الجمال أن يمشط شعرا وقد خضع بين ضفتي القصيدة لمبدأ العبور الكلي للحواجز الفاصلة بين البيولوجي و الفيزيائي من جهة، والفاصلة بين المعقول والمخيول من جهة أخرى. لقد كان من الأجمل أن ألا يكون فعل المشط عاكسا لحركة المخاطب فقط بل عليه أن يتضمن عكسا لفعل الشاعرة الشعري وهذا الفعل يتجلى في انتقال شَعر المخاطب إلى عشب السحاب بقدر ما صار السحاب تربة صالحة خصبة لإنبات العشب. وبقدر ما تحول المخاطب نفسه إلى قلادة نورانية في جيد القدر الذي أصبحه فيما بعد. فلو كان الحديث عن مشط الشعر لأصبح هناك تنازل فني شعري بياني عن مبدأ تضمين الفعل الشعري لفعل المخاطب تجاه العناصر التي تشاركه متن القصيدة. 

"ترتق ثوب السهر

تجهض بريق الليل السرمدي

في وجنتي حلم خريفي

تريق

أكواز رضاب السحر

وفي ازدحام الليل

كانت مناكب الظلمة الزرقاء

تتدافع في مآق النجوم الكستنائية"

 

 تابع القسم الثاني من الدراسة

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1287 الخميس 14/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم